ثم حذرهم عقوباته للأمم الذين كذبوا ما جاءتهم به رسلهم ، لئلا يشابهوهم{[309]} فقال : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا } أي : عذابنا الشديد { بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي : في حين غفلتهم ، وعلى غرتهم غافلون ، لم يخطر الهلاك على قلوبهم . فحين جاءهم العذاب لم يدفعوه عن أنفسهم ، ولا أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يرجونهم ، ولا أنكروا ما كانوا يفعلونه من الظلم والمعاصي .
ثم ساق لهم بعد ذلك على سبيل الإنذار والتخويف جانبا من العذاب الذي نزل بمن سبقوهم بسبب ظلمهم وعنادهم فقال - تعالى - :
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } .
كم هنا خبرية بمعنى كثير . وهى في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ، و { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز .
والقرى تطلق على مكان اجتماع الناس . وبأسنا : أى عذابنا وعقابنا . وبياتا : أى ليلا ومنه البيت لأنه يبات فيه . يقال : بات يبيت بيتا وبياتا . وقائلون من القائلة وهى القيلولة وهى نوم نصف النهار . وقيل : هى الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم . ودعواهم ، أى : دعاؤهم واستغاثتهم بربهم أو قولهم .
والمعنى : وكثيراً من القرى الظالمة أردنا إهلاكها ، فنزل على بعضها عذابنا في وقت نوم أهلها بالليل كما حصل لقوم لوط ، ونزل على بعضها في وقت استراحة أهلها بالنهار كما حصل لقوم شعيب ،
يقول تعالى : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : بمخالفة رسلنا وتكذيبهم ، فأعقبهم ذلك خِزْيُ الدنيا موصولا بذُلِّ الآخرة ، كما قال تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ] . وقال تعالى : { فَكَأَيِّنْ{[11546]} مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } [ الحج : 45 ] .
وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [ القصص : 58 ] .
وقوله : { فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي : فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته { بَيَاتًا } أي : ليلا { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } من القيلولة ، وهي : الاستراحة وسط النهار . وكلا الوقتين وقت غَفْلة ولَهْو{[11547]} كما قال [ تعالى ]{[11548]} { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُون أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 97 ، 98 ] . وقال : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِين أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 45 - 47 ] .
عطف على جملة : { ولا تتّبعوا } [ الأعراف : 3 ] وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم . وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم .
وإنّما خُصّ بالذّكر إهلاك القرى ، دون ذكر الأمم كما في قوله : { فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } [ الحاقة : 5 ، 6 ] ، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى ، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل { أهلكنا } بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول ، فهو مغن عن أدوات الشّمول ، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية ، ونظيرها قوله تعالى : { واسأل القرية التي كنا فيها } [ يوسف : 82 ] ونظيرهما معاً قوله : { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون } [ الأنبياء : 6 ] ، فكلّ هذا من الإيجاز البديع ، والمعنى على تقدير المضاف ، وهو تقدير معنى .
وأجرى الضّميران في قوله : { أهلكناها فجاءها بأسنا } على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية ، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصللِ القرب ، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله : { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم } إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية ، وهو { بأسنا بياتاً } لأنّ ( بياتاً ) متحمّل لضمير البأس ، أي مبيِّتاً لهم ، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال : { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم } . و ( كم ) اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام .
والإهلاك : الإفناء والاستئصال . وفعل { أهلكناها } يجوز أن يكون مستعملاً في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملاً في ظاهر معناه .
والفاء في قوله : { فجاءها بأسنا } عاطفة جملة : { فجاءها بأسنا } على جملة : { أهلكناها } ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه ، ولما كان مجيء البأس حاصلاً مع حصول الإهلاك أو قبلَه ، إذ هو سبب الإهلاك ، عسر على جمع من المسفّرين معنى موقع الفاء هنا ، حتّى قال الفرّاء إنّ الفاء لا تفيد التّرتيب مطلقاً ، وعنه أيضاً إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدّمت أيّهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني . وعن بعضهم أنّ الكلام جرى على طريقة القلب ، والأصل : جاءها بأسنا فأهلكناها ، وهو قلب خلي عن النّكتة فهو مردود ، والذي فسّر به الجمهور : أنّ فعل ( أهلكناها ) مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم } [ النحل : 98 ] وقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية أي فإذا أردت القراءة ، وإذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال : ومن أمثلة المجاز قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] استعمل { قرأت } مكان أردت القراءة لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالاً مجازياً بقرينة الفاء في { فاستعذ بالله } ، وقولُه : { وكم من قرية أهلكناها } في موضع أردنا إهلاكها بقرينة { فجاءها بأسنا } والبأس الإهلاك .
والتّعبير عن إرادة الفعل بذكر الصّيغة التي تدلّ على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل ، عزماً لا يتأخّر عنه العمل ، بحيث يستعار اللّفظ الدّال على حصول المراد ، للإرادة لتشابههما ، وإمّا الإتيان بحرف التّعقيب بعد ذلك فللدّلالة على عدم التّريّث ، فدلّ الكلام كلّه : على أنّه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل ، كلّ ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة ، وقد استفيد هذا التّقارن بالتّعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل ، والتّعبير عن حصول السّبب بحرف التّعقيب ، والغرض من ذلك تهديد السّامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحلّ غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم ، فضيَّقَ عليهم المهلّة لئلا يتباطأوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة . والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيبَ الذكريّ ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه . ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك ، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال ، فيكون من عطف المفصّل على المجمل ، وبذلك سمّاه ابن مالك في « التّسهيل » ، ومثَّل له بقوله تعالى : { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عُرباً } [ الواقعة : 35 ، 37 ] الآية . ومنه قوله تعالى : { ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } [ الزمر : 72 ] أو قوله { فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } [ البقرة : 36 ] لأنّ الإزلال عن الجنّة فُصل بأنّه الإخراج ، وقوله تعالى : { كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر } [ القمر : 54 ] وهذا من أساليب الإطناب وقَد يغفل عنه .
والبأس ما يحصل به الألم ، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء ، وقد مضى عند قوله تعالى : { والصّابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس } في سورة البقرة ( 177 ) ، والمراد به هنا عذاب الدّنيا .
واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيهاً لحُلول الشّيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقُّل خطواته ، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا في سورة الأنعام ( 43 ) .
والبيات مصدر بَات ، وهو هنا منصوب على الحال من البأس ، أي جاءهم البأس مبَيِّتا لهم ، أي جاءهم ليلاً ، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلاً ، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب ، هي أشدّ على المغزوّ ، فكان ترشيحاً للاستعارة التّمثيليّة ، ويجوز أن يكون { بياتاً } منصوباً على النّيابة عن ظرف الزّمان أي في وقت البيات .
وجملة { هم قائلون } حال أيضاً لعطفها على { بياتاً } بأو ، وقد كفى هذا الحرفُ العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال ، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسَن ، كما قال في « الكشاف » ، وهو متابع لعبد القاهر .
وأقول : إنّ جملة الحال ، إذا كانت جملة اسميّة ، فإمّا أن تكون منحلّة إلى مفردين : أحدهما وصف صاحب الحال ، فهذه تَجَرّدُها عن الواو قبيح ، كما صرّح به عبد القاهر وحقّقه التفتزاني في « المطوّل » ، لأنّ فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة ، نحو جاءني زيد هو فارس ، إذ يغني أن تقول : فارساً .
وأمّا إذا كانت الجملة اسميّة فيها زيادة على وصف صاحب الحال ، وفيها ضمير صاحب الحال ، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى : { قلنا اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ } [ طه : 123 ] فإنّ هذه حالة لكلا الفريقين ، وهذا التّحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله : { بعضكم لبعض عدوّ } [ طه : 123 ] وقولهم ، في المثال : جاءني زيد هو فارس ، وهو خير ممّا أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة « المفتاح » وعبارة ابن الحاجب فتأمّله . وعُلّل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد .
و ( أو ) لِتقسيم القُرى المهلَكة : إلى مهلكة في اللّيل ، ومهلّكة في النّهار ، والمقصود من هذا التّقسيم تهديد أهل مكّة حتّى يكونوا على وجل في كلّ وقت لا يدرون متى يحلّ بهم العذاب ، بحيث لا يأمنون في وقت مَّا .
ومعنى : { قائلون } كائنون في وقت القيلولة ، وهي القائلة ، وهي اسم للوقت المبتدىء من نصف النّهار المنتهي بالعصر ، وفعله : قال يقيل فهو قائل ، والمقيل الرّاحة في ذلك الوقت ، ويطلق المقيل على القائلة أيضاً .
وخصّ هذان الوقتان من بين أوقات اللّيل والنّهار : لأنّهما اللّذان يطلب فيهما النّاس الرّاحة والدعة ، فوقوع العذاب فيهما أشدّ على النّاس ، ولأنّ التّذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذّبين تخيَّل نعيمَ الوقتين .
والمعنى : وكم من أهلِ قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم ، فكونوا يا معشر أهل مكّة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنّكم وإياهم سواء .