قال تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذا جزاء لهم ، على استهزائهم بعباده ، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة ، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين ، لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم ، ومن استهزائه بهم يوم القيامة ، أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا ، فإذا مشي المؤمنون بنورهم ، طفئ نور المنافقين ، وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين ، فما أعظم اليأس بعد الطمع ، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ } الآية .
قوله : { وَيَمُدُّهُمْ } أي : يزيدهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } أي : فجورهم وكفرهم ، { يَعْمَهُونَ } أي : حائرون مترددون ، وهذا من استهزائه تعالى بهم .
ثم بين - سبحانه - موقفه منهم فقال : { الله يَسْتَهْزِىءُ } .
حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يتعجب منه ، وهذا المعنى غير مستحيل على الله ، فيصح إسناده إليه - تعالى - على وجه الحقيقة .
ويرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشيء وهو في الواقع غير حسن ، أو يقر المستهزأ به على أمر غير صواب ، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله ، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه تعالى على معنى يليق بجلاله ، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام والعقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم ، وسمى ذلك استهزاء على سبيل المشاكلة كما في قوله تعالى :
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين ، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم
. وعبر بالمضارع في قوله { يَسْتَهْزِىءُ } للإِيذان بأن احتقاره لهم ، أو مجازاتهم على استهزائهم يتجدد ويقع المرة بعد الأخرى ؛ ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان غضبه عليهم فقال : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
المد : الإمهال والمطاولة والزيادة ، من المد بمعنى الإِمهال ، يقال : مده في غيه - من باب رد - أمهله وطول له ، ويقال : مد الجيش وأمده إذا ألحق به ما يقويه ويكثره ويزيده ، وقيل : أكثر ما يستعمل المد في المكروه ، والإِمداد في المحبوب ، والطغيان : مجاوزة الحد ، ومنه طغا الماء ، أي : ارتفع .
ويعمهون : يعمون عن الرشد ، أو يتحيرون ويترددون بين الإِظهار والإِخفاء ، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإِيمان . يقال : عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تردد وتحير ، فهو عمه وعامه ، وهم عمهون وعمه كركع والمعنى : أن الله تعالى يجازي هؤلاء المنافقين على استهزائهم وخداعهم ، ويمكنهم من المعاصي أو يملري لهم ليزدادوا إثماً . حال كونهم يعمون عن الرشد ، فلا يبصرون الحق حقاً ولا الباطل باطلا .
وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
وقال{[1283]} ابن جرير : أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة ، في قوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الآية [ الحديد : 13 ] ، وقوله تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] . قال : فهذا وما أشبهه ، من استهزاء الله ، تعالى ذكره ، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين ، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ، ومتأول هذا التأويل .
قال : وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه ، والكفر به .
قال : وقال آخرون : هذا وأمثاله على سبيل الجواب ، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به : أنا الذي خدعتك . ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه ، قالوا : وكذلك قوله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] و { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } على الجواب ، والله
لا يكون منه المكر ولا الهزء ، والمعنى : أن المكر والهُزْء حَاق بهم .
وقال آخرون : قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } وقوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، وقوله { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] و { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] وما أشبه ذلك ، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم{[1284]} جَزَاءَ الاستهزاء ، ويعاقبهم{[1285]} عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وقوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] ، فالأول ظلم ، والثاني عدل ، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما .
قال : وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك .
قال : وقال آخرون : إن معنى ذلك : أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا : إنا معكم على دينكم ، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما يظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد ، عليه السلام ، وما جاء به مستهزئون ؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا ، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة ، يعني من العذاب والنكال{[1286]} .
ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره ؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله ، عز وجل ، بالإجماع ، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك .
قال : وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } قال : يسخر بهم للنقمة منهم .
وقوله تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال السدي : عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن أناس{[1287]} من الصحابة [ قالوا ]{[1288]} يَمدهم : يملي لهم .
قال ابن جرير : والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم ، كما قال : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .
والطغيان : هو المجاوزة في الشيء . كما قال : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } [ الحاقة : 11 ] ، وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في كفرهم يترددون .
وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة ، وبه يقول أبو العالية ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس ، ومجاهد ، وأبو مالك ، وعبد الرحمن بن زيد : في كفرهم وضلالتهم .
قال ابن جرير : والعَمَه : الضلال ، يقال : عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا : إذا ضل .
قال : وقوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } في ضلالهم{[1289]} وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه ، وعَلاهم رجْسه ، يترددون [ حيارى ]{[1290]} ضُلالا{[1291]} لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رُشْدًا ، ولا يهتدون سبيلا .
[ وقال بعضهم : العمى في العين ، والعمه في القلب ، وقد يستعمل العمى في القلب - أيضا - : قال الله تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ويقال : عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه ، وجمعه عمّه ، وذهبت إبله العمهاء : إذا لم يدر أين ذهبت{[1292]} .
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )
اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء فقال جمهور العلماء : «هي تسمية العقوبة باسم الذنب »( {[256]} ) . والعرب تستعمل ذلك كثيراً ، ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كلثوم ] : [ الوافر ] .
ألا لا يجهلنْ أحد علينا . . . فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال قوم : إن الله تعالى يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البشر هزو( {[257]} ) حسبما يروى أن النار تجمدت كما تجمد الإهالة( {[258]} ) فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم ، وما يروى أن أبواب النار تفتح لهم فيذهبون إلى الخروج( {[259]} ) ، نحا هذا المنحى( {[260]} ) ابن عباس والحسن ، وقال قوم : استهزاؤه بهم هو استدارجهم من حيث لا يعلمون( {[261]} ) ، وذلك أنهم بدرور نعم الله الدنيوية عليهم يظنون أنه راض عنهم وهو تعالى قد حتم عذابهم ، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء .
{ ويمدهم } معناه يزيدهم في الطغيان . وقال مجاهد : «معناه يملي لهم » ، قال يونس بن حبيب : «يقال مد في الشر وأمد في الخير »( {[262]} ) وقال غيره : «مد الشيء ومده ما كان مثله ومن جنسه( {[263]} ) ، وأمدّه ما كان مغايراً له ، تقول : مدّ النهر ومدّه نهر آخر ، ويقال أمدّه » .
قال اللحياني : «يقال لكل شيء دخل فيه مثله فكثره مده يمده مدّاً ، وفي التنزيل : { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر }( {[264]} ) [ لقمان : 27 ] . ومادة الشيء ما يمده دخلت فيه الهاء للمبالغة » .
قال ابن قتيبة وغيره : «مَدَدْت الدواة وأمَددْتُها بمعنى » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : يشبه أن يكون «مددتها » جعلت إلى مدادها آخر ، و «أمددتها » جعلتها ذات مداد ، مثل «قبر ، وأقبر ، وحصر ، وأحصر » ، ومددنا القوم صرنا لهم أنصاراً ، وأمددناهم بغيرنا . وحكى اللحياني أيضاً أمدّ الأمير جنده بالخيل ، وفي التنزيل : { وأمددناكم بأموال وبنين }( {[265]} ) [ الإسراء : 6 ] .
قال بعض اللغويين : { ويمدهم في طغيانهم } يمهلهم ويلجهم( {[266]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فتحتمل اللفظة أن تكون من المد الذي هو المطل والتطويل( {[267]} ) ، كما فسر في : { عمد ممددة } [ الهمزة : 9 ] . ويحتمل أن تكون من معنى الزيادة في نفس الطغيان ، والطغيان الغلو وتعدي الحد كما يقال : «طغا الماء وطغت النار » . وروي عن الكسائي إمالة طغيانهم .
و { يعمهون } يترددون ، حيرة ، والعمه الحيرة من جهة النظر ، والعامه الذي كأنه لا يبصر من التحير في ظلام أو فلاة أو هم .