3- حرَّم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل لحم الميتة - وهي كل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي - ، وأكل الدم السائل ، ولحم الخنزير ، وما ذكر اسم غير الله عليه عند ذبحه ، وما مات خنقاً ، أو التي ضربت حتى ماتت ، وما سقط من علو فمات ، وما مات بسبب نطح غيره له ، وما مات بسبب أكل حيوان مفترس منه . وأما ما أدركتموه وفيه حياة مما يحل لكم أكله وذبحتموه فهو حلال لكم بالذبح . وحرَّم الله عليكم ما ذبح قربة للأصنام ، وحرم عليكم أن تطلبوا معرفة ما كتب في الغيب بواسطة القرعة بالأقداح . وتناول شيء مما سبق تحريمه ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله . ومن الآن انقطع رجاء الكفار في القضاء على دينكم ، فلا تخافوا أن يتغلبوا عليكم ، واتقوا مخالفة أوامري . اليوم أكملت لكم أحكام دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي بإعزازكم وتثبيت أقدامكم ، واخترت لكم الإسلام ديناً . فمن ألجأته ضرورة جوع إلى تناول شيء من المحرمات السابقة ففعل لدفع الهلاك عن نفسه غير منحرف إلى المعصية ، فإن الله يغفر للمضطر ما أكل ، دفعاً للهلاك ، وهو رحيم به فيما أباح له{[49]} .
{ 3 ْ } { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ }
هذا الذي حولنا الله عليه في قوله : { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ } واعلم أن الله تبارك وتعالى لا يحرّم ما يحرّم إلا صيانة لعباده ، وحماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات ، وقد يبين للعباد ذلك وقد لا يبين .
فأخبر أنه حرم { الْمَيْتَة ْ } والمراد بالميتة : ما فُقِدَت حياتُهُ بغير ذكاة شرعية ، فإنها تحرم لضررها ، وهو احتقان الدم في جوفها ولحمها المضر بآكلها . وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلاكها ، فتضر بالآكل .
ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك ، فإنه حلال .
{ وَالدَّمَ ْ } أي : المسفوح ، كما قيد في الآية الأخرى . { وَلَحْم الْخِنْزِيرِ ْ } وذلك شامل لجميع أجزائه ، وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من السباع ، لأن طائفة من أهل الكتاب من النصارى يزعمون أن الله أحله لهم . أي : فلا تغتروا بهم ، بل هو محرم من جملة الخبائث .
{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ْ } أي : ذُكر عليه اسم غير الله تعالى ، من الأصنام والأولياء والكواكب وغير ذلك من المخلوقين . فكما أن ذكر الله تعالى يطيب الذبيحة ، فذكر اسم غيره عليها ، يفيدها خبثا معنويا ، لأنه شرك بالله تعالى .
{ وَالْمُنْخَنِقَةُ ْ } أي : الميتة بخنق ، بيد أو حبل ، أو إدخالها رأسها بشيء ضيق ، فتعجز عن إخراجه حتى تموت .
{ وَالْمَوْقُوذَةُ ْ } أي : الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة ، أو هدم شيء عليها ، بقصد أو بغير قصد .
{ وَالْمُتَرَدِّيَةُ ْ } أي : الساقطة من علو ، كجبل أو جدار أو سطح ونحوه ، فتموت بذلك .
{ وَالنَّطِيحَةُ ْ } وهي التي تنطحها غيرها فتموت .
{ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ْ } من ذئب أو أسد أو نمر ، أو من الطيور التي تفترس الصيود ، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع ، فإنها لا تحل .
وقوله : { إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ْ } راجع لهذه المسائل ، من منخنقة ، وموقوذة ، ومتردية ، ونطيحة ، وأكيلة سبع ، إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها ، ولهذا قال الفقهاء : { لو أبان السبع أو غيره حشوتها ، أو قطع حلقومها ، كان وجود حياتها كعدمه ، لعدم فائدة الذكاة فيها ْ } [ وبعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة فإذا ذكاها وفيها حياة حلت ولو كانت مبانة الحشوة وهو ظاهر الآية الكريمة ]{[252]}
{ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ْ } أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام . ومعنى الاستقسام : طلب ما يقسم لكم ويقدر بها ، وهي قداح ثلاثة كانت تستعمل في الجاهلية ، مكتوب على أحدها " افعل " وعلى الثاني " لا تفعل " والثالث غفل لا كتابة فيه .
فإذا هَمَّ أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما ، أجال تلك القداح المتساوية في الجرم ، ثم أخرج واحدا منها ، فإن خرج المكتوب عليه " افعل " مضى في أمره ، وإن ظهر المكتوب عليه " لا تفعل " لم يفعل ولم يمض في شأنه ، وإن ظهر الآخر الذي لا شيء عليه ، أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل به . فحرمه{[253]} الله عليهم ، الذي في هذه الصورة وما يشبهه ، وعوضهم عنه بالاستخارة لربهم في جميع أمورهم .
{ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ْ } الإشارة لكل ما تقدم من المحرمات ، التي حرمها الله صيانة لعباده ، وأنها فسق ، أي : خروج عن طاعته إلى طاعة الشيطان .
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ }
واليوم المشار إليه يوم عرفة ، إذ أتم الله دينه ، ونصر عبده ورسوله ، وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا ، بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم ، طامعين في ذلك .
فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره ، يئسوا كل اليأس من المؤمنين ، أن يرجعوا إلى دينهم ، وصاروا يخافون منهم ويخشون ، ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع - لم يحج فيها مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .
ولهذا قال : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ْ } أي : فلا تخشوا المشركين ، واخشوا الله الذي نصركم عليهم وخذلهم ، ورد كيدهم في نحورهم .
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ْ } بتمام النصر ، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة ، الأصول والفروع ، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية ، في أحكام الدين أصوله وفروعه .
فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة ، من علم الكلام وغيره ، فهو جاهل ، مبطل في دعواه ، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه ، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله .
{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ْ } الظاهرة والباطنة { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ْ } أي : اخترته واصطفيته لكم دينا ، كما ارتضيتكم له ، فقوموا به شكرا لربكم ، واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها .
{ فَمَنِ اضْطُرَّ ْ } أي : ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات السابقة ، في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ْ } { فِي مَخْمَصَةٍ ْ } أي : مجاعة { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ْ } أي : مائل { لِإِثْمٍ ْ } بأن لا يأكل حتى يضطر ، ولا يزيد في الأكل على كفايته { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ } حيث أباح له الأكل في هذه الحال ، ورحمه بما يقيم به بنيته من غير نقص يلحقه في دينه .
ثم شرع - سبحانه - في بيان المحرمات التي أشار إليها قبل ذلك بقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } فبين ما يحرم أكله من الحيوان لأسباب معينة فقال - تعالى - :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم . . . }
في هذه المحرمات يتلى في قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } . .
والميتة كما يقول ابن جرير - كل ما له نفس - أي دم ونحوه - سائلة من دواب البر وطيره ، مما أباح الله أكلها . أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية .
وقال : بعضهم : الميتة : هو كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير تذكية شرعية ، مما أحل الله أكله " أي : حرم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل الميتة لخبث لحمها ، ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها .
وقد أجمع العلماء على حرمة أكل الميتة ، أما شعرها وعظمها فقال الأحناف بطارتهما وبجواز الانتفاع بهما . وقال الشافعية بنجاستهما وبعدم جواز استعمالهما .
وقد استثنى العلماء من الميتة المحرمة السمك والجراد . فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد " .
وفيهما - أيضاً - من حديث جابر ، " إن البحر ألقى حوتاً ميتاً فأكل منه الجيش . فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : فقال : " كلوا رزقاً أخرجه الله لكم : أطعمونا منه إن كان معكم . فأتاه بعضهم بشيء منه " .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال " .
وثاني هذه المحرمات ما ذكره - سبحانه - في قوله : { والدم } أي : وحرم عليكم أكل الدم .
والمراد به : الدم المسفوح . أي السائل من الحيوان عند التذكية . لقوله - تعالى - في آية أخرى { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } وهي خاصة . والآية التي معنا عامة . والخاص مقدم على العام .
وكان أهل الجاهلية يجعلونه في الماعز ويشوونه ويأكلونه ، فحرمه الله - تعالى - لأنه يضر الأجسام . أما الدم الذي يكون جامداً بأصل خلقته كالكبد والطحال فإنه حلال كما جاء في حديث ابن عمر الذي سقناه منذ قليل .
وثالث هذه المحرمات ما جاء في قوله - تعالى - { وَلَحْمُ الخنزير } أي : وحرم عليكم لحم الخنزير وكذلك شحمه وجلده وجميع أجزائه ، لأنهن مستقذر تعافه الفطرة ، وتتضرر به الأجسام .
وخص لحم الخنزير بالذكر مع أن جميع أجزائه محرمة لأنه هو المقصود بالأكل قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { وَلَحْمُ الخنزير } يعني إنسيه ووحشية ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم . كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد . . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود . ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا . هو حرام : ثم قال : قاتل الله اليهود . إن الله لما حرم شحومها جملوه - أي أذابوه - ثم باعوه فأكلوا ثمنه " .
ورابع هذه المحرمات بينه - سبحانه - بقوله : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } .
الإِهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً . ومنه : إهلال الصبي أي : صراخه بعد ولادته ، والإِهلال بالحج أي رفع الصوت بالتلبية .
وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم ، سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمي ذلك إهلالا . ثم توسع فيه فقيل لكل ذابح : مهل سمي أو لم يسم . جهر بالتسمية أو لم يجهر .
والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح فذكر عليه عند ذبحه غير اسم الله - تعالى - سواء اقتصر على ذكر غيره كقوله عند الذبح باسم الصنم فلان ، أو باسم المسيح أو عزير أو فلان ، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف عليه كقوله : باسم الله واسم فلان .
أما إذا جمع الذابح بين اسم الله واسم غيره بدون عطف بأن قال : باسم الله المسيح نبي الله ، أو باسم الله محمد رسول الله ، فالأحناف يجوزون الأكل من الذبيحة ويعتبرون ذكر غير الله كلاماً مبتدأً بخلاف العطف فإنه يكون نصا في ذكر غير الله .
وجمهور العلماء يحرمون الأكل من الذبيحة متى ذكر مع اسم الله آخر سواء أكان ذلك بالعطف أو بدونه .
وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً والتحريم هنا ليس لذات الحيوان ، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله - تعالى -
ثم ذكر - سبحانه - أربعة أنواع أخرى من المحرمات فقال : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة } .
والمنخنقة : هي التي تموت خنقاً إما قصداً بأن يخنقها آدمي . وإما اتفاقاً بأن يعرض لها من ذاتها ما يخنقها .
والموقوذة : هي التي تضرب بمثقل غير محدد كخشب أو حجر حتى تموت وكانوا في الجاهلية يضربون البهيمة بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها .
والوقذ : شدة الضرب . وفلان وقيذ أي : مثخن ضرباً . ويقال : وقذه يقذه وقذا : ضربه ضرباً حتى استرخى وأشرف على الموت .
قال القرطبي : وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال " قلت يا رسول الله فإني أرمي الصيد فأصيب ؟ - والمعراض : وهو سهم يرمى به بلا ريش وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا رميت بالمعراض فخزق - أي نفذ وأسال الدم - فكله . وإن أصاب بعرضه فلا تأكله " .
والمتردية : هي التي تتردى أي : تسقط من أعلى إلى أسفل فتموت من التردي مأخوذ من الردى بمعنى الهلاك سواء تردت بنفسها أم رداها غيرها .
والنطيحة : هي التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح يقال : نطحه ينطحه وينطحه أي أصابه بقرنه .
والمعنى : وحرم الله عليكم كذلك - أيها المؤمنون - الأكل من المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، إذا ماتت كل واحدة من هذه الأنواع لهذه الأسباب دون أن تذكوها ذكاة شرعية ، لأن الأكل منها في هذه الحالة يعود عليكم بالضرر .
وتاسع هذه المحرمات ذكره - سبحانه - في قوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } .
المراد بالسبع كل ذي ناب وأظفار من الحيوان . كالأسد والنمر والذئب ونحوها من الحيوانات المفترسة .
وقوله { ذَكَّيْتُمْ } من التذكية وهي الإتمام . يقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها .
والمراد هنا : إسالة الدم وفرى الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور .
والمعنى : وحرم عليكم - أيضاً - الأكل مما افترسه السبع حتى مات سواء أكل منه أم لم يأكل ، إلا ما أدركتموه من هذه الأنواع وقد بقيت فيه حياة يضرب معها اضطراب المذبوح وذكيتموه أي ذبحتموه ذبحا شرعياً : فإنه في هذه الحالة يحل لكم الأكل منه . فقوله { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } الاستثناء هنا يرجع إلى هذه الأنواع الخمسة .
وقيل : إن الاستثناء هنا مختص بقوله : { وَمَآ أَكَلَ السبع } .
أي : وحرم عليكم ما أكل السبع بعضه فمات بسبب جرحه ، إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه ذكاة شرعية فإنه في هذه الحالة يحل الأكل منه ، والأول أولى ، لأن هذه الأنواع الخمسة تشترك في أنها تعلقت بها أحوال قد تفضي بها إلى الهلاك ، فإن هلكت بتلك الأحوال لم يبح أكلها لأنها حينئذ ميتة ، وإذا أدركت بالذكاة في وقت تنفع فيه الذكاة لها جاز الأكل منها .
أما النوع العاشر في هذه المحرمات فيتجلى في قوله - تعالى - { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } والنصب : جمع نصاب : ككتب وكتاب . أو جمع نصب كسقف وسقف . ويصح أن يكون لفظ النصب واحداً وجمعه أنصاب مثل : طنب أطناب .
وعلى كل فهي حجارة كان الجاهليون ينصبونهها حول الكعبة ، وكان عددها ثلاثمائة وستين حجراً ، وكانوا يذبحون عليها قرابينهم التي يتقربون بها إلى أصنامهم . ويعتبرون الذبح أكثر قربة إلى معبوداتهم متى تم على هذه النصب . وليست هذه النصب هي الأوثان ، فإن النصب حجارة غير منقوشة بخلاف الأوثان فإنها حجارة مصورة منقوشة .
والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تأكلوا مما ذبح على النصب لأنه لم يتقرب به إلى الله ، وإنما تقرب به إلى الأصنام وما تقرب به إلى غير الله فهو فسق ورجس يجب البعد عنه .
هذه عشرة أنواع من المأكولان حرمت الآية الكريمة الأكل منها ، لما اشتملت عليه من مضرة وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن وأذى ، ولما صاحب بعضها من تقرب لغير الله ، ويكفى لتجنب الأكل من هذه المطعومات أن الله - تعالى - قد حرمها ، لأنه - سبحانه - لا يحرم الخبائث .
ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن يقف عند ما أحله الله - تعالى - وحرم .
ثم ذكر - سبحانه - نوعا من الأفعال المحرمة ، بعد ذكره لعشرة أنواع من المطاعم المحرمة فقال : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } .
وإنما ذكر - سبحانه - هذا الفعل المحرم مع جملة المطاعم المحرمة ، لأنه مما ابتدعه أهل الجاهلية ؛ كما ابتدعوا ما ابتدعوه في شأن المطاعم .
والاستقسام : طلب معرفة ام قسم للإِنسان من خير أو شر .
والأزلام : قداح الميسر واحدها زلم - بفتح اللام وبفتح الزاي أو ضمها - وسميت قداح الميسر بالأزلام ، لأنها زلمت أي سويت ، ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة ، إذا كان جيد القد ، جميل القوام .
وكان لأهل الجاهلية طرق للاستقسام بالأزلام من أشهرها : أنه كانت لديهم سهام مكتوب على أحدها : أمرني ربي وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل من الكتابة ، فإذا أرادوا سفراص أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها فإن خرج الآمر أقدموا على ما يريدونه وإن خرج الناهي امسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي .
والمعنى : وحرم عليكم - سبحانه - أن تطلبوا معرفة ما قسم لكم في سفر أو غزو أو زواج أو ما يشبه ذلك بواسطة الأزلام ، لأن هذا الفعل فسق ، أي : خروج عن أمر الله وطاعته .
فاسم الإِشارة " ذلكم " يعود إلى الاستقسام بالأزلام خاصة . ويجوز أن يعود إليه وإلى تناول ما حرم عليهم .
قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله . لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا " .
وثبت في الصحيحين أيضاً " أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين : قال فاستقسمت بالأزلام . هل أضرهم أولا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال : فعصيت الأزلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك " .
فإن قيل إن الاستقسام بالأزلام هو لون من التفاؤل ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن فلم صار فسقاً ؟
فالجواب أن هناك فرقا واسعاً بين الاستقسام بالأزلام وبين الفأل ؛ فإن الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس وتنشرح للعمل مع رجاء الخير منه بخلاف الاستقسام بالأزلام فإن القوم كانوا يستقسمون بالأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام بإرشاد من الأصنام فلهذا كان الاستقسام بها فسقا وخروجا عن طاعة الله .
وفضلا عن هذا فإن الاستقسام بالأزلام طلب لمعرفة علم الغيب الذي استأثر الله به ، وذلك حرام وافتراء على الله - تعالى - .
وإلى هنا تكون الآية الكريمة قد ذكرت أحد عشر نوعاً من المحرمات عشرة منها تتعلق بالمأكولات ، وواحدا يتعلق بالأفعال .
وهناك مطعومات أخرى جاء تحريمها عن طريق السنة النبوية ، كتحريمه صلى الله عليه وسلم الأكل من لحوم الحمر الأهلية .
وبعد أن بين - سبحانه - هذه الأنواع من المحرمات التي حرمها على المؤمنين رحمة بهم ، ورعاية لهم ، أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم ، وأمرهم بأن يجعلوا خشيتهم منه وحده ، فقال - تعالى - : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .
وقوله { اليوم } ظرف منصوب على الظرفية بقوله { يَئِسَ } والألف واللام فيه للعهد الحضوري ، فيكون المراد به يوماً معيناً وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع .
ويصح أن لا يكون المراد به يوما بعينه ، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية .
وقد حكى الإِمام الرازي هذين الوجهين فقال ما ملخصه : وقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } فيه قولان :
الأول : أنه ليس المراد به ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان أي لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ، ونظيره قوله : كنت بالأمس شابا واليوم قد صرت شيخاً . لا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ، ولا باليوم يومك الذي أنت فيه .
الثاني : أن المراد به يوم نزول هذه الآية . وقد " نزلت يوم الجمعة من يوم عرفة بعد العصر في عام حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء " .
وقوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } أي انقطع رجاؤهم في التغلب عليكم ، وفي إبطال أمر دينكم . وفي صرف الناس عنه بعد أن دخلوا فيه أفواجاً وبعد أن صار المشركون مهقورين لكم . أذلة أمام قوتكم . وما دام الأمر كذلك { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } أي : فلا تجعلوا مكاناً لخشية المشركين في قلوبكم فقد ضعفوا واستكانوا ، بل اجعلوا خشيتكم وخوفكم وهيبتكم من الله وحده الذي جعل لكم الغلبة والنصر عليهم .
ثم عقب ذلك - سبحانه - بيان أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة الإِسلامية فقال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } .
أي ؛ اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي ، ونصري لكم على أعدائكم وتمكيني إياكم من أداء فريضة الحج دون أن يشارككم في الطواف بالبيت أحد من المشركين .
وأتممت عليكم نعمتي ، بأن أزلت دولة الشرك من مكة ، وجعلت كلمتكم هي العليا وكلمة أعدائكم هي السفلى ، ورضيت لكم الإِسلام دينا ، بأن اخترته لكم من بين الأديان . وجعلته الدين المقبول عندي ، فيجب عليكم الالتزام بأحكامه وآدابه وأوامره ونواهيه قال - تعالى - : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } وليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصاً قبل اليوم ثم أكمله ، وإنما المراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتاً في علم الله قابلا للنسخ . ولكنها اليوم كملت وصارت مؤبدة وصالحة لكل زمان ومكان ، وغير قابلة للنسخ ، وقد بسط هذا المعنى كثير من المفسرين فقال الإِمام الرازي : قال القفال : إن الدين ما كان ناقصا البتة بل كان أبداً كاملا . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه - تعالى - كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة . فالشرع أبداً كان كاملا . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
وقال القرطبي ما ملخصه : لعل قائلا يقول : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات . وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار . قبل نزول هذه الآية - ماتوا على دين ناقص . ومعلوم أن النقص عيب ؟
فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها . . ؟ لا شك أن هذا النقصان ليس بعيب .
وقوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يخرج على وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصاً عما كان عند الله أنه ملحقه به ، وضامه إليه . . وهكذا شرائع الإِسلام شرعها الله شيئاً فشيئاً إلى أن أنهى - سبحانه - الدين منتهاه الذي كان له عنده .
وثانيهما : أنه أراد بقوله { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا فاستجمع لهم الدين أداء أركانه ، وقياما بفرائضه وفي الحديث :
" بني الإِسلام على خمس " وقد كانوا تشهدوا ، وصلوا ، وزكوا ، وصاموا ، وجاهدوا ، واعتمروا ، ولم يكونوا حجوا ، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله وهم بالموقف عشية عرفة { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أي : أكمل وضعه لهم .
وقد روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : " جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال وأي آية ؟ قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة " .
وروى أنها " لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى عمر ، فقال له ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة في ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " صدقت " " .
وبعد أن ذكر - سبحانه - في صدر الآية أحد عشر نوعا من المحرمات ، وأتبع ذلك ببيان إكمال الذين وإتمام النعمة على المؤمنين . جاء ختام الآية لبيان حكم المضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فقال - تعالى - : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وقوله { اضطر } من الاضطرار بمعنى الوقوع في الضرورة .
والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع الشديد . يقال خمصه الجوع خمصا ومخمصة .
إذا اشتد به . وفي الحديث : " إن الطير تغدو خماصاً - أي جياعا ضامرات البطون - وتروح بطانا - أي مشبعات " وقال الأعشى :
يبيتون في المشتى ملاءً بطونهم . . . وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا
أي : وجاراتهم جوعى وقد ضمرت بطونهن من شدة الجوع .
وقوله { مُتَجَانِفٍ } من الجنف وهو الميل ، يقال : جنف عن الحق - كفرح - إذا مال عنه وجنف عن طريقه - كفرح وضرب - جنفاً وجنوفاً إذا مال عنه .
والمعنى : فمن ألجأته الضرورة إلى كل شيء من هذه المحرمات في مجاعة شديدة حالة كونه غير مائل إلى ارتكاب إثم من الآثام فلا ذنب عليه في ذلك لأن الله - تعالى - واسع المغفرة .
فهو بكرمه يغفر لعباده تناول ما كان محرما إذا اضطروا إلى تناوله لدفع الضرورة بدون بغي أو تعد ، وهو واسع الرحمة حيث أباح لهم ما يدفع عنهم الضرر ولو كان محرما .
قال الآلوسي : وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائداً على ما يمسك رمقه فإن ذلك حرام . وقيل : يجوز أن يشبع عند الضرورة . وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغياً أو عادياً بأن ينزعها من مضطر آخر أو خارجاً في معصية .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت ما يحرم في حالة الاختيار ، وما يحل في حالة الاضطرار .
وجاءت بين ذلك بجمل معترضة - وهي قوله { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } إلى قوله : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } لتأكيد تحريم هذه الأشياء ، لأن تحريمها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإِسلام المرضى عند الله .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة ما يأتي :
1 - حرمة هذه الأنواع الأحد عشر التي ذكرها الله - تعالى - في هذه الآية ووجوب الابتعاد عنها لأنها رجس أو فسق ، ولأن استحلال شيء منها يكون خروجا عن تعاليم دين الله ، وانتهاكا لحرماته .
2 - حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، متى ذبحت ذبحاً شرعياً وكانت بها بقية حياة تجعلها تضطرب بعد ذبحها اضطراب المذبوح .
وللفقهاء كلام طويل في ذلك يؤخذ منه اتفاقهم على أن الخنق وما معه إذا لم يبلغ بالحيوان إلى درجة اليأس من حياته بأن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه الحالة كانت الذكاة محللة له . أما إذا غلب على الظن أنه يهلك بما حصل له بسبب الخنق أو الوقذ أو التردي أو النطح أو أكل السبع منه ، فقد أفتى كثير من العلماء بعمل الذكاة فيه ، وقد أخذ بذلك الأحناف . فقد قالوا : متى كانت عينه أو ذنبه يتحرك أو رجله ترك ثم ذكى فهو حلال .
وقال قوم لا تعمل الذكاة فيه ويحرم أكله .
ومنشأ اختلافهم في أن الذكاة تعمل أولا تعمل يعود إلى : هل الاستثناء هن متصل أو منقطع ؟
فمن قال إنه متصل يرى أنه أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ ، فما قبل حرف الاستثناء حرام ، وما بعده خرج منه فيكون حلالا .
ومن قال إنه منقطع يرى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة . وكأنه قال : ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال أباح الله لكم التمتع به . أما هذه الحيوانات التي حرمها الله في الآية فلا يجوز لكم الأكل منها مطلقا .
وقد رجح المحققون من العلماء أن الاستثناء متصل ، وقالوا : يؤيد القول بأن الاستثناء متصل بالإِجماع على أن الذكاة تحلل ما يغلب على الظن أنه يعيش فيكون مخرجاً لبعض ما يتناوله المستثنى منه ، فيكون الاستثناء فيه متصلا .
هذا ملخص لما قاله العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب الفروع .
3 - إباحة تناول هذه المحرمات عند الضرورة لدفع الضرر ، ومن هذه الإباحة مقيدة بقيود ذكرها الفقهاء من أهمها قيدان .
الأول : أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط .
الثاني : ألا يتجاوز ما يسد الحاجة ، أما إذا قصد التلذذ أو إرضاء الشهوة ، أو تجلوز المقدار الذي يدفع الضرر فإنه في هذه الأحوال يكون واقعا في المحرم الذي نهى الله عنه .
وقد تكلم الإمام ابن كثير عن هذه المسألة فقال : قوله - تعالى - { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيم } أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناول والله غفور له رحيم به ، لأنه - تعالى - يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له .
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن ابن عمر - مرفوعاً - قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتي معصيته " .
ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، و هو إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أوله أن يشبع ويتزود على أقوال ، وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم - بل متى اضطر إلى ذلك جاز له .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة ، فمتى تحل لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفثوا بقلا فشأنكم بها " .
والاصطباح شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ومعنى لم تحتفثوا : أي تقتلعوا .
وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي متعاط لمعصية الله .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي .
4 - أخذ العلماء من قوله - تعالى - { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } أن الاستقسام بالأزلام محرم ، ومحرم أيضاً كل ما يشبهه من القمار والتنجيم والرمل وما إلى ذلك قال بعض العلماء : من عمل بالأيام في السعد والنحس معتقداً لها تأثيراً كفر وإن لم يعتقد أثم .
وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " العيافة والطرق والطيرة من الجبت " .
والعيافة : زجر الطير . والطرق : الخط يخط في الأرض . وقيل : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء .
وفي القاموس : عفت الطير عيافة زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها فتسعد وتتشاءم . وهو من عادة العرب كثيراً . والطيرة : من اطيرت وتطيرت وهو ما يتشاءم من الفأل الرديء ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة .
والجبت : كل ما عبد من دون الله .
وقد روى مسلم في صحيحيه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافاً أو كاهنا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " .
وعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له . أو سحر أو سحر له "
5 - استدل بعضهم بقوله - تعالى - { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } على نفي القياس وبطلان العمل به لأن إكمال الدين يقتضي أنه نص على أحكام جميع الوقائع إذ لو بقى بعض لم يبين حكمه لم يكن الدين كاملا .
وأجيب على ذلك بأن غاية ما يقتضيه إكمال الدين أن يكون الله - تعالى - قد أبان الطرق لجميع الأحكام وقد أمر الله بالقياس ، وتعبد المكلفين به بمثل قوله - تعالى - { فاعتبروا ياأولي الأبصار } فكان هذا مع النصوص الصريحة بياناً لكل أحكام الوقائع ، غاية الأمر أن الوقائع صارت قسمين : قسما نص الله على حكمه ، وقسما أرشد الله - تعالى - إلى أنه يمكن استنباط الحكم فيه من القسم الأول . فلم تصلح الآية متمسكا لهم .
6 - الآية الكريمة قد اشتملت على بشارات لأبناء هذه الأمة الإِسلامية فقد بشرتهم - أولا - بأن أعداءهم قد انقطع رجاؤهم في إبطال أمر الإِسلام أو تحريفه أو تبديل أحكامه التي كتب الله لها البقاء .
وها نحن أولا . نراجع التاريخ فنرى المسلمين قد تغلب عليهم أعداؤهم في معارك حربية ولكن هؤلاء الأعداء لم يستطيعوا التغلب على أحكام هذا الدين ومبادئه . بل بقيت محفوظة يتناقلها الخلف عن السلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد روى الإِمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبه حجة الوداع : " إن الشيطان قد يئس أن يعيده المصلون في جزيرة العرب ولكنه رضي بالتحريش بينهم " .
وبشرتهم - ثالثاً - بإتمام نعمة الله عليهم . وأي نعمة أتم على المؤمنين من إخراج الله إياهم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية ومن تمكينه لهم في الأرض واستخلافهم فيها ، وجعل كلمتهم العليا بعد أن كانوا في ضعف من أمرهم وفساد في أحوالهم .
وبشرتهم - رابعا - بأن الله قد اختار لهم الإِسلام دينا ، وجعله هو الدين المرضي عنده وهو الذي يجب على الناس أن يدخلوا فيه ، وأن يعملوا بأوامره ونواهيه ، لأنه من الحمق والغباء أن يبتعد إنسان عن الدين الذي اختاره الله وارتضاه ليختاره لنفسه طريقاً من نزغات نفسه وهواه .
وهذه بعض الأحكام والآداب التي استلهمها العلماء من الآية الكريمة . وهناك أحكام أخرى ذكرناها خلال تفسيرنا لألفاظ الآية الكريمة .
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي : ما مات من الحيوان حَتْف أنفه ، من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله ، عز وجل ، ويستثني من الميتة السمك ، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها ، لما رواه مالك في موطئه ، والشافعي وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ، فقال : " هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته{[8927]} " .
وهكذا الجراد ، لما سيأتي من الحديث ، وقوله : { وَالدَّمُ } يعني [ به ]{[8928]} المسفوح ؛ لقوله : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب المذْحِجي ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا عمرو - يعني ابن قيس - عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن الطحال فقال : كلوه فقالوا : إنه دم . فقال : إنما حُرم عليكم الدم المسفوح .
وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : إنما نهى عن الدم السافح .
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[8929]} " أحِلَّ لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت{[8930]} والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال " .
وكذا رواه أحمد بن حنبل ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم{[8931]} وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس{[8932]} عن أسامة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا .
قلت : وثلاثتهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا بَشير بن سُرَيج ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة - وهو صُدَيّ بن عجلان - قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم ، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقَصْعَة من دم ، فاجتمعوا{[8933]} عليها يأكلونها ، قالوا : هلم يا صُديّ ، فكل . قال : قلت : ويحكم ! إنما أتيتكم من عند مُحرِّم{[8934]} هذا عليكم ، وأنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ ] }{[8935]} الآية .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله ، وزاد بعد هذا السياق : قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ، ويأبون علي ، فقلت لهم : ويحكم ، اسقوني شربة من ماء ، فإني شديد العطش - قال : وعليّ عباءتي - فقالوا : لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا . قال : فاغتممت وضربت{[8936]} برأسي في العباء ، ونمت على الرمضاء في حر شديد ، قال : فأتاني آت في منامي بقَدَح من زجاج لم ير الناس أحسن منه ، وفيه شراب لم ير الناس [ شرابا ]{[8937]} ألذ منه ، فأمكنني منها فشربتها ، فحيث فرغت من شرابي استيقظت ، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة . {[8938]}
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن حُمْشاذ{[8939]} عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري ، حدثنا صدقة بن هرمز ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قد ذكر نحوه{[8940]} وزاد بعد قوله : " بعد تيك الشربة " : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم ، فلم تَمْجعَوه بمذقة ، فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها ، إن الله{[8941]} أطعمني وسقاني ، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم .
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق :{[8942]}
وإياكَ والميتات لا تقربنَّها *** ولا تأخذن عظمًا حديدًا فتفصدا
أي : لا تفعل كما يفعل{[8943]} الجاهلية ، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محددًا من عظم ونحوه ، فَيفْصِد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان ، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ؛ ولهذا حرَّم الله الدم على هذه الأمة ، ثم قال الأعشى :
وذا النّصُب المنصوبَ لا تَأتينّه *** ولا تعبد الأصنام والله فاعبدا
وقوله : { وَلَحْمُ الْخِنزيرِ } يعني : إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا } يعنون قوله تعالى : { إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير ، حتى يعم جميع أجزائه ، وهذا بعيد من حيث اللغة ، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه ، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد ، وفي صحيح مسلم ، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردَشير فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه " {[8944]} فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس{[8945]} فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام " . فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويَسْتَصبِحُ بها الناس ؟ فقال : " لا هو حرام " . {[8946]}
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان : أنه قال لهرقل ملك الروم : " نهانا عن الميتة والدم " . {[8947]}
وقوله : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ؛ لأن الله أوجب أن تذبح{[8948]} مخلوقاته على اسمه العظيم ، فمتى عُدِل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك ، من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه ، إما عمدًا أو نسيانا ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجَاني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جُمَيْع ، عن أبي الطُّفَيْل قال : نزل آدم بتحريم أربع : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وإن هذه الأربعة الأشياء{[8949]} لم تحل قط ، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض ، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم ، فلما بعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [ عليه السلام ]{[8950]} وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه . وهذا أثر غريب .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا ربعي بن عبد الله قال : سمعت الجارود بن أبي سَبْرَة - قال : هو جدي - قال : كان رجل من بني رَيَاح{[8951]} يقال له : ابن وَثَيِل ، وكان شاعرا ، نافر - غالبا - أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة ، على أن يعقر هذا مائة من إبله ، وهذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء ، فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف ، فجعلا يَكْسفان عَرَاقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم - قال : وعَليٌّ بالكوفة - قال : فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي : يا أيها الناس ، لا تأكلوا من لحومها فإنما{[8952]} أهل بها لغير الله .
هذا أثر غريب ، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا{[8953]} حماد بن مَسْعَدة ، عن عوف ، عن أبي رَيْحانة ، عن ابن عباس قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مُعاقرة الأعراب .
ثم قال أبو داود : محمد بن جعفر - هو غُنْدَر - أوقفه على ابن عباس . تفرد به أبو داود{[8954]}
وقال أبو داود أيضا : حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ، حدثنا أبي ، حدثنا جرير بن حازم ، عن الزبير بن خريت قال : سمعت عِكْرِمة يقول :{[8955]} إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين{[8956]} أن يؤكل .
ثم قال أبو داود : أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس . تفرد به أيضا . {[8957]}
وقوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا أو اتفاقا ، بأن تَتَخبل في وثاقتها{[8958]} فتموت به ، فهي حرام .
وأما { الْمَوْقُوذَةُ } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها{[8959]} فتموت .
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها .
وفي الصحيح : أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب . قال : " إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه ، وإن أصابه بعَرْضِه فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله " . {[8960]}
ففرق بين ما أصابه بالسهم ، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله ، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله ، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا ، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، على قولين ، هما قولان للشافعي ، رحمه الله :
أحدهما : [ أنه ]{[8961]} لا يحل ، كما في السهم ، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ .
والثاني : أنه يحل ؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ، ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكرناه ؛ لأنه قد دخل في العموم . وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب هاهنا . .
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى ، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، أو صدمه ، هل يحل أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أن ذلك حلال ؛ لعموم قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عَدي{[8962]} بن حاتم . وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي ، رحمه الله ، وصححه بعض المتأخرين [ منهم ]{[8963]} كالنووي والرافعي .
قلت : وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر ، فإنه قال في كلا الموضعين : " يحتمل معنيين " . ثم وجه كلا منهما ، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه ، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به . والقول بذلك ، أعني الحل ، نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة ، من رواية الحسن بن زياد ، عنه ، ولم يذكر غير ذلك وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي ، وأبي هريرة ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر . وهذا غريب جدًا ، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم ، إلا أنه من تصرفه ، رحمه الله ورضي عنه .
والقول الثاني : أن ذلك لا يحل ، وهو أحد القولين عن الشافعي ، رحمه الله ، واختاره المُزَني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا ، والله أعلم . ورواه أبو يوسف ومحمد عن{[8964]} أبي حنيفة ، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه{[8965]} وهذا القول أشبه بالصواب ، والله أعلم ، لأنه أجرى عن{[8966]} القواعد الأصولية ، وأمس بالأصول{[8967]} الشرعية . واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خَدِيج ، قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مُدًى ، أفنذبح بالقَصَب ؟ قال :{[8968]} " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . الحديث بتمامه وهو في الصحيحين .
وهذا وإن كان واردًا على سبب خاص ، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع ، كما سئل عليه السلام{[8969]} عن البتع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " {[8970]} أفيقول فقيه : إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل ؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره ؛ لأنه عليه السلام{[8971]} قد أوتي جوامع الكلم .
إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غَمَّه بثقله ، ليس مما أنهر دمه ، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث . فإن قيل : هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء ؛ لأنهم إنما سألوا عن الآلة التي يُذكّى بها ، ولم يسألوا عن الشيء الذي يُذَكَّى ؛ ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر ، حيث قال : " ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم ، وأما الظفر فَمُدي الحبشة " . والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه ، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة ، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم .
فالجواب عن هذا : بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا ، حيث يقول : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . ولم يقل : " فاذبحوا به " فهذا يؤخذ منه الحكمان معا ، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها ، وحكم المذكى ، وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرًا . هذا مسلك .
والمسلك الثاني : طريقة المُزَني ، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعَرْضِه فلا تأكل ، وإن خَزَق فَكُل . والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخَزْق ؛ لأنهما اشتركا في الموجب ، وهو الصيد ، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب ، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل ، بل هذا أولى . وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي ، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة ، فلا بد لهم من جواب عن هذا . وله أن يقول : هذا قتله الكلب بثقله ، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعَرْضه{[8972]} والجامع أن كلا منهما آلة للصيد ، وقد مات بثقله فيهما . ولا يعارض ذلك بعموم الآية ؛ لأن القياس مقدم على العموم ، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور ، وهذا مسلك حسن أيضا .
مسلك آخر ، وهو : أن قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره ، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو :{[8973]} إما أن يكون نطيحا أو في حكمه ، أو منخنقا أو في حكمه ، وأيا ما كان فيجب تقديم [ حكم ]{[8974]} هذه الآية على تلك لوجوه :
أحدها : أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد ، حيث يقول لعديّ بن حاتم : " وإن أصابه بعرضه{[8975]} فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله " . ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية ، فقال : إن الوقيذ معتبر حالة الصيد ، والنطيح ليس معتبرا ، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به ، وهو محظور عند كثير من العلماء .
الثاني : أن تلك الآية : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع ، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول ، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق ، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ . .
المسلك الآخر : أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء ؛ لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات ، فلا تحل قياسا على الميتة .
المسلك الآخر : أن آية التحريم ، أعني قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } إلى آخرها ، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص ، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة ، أعني قوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ[ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ] } [ المائدة : 4 ]{[8976]} فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك ، وشاهد ذلك قصة السهم ، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية ، وهو ما إذا خَزَقه المِعْرَاض فيكون حلالا ؛ لأنه من الطيبات ، وما دخل في حكم تلك الآية ، آية التحريم ، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل ؛ لأنه وقيذ ، فيكون أحد أفراد آية التحريم ، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء ، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل . وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا .
فإن قيل : فلم لا فَصَّل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال ، وإن لم يجرحه فهو حرام ؟
فالجواب : أن ذلك نادر ؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر ، وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة . وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ؛ فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا والله أعلم ؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال : " إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين{[8977]} فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب ، حكي ذلك عن أبي هريرة ، وابن عباس . وبه قال الحسن ، والشعبي ، والنخَعي . وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي في المشهور عنه . وروى ابن جرير في تفسيره عن علي ، وسعد ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعد ، وسلمان ، وأبو هريرة وابن عمر ، وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة . وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه .
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي ، عن أبي ثعلبة الخُشَنِي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب : " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك " . {[8978]}
ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن أعرابيا يقال له : أبو ثعلبة قال : يا رسول الله ، فذكر نحوه .
وقال محمد بن جرير في تفسيره : حدثنا عمران بن بَكَّار الكَلاعِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن موسى - هو اللاحوني - حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس - وهو معاوية بن قرة - عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي .
ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان موقوفا{[8979]} وأما الجمهور فقدموا حديث " عَديّ " على ذلك ، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره . وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ ، فأكل منه لجوعه ونحوه ، فإنه لا بأس بذلك ؛ لأنه - والحالة هذه ؛ لا يخشى أنه أمسك على نفسه ، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة ، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه ، والله أعلم .
فأما الجوارح من الطير{[8980]} فنص الشافعي على أنها كالكلاب ، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ، ولا يحرم عند الآخرين . واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ، قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه ، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد ، فيعفى عن ذلك ، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير . وقال الشيخ أبو علي في " الإفصاح " : إذا قلنا : يحرم ما أكل منه الكلب ، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان ، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب ، لنص الشافعي ، رحمه الله على التسوية بينهما ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما { الْمُتَرَدِّيَةُ } فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك ، فلا تحل .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { الْمُتَرَدِّيَةُ } التي تسقط من جبل . وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر .
وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر .
وأما { النَّطِيحَةُ } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها ، فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها .
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، أي : منطوحة . وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة في كلام العرب بدون تاء التأنيث ، فيقولون : كَفٌّ خضيب ، وعينٌ كحيل ، ولا يقولون : كف خضيبة ، ولا عين كحيلة : وأما هذه فقال بعض النحاة : إنما استعمل فيها تاء التأنيث ؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء ، كما في قولهم : طريقة طويلة . وقال بعضهم : إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة ، بخلاف : عين كحيل ، وكف خضيب ؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام .
وقوله : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } أي : ما عدا عليها أسد ، أو فهد ، أو نمر ، أو ذئب ، أو كلب ، فأكل بعضها فماتت بذلك ، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها ، فلا تحل بالإجماع . وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين .
وقوله : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } عائد على ما يمكن عوده عليه ، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة ، وفيه حياة مستقرة ، وذلك إنما يعود على قوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه ، فهو ذكي . وكذا رُوي عن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والسدي .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا حَفْص بن غياث{[8981]} حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } قال : إن مَصَعَتْ بذنبها أو رَكَضَتْ برجلها ، أو طَرَفَتْ بعينها فكُلْ .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم وعباد قالا حدثنا حجاج ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها .
وهكذا رُوي عن طاوس ، والحسن ، وقتادة وعُبَيد بن عُمير ، والضحاك وغير واحد : أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وبه قال{[8982]} أبو حنيفة والشافعي ، وأحمد بن حنبل . وقال ابن وهب : سُئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفَها السَّبُعُ حتى تخرج أمعاؤها ؟ فقال مالك : لا أرى أن تذكى أيّ شيء يُذَكَّى منها .
وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش ، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت ، فيؤكل ؟ قال{[8983]} إن كان قد بلغ السُّحْرة ، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأسًا . قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال :{[8984]} لا يعجبني ، هذا لا يعيش منه . قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء ؟ فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل .
هذا مذهب مالك ، رحمه الله ، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك ، رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها ، فيحتاج إلى دليل مخصص{[8985]} للآية ، والله أعلم .
وفي الصحيحين : عن رافع بن خَدِيج أنه قال : قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدًا ، وليس معنا مُدَى ، أفنذبح بالقَصَب ؟ فقال : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ، ليس السنُّ والظَّفُر ، وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة " . {[8986]}
وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [ عن أبي هريرة ]{[8987]} مرفوعا ، وفيه نظر ، وروي عن عمر موقوفا ، وهو أصح{[8988]} " ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق " . {[8989]}
وفي{[8990]} الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية حماد بن سلمة ، عن أبي العشراء الدارمي ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال : " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك .
وهو حديث صحيح{[8991]} ولكنه محمول على ما [ لم ]{[8992]} يقدر على ذبحه في الحلق واللبة .
وقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال مجاهد وابن جُرَيْج{[8993]} كانت النصب حجارة حول الكعبة ، قال{[8994]} ابن جريج : وهي ثلاثمائة وستون نصبا ، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها ، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب .
وكذا ذكره غير واحد ، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر{[8995]} عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك{[8996]} الذي حرمه الله ورسوله . وينبغي أن يحمل هذا على هذا ؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله .
وقوله تعالى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } أي : حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام : واحدها : زُلَم ، وقد تفتح الزاي ، فيقال : زَلم ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ، وهي عبارة عن قداح ثلاثة ، على أحدها مكتوب : " افعل " وعلى الآخر : " لا تفعل " والثالث " غُفْل ليس عليه شيء . ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد : " أمرني ربي " وعلى الآخر : " نهاني ربي " . والثالث غفل{[8997]} ليس عليه شيء ، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله ، أو الناهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد [ الاستقسام . ]{[8998]} والاستقسام : مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام . هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا الحجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال : والأزلام : قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور .
وكذا روي عن مجاهد ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والحسن البصري ، ومُقَاتِل بن حَيَّان .
وقال ابن عباس : هي القداح ، كانوا يستقسمون بها الأمور . وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له : هُبَل ، وكان داخل الكعبة ، منصوب على بئر فيها ، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه ، كان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه ، مما أشكل عليهم ، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه .
وثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام ، فقال : " قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا . " {[8999]}
وفي الصحيح : أن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم{[9000]} قال : فعصيت الأزلام وأتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم{[9001]} وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك . {[9002]}
وروى ابن مَرْدُويه من طريق إبراهيم بن يزيد ، عن رَقَبةَ ، عن عبد الملك بن عُمَيْر ، عن رَجاء بن حَيْوَة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يَلِج الدرجات من تَكَهَّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرًا " . {[9003]} وقال مجاهد في قوله : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال : هي سهام العرب ، وكعاب فارس والروم ، كانوا يتقامرون بها .
وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار ، فيه نظر ، اللهم إلا أن يقال : إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة ، وفي القمار أخرى ، والله أعلم . فإن الله سبحانه [ وتعالى ]{[9004]} قد فرَّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر ، فقال في آخر السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ ] منتهون }{[9005]} [ الآيتان : 90 ، 91 ] وهكذا قال هاهنا : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } أي : تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك ، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ، ثم يسألوه الخيَرَة في الأمر الذي يريدونه ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن ، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا{[9006]} الاستخارة{[9007]} كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول : " إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أسْتَخِيركَ بعلمكَ ، وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم ؛ فإنك تَقْدِر ولا أقْدِر ، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم ، وأنت عَلام الغيوب ، اللهم إن كنتَ تعلم{[9008]} هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرًا لي في دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أمري ، فاقدُرْهُ لي ويَسِّره لي{[9009]} وبارك لي فيه ، اللهم إن كنتَ تَعْلَمْهُ شرا لي{[9010]} في ديني ومَعاشي وعاقبة أمري ، فاصْرِفْنِي عنه ، واصرفه عنِّي ، واقْدُرْ لي الخير حيث كان ، ثم رَضِّني به " . لفظ أحمد . {[9011]}
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي .
قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم . .
وكذا رُوي عن عطاء بن أبي رباح ، والسّدِّي ومُقاتِل بن حَيَّان . وعلى هذا المعنى يرد{[9012]} الحديث الثابت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المُصَلُّون في جزيرة العرب ، ولكن بالتَّحْرِيش{[9013]} بينهم " .
ويحتمل أن يكون المراد : أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين ، بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ؛ ولهذا قال تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ، ولا يخافوا أحدا إلا الله ، فقال : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } أي : لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني ، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة .
وقوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } هذه أكبر نعم الله ، عز وجل ، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم ، صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ{[9014]} رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي ، فلما أكمل{[9015]} الدين لهم تمت النعمة عليهم{[9016]} ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[9017]} { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } أي : فارضوه أنتم لأنفسكم ، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه{[9018]} وبعث به أفضل رسله الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا .
وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عَرَفَة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . قالت أسماء بنت عُمَيس : حَجَجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تَجلَّى له جبريل ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت فأتيته فَسَجَّيْتُ عليه بُرْدا{[9019]} كان علي .
قال ابن جُرَيْج{[9020]} وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما .
رواهما{[9021]} ابن جرير ، ثم قال : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن فُضَيْل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك ؟ " قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذْ أكمل{[9022]} فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : " صدقت " . {[9023]}
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غَرِيبًا ، وسيعود غريبا ، فَطُوبَى للغُرَبَاء " . {[9024]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عَوْن ، حدثنا أبو العُمَيْس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[9025]} فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية ؟ قال قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فقال{[9026]} عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة .
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون ، به . ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي ، من طرق عن قيس بن مسلم ، به{[9027]} ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس ، عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها{[9028]} عيدا . فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت{[9029]} وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت : يوم عرفة ، وأنا والله بعرفة - قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية . {[9030]}
وشك سفيان ، رحمه الله ، إن كان في الرواية فهو تَوَرُّعٌ ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة ، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري ، رحمه الله ، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به ، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها ، والله أعلم ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا رَجاء بن أبي سلمة ، أخبرنا عبادة بن نُسَيّ ، أخبرنا أميرنا إسحاق - قال أبو جعفر بن جرير : هو إسحاق بن خَرَشة - عن قَبِيصة - يعني ابن ذُؤيب - قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية ، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه . فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت{[9031]} فيه ، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا قَبيصة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار - هو مولى بني هاشم - أن ابن عباس قرأ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا . فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ويوم جمعة . {[9032]}
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا يحيى بن الحُمَّاني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سَلْمان ، عن أبي عمر البَزّار ، عن ابن الحنفية ، عن علي [ رضي الله عنه ]{[9033]} قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم عَشِيَّةَ عرفة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا هشام{[9034]} بن عمار ، حدثنا بن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس السكوني : أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة .
وروى ابن مَرْدُويه ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عمر بن موسى بن وجيه ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرَة قال : نزلت هذه الآية : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف . {[9035]}
فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه ، والطبراني من طريق ابن لَهيعَة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حَنَش بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، [ ونبئ يوم الاثنين ]{[9036]} وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ورفع الذكر يوم الاثنين ، فإنه أثر غريب{[9037]} وإسناده ضعيف .
وقد رواه الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حَنَش الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين ، ووضع{[9038]} الحجر الأسود يوم الاثنين .
هذا لفظ أحمد ، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين{[9039]} فالله أعلم . ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم ، فاشتبه على الراوي ، والله أعلم .
[ و ]{[9040]} قال ابن جرير : وقد قيل : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، ثم روي من طريق العَوْفِيِّ عن ابن عباس في قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يقول : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال : وقد قيل : إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع . ثم رواه من طريق أبى جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس .
قلت : وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُم{[9041]} حين قال لعلي : " من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه " . ثم رواه عن أبي هريرة{[9042]} وفيه : أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه عليه السلام{[9043]} من حجة الوداع .
ولا يصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية : أنها أنزلت يوم عرفة ، وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسَمُرَة بن جندب ، رضي الله عنهم ، وأرسله [ عامر ]{[9044]} الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشَهْر بن حَوْشَب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري ، رحمه{[9045]} الله .
وقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى{[9046]} لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناول ذلك ، والله غفور رحيم له ؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي المسند وصحيح ابن حبَّان ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته{[9047]} كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته " {[9048]} لفظ ابن حبان . وفي لفظ لأحمد{[9049]} من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " . {[9050]} ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على مهجته{[9051]} التلف ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، و[ قد ]{[9052]} يكون مباحا بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق ، أو له أن يشبع ، أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام . وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير ، أو صيدًا{[9053]} وهو محرم : هل يتناول الميتة ، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء ، أو ذلك الطعام ويضمن بدله ؟ على قولين ، هما قولان للشافعي ، رحمه الله . وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما ، كما قد يتوهمه كثير من العوام{[9054]} وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا{[9055]} بها المخمصة ، فمتى تحل{[9056]} لنا بها الميتة ؟ فقال : " إذا لم تَصْطَبِحوا ، ولم تَغْتَبِقُوا ، ولم تَجتفئوا{[9057]} بقْلا فشأنكم بها " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين . وكذا رواه ابن جرير ، عن عبد الأعلى بن واصل ، عن محمد بن القاسم الأسدي ، عن الأوزاعي به{[9058]} لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ، عن أبي واقد ، به{[9059]} ومنهم من رواه عن الأوزاعي ، عن حسان ، عن مرثد - أو أبي مرثد - عن أبي واقد ، به{[9060]} ورواه ابن جرير عن هناد بن السري ، عن عيسي بن يونس ، عن حسان ، عن رجل قد سمي له ، فذكره . ورواه أيضا عن هناد ، عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان ، مرسلا{[9061]}
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن عَوْن قال : وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة ، فقرأته عليه ، فكان فيه : " ويُجزى من الأضرار غَبُوق أو صبوح " .
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا هُشَيْم ، عن الخَصيب بن زيد التميمي{[9062]} حدثنا الحسن ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [ إلى ]{[9063]} متى يحل [ لي ]{[9064]} الحرام ؟ قال : فقال : " إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن ، أو تجيء مِيرَتُهم " .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عن جدته{[9065]} ؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَحِلُّ لك الطيبات ، وتَحْرُم عليك الخبائث{[9066]} إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك ، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه " . فقال الرجل : وما فَقْرِي الذي يحل لي ؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا كنت ترجو نِتَاجًا ، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غِنًى ، تطلبه ، فتبلغ من ذلك شيئا ، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه " . فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته ؟ فقال [ النبي ]{[9067]} صلى الله عليه وسلم : " إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام ، وأما مالك فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام " . {[9068]}
ومعنى قوله : " ما لم تصطبحوا " : يعني به : الغداء ، " وما لم{[9069]} تغتبقوا " : يعني به : العشاء ، " أو تختفئوا{[9070]} بقلا{[9071]} فشأنكم بها " [ أي ]{[9072]} فكلوا منها . وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف - يعني قوله : " أو تختفئوا{[9073]} [ بقلا ]{[9074]} على أربعة أوجه : " تختفئوا " بالهمزة ، " وتحتفيوا " بتخفيف الياء والحاء ، " وتحتفوا " بتشديد [ الفاء ]{[9075]} وتحتفوا " بالحاء وبالتخفيف ، ويحتمل الهمز ، كذا ذكره في التفسير .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري{[9076]} سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري ؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : " ما طعامكم ؟ " قلنا : نغتبق ونصطبح . قال أبو نعيم : فَسَّرَه لي عقبة : قدح غُدوة ، وقدح عَشيَّة{[9077]} قال : " ذَاكَ وأبي الجُوعُ " . وأحل لهم الميتة على هذه{[9078]} الحال .
تفرد به أبو داود{[9079]} وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرَّمَق ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا سماك ، عن جابر بن سَمُرَة ، أن رجلا نزل الحَرَّةَ ، ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقة لي ضَلَّت ، فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها ، فأبى ، فَنَفَقَتْ ، فقالت له امرأته : اسلخها حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله . فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : " هل عندك غنًى يُغْنِيك ؟ " قال : لا . قال : " فكلوها " . قال : فجاء صاحبها فأخبره{[9080]} الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك .
تفرد به{[9081]} وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع ، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم .
وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ } أي : [ غير ]{[9082]} مُتَعَاطٍ لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الآية : 173 ] .
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ؛ لأن الرخص لا تنال{[9083]} بالمعاصي ، والله أعلم .
{ حرمت عليكم الميتة } بيان ما يتلى عليكم ، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية . { والدم } أي الدم المسفوح لقوله تعالى : { أو دما مسفوحا } وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها . { ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه . { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق . { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب ، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته . { والمتردية } التي تردت من علو أو في بئر فماتت . { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل . { وما أكل السبع } وما أكل منه السبع فمات ، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل . { إلا ما ذكيتم } إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك . وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع . والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد . { وما ذبح على النصب } النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة . وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام . وقيل هو جمع والواحد نصاب . { وأن تستقسموا بالأزلام } أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح . مكتوب على أحدها ، أمرني ربي . وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل ، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام . وقيل : هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد . { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام ، وكونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله ، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم . { اليوم } لم يرد به يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية . وقيل أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع . { يئس الذين كفروا من دينكم } أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه . { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم . { واخشون } وأخلصوا الخشية لي . { اليوم أكملت لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد . { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية . { ورضيت لكم الإسلام دينا } اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير . { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات . { في مخمصة } مجاعة { غير متجانف لإثم } غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله : { غير باغ ولا عاد } . { فإن الله غفور رحيم } لا يؤاخذه بأكله .
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }
وقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من { بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] و { الميتة } كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة ، وقرأ جمهور الناس «الميْتة » بسكون الياء ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة » بالتشديد في الياء قال الزجاج : هما بمعنى واحد ، وقال قوم من أهل اللسان : الميْت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت . . . إنما الميت ميت الأحياء{[4429]}
قال القاضي أبو محمد : والبيت يحتمل أن يتأول شاهداً عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة .
وقوله تعالى : { والدم } معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم ، وعلى تحليل الطحال ونحوه ، وكانت الجاهلية تستبيح الدم ، ومنه قولهم : " لم ُيحرم من ُفصد له " {[4430]} ، والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات{[4431]} .
{ ولحم الخنزير } مقتض لشحمه بإجماع{[4432]} ، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلداً كان أو عظماً ، وقوله تعالى : { وما أهلّ لغير الله به } يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارى ، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذ صاح عند الولادة ، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر :
يهل بالفرقد ركبانها . . . كما يهل الراكب المعتمر{[4433]}
وقوله تعالى : { والمنخنقة } معناه التي تموت خنقاً وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع ، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباسرضي الله عنهما . { والموقوذة } التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق :
شَّغارة َتقذُ الفصيل برجلها فَطّارة لقوادم الأَبكار{[4434]}
وقال ابن عباسرضي الله عنهما : { الموقوذة } التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت ، وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها .
قال القاضي أبو محمد : ومن اللفظة قول معاوية : «وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته » وقال الضحاك : كانوا يضربون «الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها » ، وقال أبو عبد الله الصنابحي :«ليس { الموقوذة } إلا في مالك ، وليس في الصيد وقيذ » .
قال القاضي أبو محمد : وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، في المعراض{[4435]} : «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ »{[4436]} { والمتردية } هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة ، { والنطيحة } فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت ، وتأول قوم { النطيحة } بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان ، وقال قوم : لو ذكر الشاة لقيل : والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين ، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكراً يريد أم مؤنثاً ، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك : النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم . .
قال القاضي أبو محمد : وكل ما مات ضغطاً فهو نطيح ، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة » وقوله : { وما أكل السبع } يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه ، هذه كلها سباع . ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد ، وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها ، قاله قتادة وغيره .
وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبْع » بسكون الباء وهي لغة أهل نجد{[4437]} ، وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه . وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع » وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع » ، واختلف العلماء في قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاسثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرف بعين أو يمصع{[4438]} برجل أو يحرك ذنباً وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل ، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده ، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول ، وقال أيضاً وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة أن قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة .
قال القاضي أبو محمد : فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم » مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى { إلا ماذكيتم } من غير هذه فكلوه ، وفي هذا عندي نظر ، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات ، وقال الطبري : إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى ، والذكاة في كلام العرب الذبح ، قاله ثعلب قال ابن سيده : والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو حديث{[4439]} ، وذكى الحيوان ذبحه ، ومنه قوله الشاعر :
*يذكيها الأسل{[4440]}*
ومما احتج به المالكيون لقول مالك«إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة »أنه{[4441]} لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولاً يغني عنها ، فمن حجة المخالف أن قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميته الوجع حسب ما كانت هي عليه .
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قوله : { وما ذبح } عطف على المحرمات المذكورات ، و { النصب } جمع واحده نصاب ، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون ، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضاً وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعاً قطعاً ليأكل الناس ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما : { النصب } حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ، وقال ابن عباس : ويهلون عليها ، قال ابن جريج : { النصب } ليست بأصنام ، الصنم يصور وينقش ، وهذه حجارة تنصب .
قال القاضي أبو محمد : وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون{[4442]} فيها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره ، قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة . . فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها }{[4443]} ونزلت { وما ذبح على النصب } .
قال القاضي أبو محمد : المعنى والنية فيها تعظيم النصب ، قال مجاهد . وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها ، قال ابن زيد : { ما ذبح على النصب } وما أهل به لغير الله شيء واحد .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : { ما ذبح على النصب } جزء مما أهل به لغير الله ، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له . وقد يقال للصنم أيضاً نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النَّصْب » بفتح النون وسكون الصاد ، وقال :على الصنم ، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النُّصْب » بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ عيسى بن عمر «على النَّصَب » بفتح النون والصاد ، وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور ، وقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر { بالأزلام } وهي سهام واحد زلم بضم الزاي وبفتحها ، وأزلام العرب ثلاثة أنواع ، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل ، والآخر لا تفعل ، والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب ، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة ، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل ، في أحدها العقل في أمور الديات ، وفي آخر : منكم ، وفي آخر : من غيركم ، وفي آخر : ملصق{[4444]} ، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك ، وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب ، إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة ، وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق ، وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل . والنوع الثالث هو قداح الميسر ، وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وَكَلب البرد وَتعذُّر التحرف ، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر ، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام ، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام » حرام كله وقوله تعالى : { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام { بالأزلام } والفسق الخروج من مكان محتوٍ جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته .
وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء ، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة : ألا بطل السحر اليوم ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وهذه الآية نزلت في إثر حجة الوداع وقيل في يوم عرفة يوم الجمعة ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكن المشركون حينئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر ، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج ، ويحتمل قوله تعالى : { اليوم } أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره ، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك . ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان { يئس } الكفار من دينكم وقوله تعالى : { الذين كفروا } يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون } فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم ومفتاح كل خير ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس » بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر .
وقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } تحتمل الإشارة ب { اليوم } ما قد ذكرناه ، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك . وقال ابن عباس والسدي : هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض ، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة . وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك ؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( صدقت ){[4445]} .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي : آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال له عمر أية آية هي ؟ فقال له : { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة{[4446]} .
قال القاضي أبو محمد : ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة ، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته ؟ قال داود : فقلت أي يوم هو ؟ قال يوم عرفة ، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوساً في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه ، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة{[4447]} .
قال القاضي أبو محمد : وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال : نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم الاثنين ، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع ، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة ، وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قَبلنا ، وقوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا ، وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها ، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }{[4448]} وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان والأعمال والشعب .
وقوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ متى تحل الميتة ؟ فقال : إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلاً{[4449]} . ]
قال القاضي أبو محمد : فهذه مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة ، وقرأ ابن محيصن «فمن اُّطر » بإدغام الضاد والطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالاً كثيراً وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة و «المخمصة » المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم ، ويستعمل ذلك كثيراً في الجوع والغرث ، ومنه قول الأعشى :
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا{[4450]}
أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن ، وقوله تعالى : { غير متجانف لإثم } وهو بمعنى { غير باغ ولا عاد }{[4451]} وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل ، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف » ، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من { متجانف } ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلاً في المعنى وثبوتاً لحكمه ، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه . ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأوداً ، ومقاربة ميل ، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل ، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات .