108- لا تصل - أيها الرسول - في هذا المسجد أبدا ، وإن مسجداً أقيم ابتغاء وجه اللَّه وطلبا لمرضاته من أول أمره كمسجد قُباء لجدير بأن تؤدى فيه شعائر اللَّه ، وفي هذا المسجد رجال يحبون أن يُطهروا أجسادهم وقلوبهم بأداء العبادة الصحيحة فيه ، واللَّه يحب ويثيب الذين يتقربون إليه بالطهارة الجسمية والمعنوية .
{ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ْ } أي : لا تصل في ذلك المسجد الذي بني ضرارا أبدا . فاللّه يغنيك عنه ، ولست بمضطر إليه .
{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ْ } ظهر فيه الإسلام في " قباء " وهو مسجد " قباء " أسس على إخلاص الدين للّه ، وإقامة ذكره وشعائر دينه ، وكان قديما في هذا عريقا فيه ، فهذا المسجد الفاضل { أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ْ } وتتعبد ، وتذكر اللّه تعالى فهو فاضل ، وأهله فضلاء ، ولهذا مدحهم اللّه بقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ْ } من الذنوب ، ويتطهروا من الأوساخ ، والنجاسات والأحداث .
ومن المعلوم أن من أحب شيئا لا بد أن يسعى له ويجتهد فيما يحب ، فلا بد أنهم كانوا حريصين على التطهر من الذنوب والأوساخ والأحداث ، ولهذا كانوا ممن سبق إسلامه ، وكانوا مقيمين للصلاة ، محافظين على الجهاد ، مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وإقامة شرائع الدين ، وممن كانوا يتحرزون من مخالفة اللّه ورسوله .
وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم ، فأخبروه أنهم يتبعون الحجارة الماء ، فحمدهم على صنيعهم .
{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ْ } الطهارة المعنوية ، كالتنزه من الشرك والأخلاق الرذيلة ، والطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث .
ثم نهى الله - تعالى - ورسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكداً فقال - سبحانه - : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } .
أى : لا تصل . أيها الرسول الكريم . في هذا المسجد في أى وقت من الأوقات لأنه لم يبين لعبادة الله ، وإنما بنى للشقاق والنفاق .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } يعنى مسجد الضرار . لا تقم فيه للصلاة ، وقد يعبر عن الصلاة بالقيام . يقال : فلان يقوم الليل أى : يصلى ، ومنه الحديث الصحيح : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها هذا المسجد ، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار . .
وقوله : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } جملة مسوقة لمدح مسجد قباء وتشريفه .
أى : لمسجد بنى أساسه ، ووضعت قواعده لعى تقوى الله وإخلاص العبادة له منذ أول يوم بدئ في بنائه ، أحق أن تقوم للصلاة فيه من غيره .
قال الآلوسى ما ملخصه : واللام في قوله " لمسجد " إما للابتداء أو للقسم . أى : والله لمسجد ، وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ ، والجملة بعده صفته ، وقوله { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } خبر المبتدأ : " وأحق " أفعل تفضيل ، والمفضل عليه كل مسجد . أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير ، أو على زعمهم ، وقيل إنه بمعنى حقيق ، أى : ذلك المسجد بأن تصلى فيه . .
وقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } جملة مسوقة لتكريم رواد هذا المسجد ومديحهم .
أى : في هذا المسجد رجال أتقياء الظاهر والباطن ، إذهم يحبون الطهارة من كل رجس حسى ومعنوى ، ومن كان كذلك أحبه الله ورضى عنه .
سبب نزول هذه الآيات{[13833]} الكريمات : أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له : " أبو عامر الراهبُ " ، وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية وقرأ علْم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير . فلما قَدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله ، وكانت العاقبة للمتقين{[13834]} . وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيب ذلك اليوم ، فجرح في وجهه وكُسِرت ربَاعِيتُه اليمنى السفلى ، وشُجَّ رأسه ، صلوات الله وسلامه عليه .
وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبُّوه . فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شَر . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرَّد ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا ، فنالته هذه الدعوة .
وذلك أنه لما فرغ الناس{[13835]} من أحد ، ورأى أمر الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه{[13836]} في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ، ملك الروم ، يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعده ومَنَّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنَّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كُتُبه ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته ، عليه السلام ، فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : " إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " .
فلما قفل ، عليه السلام{[13837]} راجعًا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء ، الذي أسس من أول يوم على التقوى . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه المدينة ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [ وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ] }{[13838]} وهم أناس من الأنصار ، ابتنوا مسجدًا ، فقال لهم أبو عامر ، ابنوا مسجدًا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجند من الروم وأخرج محمدًا وأصحابه . فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحب{[13839]} أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة . فأنزل الله ، عز وجل : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } إلى { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وقتادة وغير واحد من العلماء .
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عُمَر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني : من تبوك - حتى نزل بذي أوان - بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه . فقال : " إني على جناح سَفر وحال شُغل - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه " . فلما نزل بذي أوان أتاه خبرُ المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي - أو : أخاه عامر بن عدي - أخا بلعجلان فقال : " انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه " . فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدّخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي . فدخل أهله فأخذ سَعَفا من النخل ، فأشعل فيه نارًا ، ثم خرجا يَشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه . ونزل فيهم من القرآن ما نزل : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا } إلى آخر القصة . وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا خذام بن خالد ، من بني عُبَيد بن زيد ، أحد{[13840]} بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد ، ومعتِّب بن قُشير ، من [ بني ]{[13841]} ضُبَيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأذعر ، من بني ضُبَيعة بن زيد ، وعَبَّاد بن حُنَيف ، أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر ، وابناه : مُجَمِّع بن جارية ، وزيد بن جارية ونَبْتَل [ بن ]{[13842]} الحارث ، وهم من بني ضبيعة ، وبحزج وهو من بني ضبيعة ، وبجاد بن عُثمان وهو من بني ضُبَيعة ، [ ووديعة بن ثابت ، وهو إلى بني أمية ]{[13843]} رهط أبي لبابة بن عبد المنذر{[13844]} .
وقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ } أي : الذين بنوه { إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى } أي : ما أردناه ببنيانه إلا خيرًا ورفقًا بالناس ، قال الله تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : فيما قصدوا وفيما نوَوا ، وإنما بنوه ضِرارا لمسجد قُباء ، وكفرا بالله ، وتفريقًا بين المؤمنين ، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله ، وهو أبو عامر الفاسق ، الذي يقال له : " الراهب " لعنه الله .
وقوله : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } نهي من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، والأمة تَبَع له في ذلك ، عن أن يقوم فيه ، أي : يصلي فيه أبدا .
ثم حثه على الصلاة في مسجد قُباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى ، وهي طاعة الله ، وطاعة رسوله ، وجمعا لكلمة المؤمنين ومَعقلا وموئلا للإسلام وأهله ؛ ولهذا قال تعالى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة في مسجد قُباء كعُمرة " {[13845]} . وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورُ مسجد قُباء راكبًا وماشيًا{[13846]} وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف ، كان جبريل هو الذي عَيَّن له جِهَة القبلة{[13847]} فالله أعلم .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن يونس بن الحارث ، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزلت هذه الآية في أهل قباء : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم الآية .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث يونس بن الحارث ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه .
وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن علي المعمري ، حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُوَيم بن ساعدة فقال : " ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ؟ " . فقال : يا رسول الله ، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه - أو قال : مقعدته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . " هو هذا " . {[13848]} وقال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين بن محمد ، حدثنا أبو أويس ، حدثنا شرحبيل ، عن عُوَيم بن ساعدة الأنصاري : أنه حَدّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قُباء ، فقال : " إن الله تعالى قد أحسن [ عليكم الثناء ]{[13849]} في الطَّهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ " فقالوا : والله - يا رسول الله - ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا .
ورواه ابن خُزيمة في صحيحه . {[13850]}
وقال هُشَيْم ، عن عبد الحميد المدني ، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعُوَيم بن ساعدة . " ما هذا الذي أثنى الله عليكم : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } قالوا : يا رسول الله ، إنا نغسل الأدبار بالماء . {[13851]} وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عُمارة الأسدي ، حدثنا محمد بن سعد ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خُزَيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } قال : كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط . {[13852]} حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك - يعني : ابن مغْوَل - سمعت سيارا أبا الحكم ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما{[13853]} قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني : قباء ، فقال : " إن الله ، عز وجل ، قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا ، أفلا تخبروني ؟ " . يعني : قوله تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجده مكتوبًا علينا في التوراة : الاستنجاءُ بالماء . {[13854]} وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير . وقاله عطية العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والشعبي ، والحسن البصري ، ونقله البغوي عن سعيد بن جُبَير ، وقتادة .
وقد ورد في الحديث الصحيح : أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جوف المدينة ، هو المسجد الذي أسس على التقوى . وهذا صحيح . ولا منافاة بين الآية وبين هذا ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده :
حدثنا أبو نُعيم ، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد ، عن أبيّ بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا " . تفرد به أحمد . {[13855]} حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسِّسَ على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد رسول الله{[13856]} صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : هو مسجد قباء .
فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه ، فقال : " هو مسجدي هذا " {[13857]} تفرد به أحمد أيضا .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو مسجدي هذا " {[13858]} تفرد به أحمد .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث ، حدثني عمران بن أبي أنس ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو مسجدي " .
وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة ، عن الليث{[13859]} وصححه الترمذي ، ورواه مسلم كما سيأتي .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى ، عن أُنَيْس بن أبي يحيى ، حدثني أبي قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان : رجل من بني خَدْرة ، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال العَمْري : هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك ، فقال : " هو هذا المسجد " لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " في ذاك [ خير كثير ]{[13860]} يعني : مسجد قباء{[13861]} . طريق أخرى : قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد - حدثنا حميد الخراط المدني ، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد{[13862]} فقلت : كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال أبي : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه ، فقلت : يا رسول الله ، أين المسجد{[13863]} الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال : " هو مسجدكم هذا " . ثم قال : [ فقلتُ له : هكذا ]{[13864]} سمعتَ أباك يذكره ؟ .
رواه مسلم منفردًا به عن محمد بن حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، به{[13865]} ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن حميد الخراط ، به{[13866]} . وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب . واختاره ابن جرير .
وقوله : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن{[13867]} ملابسة القاذورات .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى بهم الصبح فقرأ بهم{[13868]} الروم فأوهم ، فلما انصرف قال : " إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء " .
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن عبد الملك بن عمير ، عن شبيب أبي روح من ذي الكَلاع : أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[13869]} فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها .
وقال أبو العالية في قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } إن الطهور بالماء لحسن ، ولكنهم المطهرون من الذنوب .
وقال الأعمش : التوبة من الذنب ، والتطهير من الشرك .
وقد ورد في الحديث المروي من طرق ، في السنن وغيرها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : " قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون ؟ " فقالوا : نستنجي بالماء .
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال : وجدته في كتاب أبي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء . { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نُتْبِعُ الحجارة الماء .
ثم قال : تفرد به محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سوى ابنه{[13870]} .
قلت : وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء{[13871]} ولم يعرفه كثير من المحدّثين المتأخرين ، أو كلهم ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَىَ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَن يَتَطَهّرُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُطّهّرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تقم يا محمد في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون ضرارا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله . ثم أقسم جلّ ثناؤه فقال : لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقّ أنْ تَقُومَ أنت فيه . يعني بقوله : أُسّسَ على التّقْوَى ابتدىء أساسه وأصله على تقوى الله وطاعته من أوّل يوم ابتدىء في بنائه أحَقّ أنْ تَقُومَ فِيهِ يقول : أولى أن تقوم فيه مصليا . وقيل : معنى قوله : مِنْ أوّلِ يَوْمٍ مبدأ أوّل يوم كما تقول العرب : لم أره من يوم كذا ، بمعنى مبدؤه ، ومن أوّل يوم يراد به من أول الأيام ، كقول القائل : لقيت كلّ رجل ، بمعنى كلّ الرجال .
واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه : لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ فقال بعضهم : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره اليوم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن عثمان بن عبيد الله ، قال : أرسلني محمد بن أبي هريرة إلى ابن عمر أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى ، أيّ مسجد هو ؟ مسجد المدينة ، أو مسجد قباء ؟ قال : لا ، مسجد المدينة .
قال : حدثنا القاسم بن عمرو العنقزي ، عن الدراوردي ، عن عثمان بن عبيد الله ، عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد ، قالوا : المسجد الذي أسس على التقوى : مسجد الرسول .
قال : حدثنا أبي ، عن ربيعة بن عثمان ، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع ، قال : سألت ابن عمر عن المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال : هو مسجد الرسول .
قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد ، قال : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
قال : حدثنا أبي ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد ، قال : هو مسجد الرسول .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حميد الخراط المدني ، قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن ، قال : مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد ، فقلت : كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال لي : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت بعض نسائه ، فقلت : يا رسول الله ، أيّ مسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفّا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال : «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا » هكذا سمعت أباك يذكره .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أسامة بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، قال : المسجد الذي أسس على التقوى : هو مسجد النبيّ الأعظم .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن سعيد بن المسيب ، قال : إن المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم ، هو مسجد المدينة الأكبر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، قال : قال سعيد بن المسيب ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : الأعظم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن ابن حرملة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : أحسبه عن أبيه قال : مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسس على التقوى .
وقال آخرون : بل عني بذلك مسجد قباء ، . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ يعني مسجد قباء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، نحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ هو مسجد قباء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن صالح بن حَيّان ، عن ابن بريدة ، قال : مسجد قباء الذي أُسّس على التقوى ، بناه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المسجد الذي أسس على التقوى : مسجد قباء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير : الذين بني فيهم المسجد الذي أسس على التقوى ، بنو عمرو بن عوف .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قالّ : هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لصحة الخبر بذلك عن رسول الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قال أبو كريب : حدثنا وكيع ، وقال ابن وكيع : حدثنا أبي ، عن ربيعة بن عثمان التيمي ، عن عمران بن أبي أنس رجل من الأنصار ، عن سهل بن سعد ، قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس في التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد النبيّ وقال الاَخر : هو مسجد قباء . فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألاه ، فقال : «هُوَ مَسْجِدِي » . هذا اللفظ لحديث أبي كريب ، وحديث سفيان نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد ، عن أبيّ بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس علي التقوى ، فقال : «مَسْجِدِي هَذَا » .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : ثني الليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبيه ، قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء ، وقال آخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله : «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا » .
حدثني بحر بن نصر الخولاني ، قال : قرىء على شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري ، قال : تمارى رجلان ، فذكر مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سجل بن محمد بن أبي يحيى ، قال : سمعت عمي أنيس بن أبي يحيى يحدّث ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المَسْجِدُ الّذِي أُسّسَ على التّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا ، وفِي كُلّ خَيْرٌ » .
حدثني المثنى ، قال : ثني الحماني ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن أنيس ، عن أبيه ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : أخبرنا أنيس بن أبي يحيى ، عن أبيه ، عن أبي سعيد : أن رجلاً من بني خدرة ورجلاً من بني عمرو بن عوف امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال العوفي : هو مسجد قباء ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه ، فقال : «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا ، وفي كُلّ خَيْرٌ » .
القول في تأويل قوله تعالى : فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ .
يقول تعالى ذكره : في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم رجال يحبون أن ينظفوا مقاعدهم بالماء إذا أتوا الغائط والله يحبّ المتطهرين بالماء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب قال : لما نزل : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما الطّهُورُ الّذِي أثْنَى اللّهُ عَلَيْكُمْ ؟ » قالوا : يا رسول الله نغسل أثر الغائط .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء : «إنّ اللّهَ قَدْ أحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثّنَاءَ في الطّهُورِ ، فَمَا تَصْنَعُونَ ؟ » قالوا : إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : لما نزلت : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ما هَذَا الطّهُورُ الّذِي أثْنَى اللّهُ عَلَيْكُمْ فِيهِ ؟ » قالوا : إنا نستطيب بالماء إذ جئنا من الغائط .
حدثني جابر بن الكردي ، قال : حدثنا محمدبن سابق ، قال : حدثنا مالك بن مِغْول ، عن سيار أبي الحَكَم ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام ، قال : قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ألا أخْبِرُوني ، فإنّ اللّهَ قَدْ أثُنَى عَلَيْكُمْ بالطّهُورِ خَيْرا » فقالوا : يا رسول الله إنا نجد عندنا مكتوبا في التوراة الاستنجاء بالماء .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن رافع ، عن مالك بن مغول ، قال : سمعت سيارا أبا الحكم غير مرّة ، يحدّث عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام ، قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء قال : «إنّ اللّهَ قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ بالطّهُورِ خَيْرا » ، يعني قوله : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قالوا : إنا نجده مكتوبا عندنا في التوراة : الاستنجاء بالماء .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن رافع ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن سيار ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام ، قال : يحيى : ولا أعلمه إلا عن أبيه ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : «إنّ اللّهَ قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ في الطّهُورِ خَيْرا » قالوا : إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة : الاستنجاء بالماء . وفيه نزلت : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري ، قال : حدثنا أبو أويس المدني ، عن شرحبيل بن سعد ، عن عويم بن ساعدة وكان من أهل بدر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : «إنّي أسْمَع اللّهَ قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ الثّنَاءَ في الطّهُورِ ، فَمَا هَذَا الطّهُورِ ؟ » قالوا : يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أن جيرانا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد ، عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خزيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يحبّ المُطّهّرَينَ قال : كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي ليلى ، عن عامر ، قال : كان ناس من أهل قباء يستنجون بالماء ، فنزلت : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّه يُحِبّ المُطّهّرَينَ .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة بن سوار ، عن شعبة ، عن مسلم القُرّي ، قال : قلت لابن عباس : أصب على رأسي ؟ وهو محرم قال : ألم تسمع الله يقول : إنّ اللّهَ يُحِبّ التّوّابِينَ وَيُحِبّ المُتَطَهّرِينَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن داود بن أبي ليلى ، عن الشعبي ، قال : لما نزلت : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء «ما هَذَا الّذِي أثْنَى اللّهُ عَلَيْكُمْ ؟ » قالوا : ما منا من أحد إلا وهو يستنجي من الخلاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الحميد المدني ، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة : «ما هَذَا الّذِي أثْنَى اللّه عَلَيْكُمْ فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا واللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ ؟ » قال : نوشك أن نغسل الأدبار بالماء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن حصين ، عن موسى بن أبي كثير ، قال : بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار من أهل قباء : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ فسألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نستنجي بالماء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال أخبرني ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن أبي الزناد ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، عن عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف ، ومعن بن عديّ من بني العجلان ، وأبي الدحداح ، فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من الذين قال الله فيهم : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نِعْمَ الرّجالُ مِنْهُمْ عُوَيْمَ بْنُ ساعِدَةَ » لم يبلغنا أنه سمى منهم رجلاً غير عويم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن هشام بن حسان ، قال : حدثنا الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هَذَا الّذِي ذَكَرَكُمُ اللّهُ بِهِ في أمْرِ الطّهُورِ ، فأثْنَى بِهِ عَلَيْكُمْ ؟ » قالوا : نغسل أثر الغائط والبول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مالك بن مغول ، قال : سمعت سيارا أبا الحكم يحدّث عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن سلام ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أو قال : قدم علينا رسول الله فقال : «إنّ اللّهَ قَدْ أثْنَى عَلَيْكُمْ فِي الطّهُورِ خَيْرا أفَلا تُخْبِرُونِي ؟ » قالوا : يا رسول الله ، إنا نجد علينا مكتوبا في التوراة : الاستنجاء بالماء . قال مالك : يعني قوله : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، قال : لما نزلت هذه الآية : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما طُهُورُكُمْ هَذَا الّذِي ذَكَرَ اللّهُ ؟ » قالوا : يا رسول الله كنا نستنجي بالماء في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام لم ندعه قال : فَلا تَدَعُوهُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان في مسجد قباء رجال من الأنصار يوضئون سفَلتهم بالماء يدخلون النخل والماء يجري ، فيتوضئون . فأثنى الله بذلك عليهم ، فقال : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا . . . الآية .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء ، فنزلت فيهم : فِيهِ رِجالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ .
وقيل : وَاللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ وإنما هو المتطهرين ، ولكن أدغمت التاء في الطاء ، فجعلت طاء مشددة لقرب مخرج إحداهما من الأخرى .
{ لا تقم فيه أبدا } للصلاة . { لمسجد أُسّس على التقوى } يعني مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه أوفق للقصة ، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أبي سعيد رضي الله عنه : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة " . { من أول يوم } من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله :
لمن الديار بقُنة الحجر *** أقوين من حجَجِ ومن دهرِ
{ أحق أن تقوم فيه } أولى بأن تصلي فيه . { فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا } من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله سبحانه وتعالى ، وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها . { والله يحب المطّهّرين } يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه . قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال عليه الصلاة والسلام : " أمؤمنون أنتم " فسكتوا . . فأعادها فقال عمر : إنهم مؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أترضون بالقضاء ؟ قالوا : نعم . قال عليه الصلاة والسلام : " أتصبرون على البلاء " قالوا : نعم ، قال : " أتشكرون في الرخاء " ؟ قالوا : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم : " أنتم مؤمنون ورب الكعبة " . فجلس ثم قال : " يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط " ؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } .
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت { لا تقم فيه أبداً } كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وهذا النهي إنما هو لأن البانين لمسجد الضرار قد كانوا خادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجداً للضرورات والسيل الحائل بيننا وبين قومنا فنريد أن تصلي لنا فهو وتدعو بالبركة ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم إلى ذلك ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت الآية { لا تقم فيه أبداً } وقوله : { لمسجد } قيل إن اللام لام قسم ، وقيل هي لام الابتداء كما تقول : لزيد أحسن الناس فعلاً ، وهي مقتضية تأكيداً ، وقال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المراد «بالمسجد الذي أسس على التقوى » هو مسجد قباء .
وروي عن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ويليق القول الأول بالقصة ، إلا أن القول الثاني روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نظر مع الحديث ، وأسند الطبري في ذلك عن أبي سعيد الخدري أنه قال : اختلف رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف فقال الخدري : هو مسجد الرسول وقال الآخر : هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا ، وفي الآخر خير كثير{[5898]} إلى كثير من الآثار في هذا عن أبي بن كعب وسهل بن سعد .
قال القاضي أبو محمد : ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان في بقعته نخل وقبور مشركين ومربد{[5899]} ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة ، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، الأولى بالسميط{[5900]} وهي لبنة أمام لبنة ، والثانية بالصعيدة{[5901]} ، وهي لبنة ونصف في عرض الحائط ، والثالثة بالأنثى والذكر ، وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان ، وكان في طوله سبعون ذراعاً وكان عمده النخل ، وكان عريشاً يكف المطر ، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيانه ورفعه فقال : لا بل يكون عريشاً كعريش أخي موسى كان إذا قام ضرب رأسه في سقفه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل فيه اللبن على صدره ، ويقال إن أول من وضع في أساسه حجراً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وضع أبو بكر حجراً ، ثم وضع عمر حجراً ، ثم وضع عثمان حجراً ، ثم رمى الناس بالحجارة فتفاءل بذلك بعض الصحابة في أنها الخلافة فصدق فأله ، قوله : { من أول يوم } قيل معناه منذ أول يوم ، وقيل معناه من تأسيس أول يوم ، وإنما دعا إلى هذا الاختلاف أن من أصول النحويين أن «من » لا ُتَجُّر بها الأزمان ، وإنما ُتَجُّر الأزمان بمنذ ، تقول ما رأيته منذ يومين أو سنة أو يوم ، ولا تقول من شهر ولا من سنة ولا من يوم ، فإذا وقعت «من » من الكلام وهي تلي زمناً{[5902]} فيقدر مضمر يليق أن تجره «من » كقول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ]
لمن الديار كقنة الحجر*** أقوين من حجج ومن دهر{[5903]}
ومن شهر رواية ، فقدروه من مر حجج ومن مر دهر ، ولما كان «أول يوم » يوماً وهو اسم زمان احتاجوا فيه إلى تقدير من تأسيس{[5904]} ، ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير وأن تكون «من » تجر لفظة «أول » لأنها بمعنى البدأة كأنه قال من مبتدأ الأيام ، وهي هاهنا تقوم المر في البيت المتقدم ، وهي كما تقول جئت من قبلك ومن بعدك وأنت لا تدل بهاتين اللفظتين إلا على الزمن ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو ، ومعنى { أن تقوم فيه } أي بصلاتك وعبادتك ، وقرأ جمهور الناس «أن تقوم فيهِ فيهِ رجال » بكسر الهاء ، وقرأ عبد الله بن زيد «أن تقوم فيه فيهُ » بضم الهاء الثانية على الأصل ويحسنه تجنب تكرار لفظ واحد ، وقال قتادة وغيره : الضمير عائد على مسجد الرسول ، و «الرجال » جماعة الأنصار .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : «يا معشر الأنصار إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون ؟ » فقالوا : يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء .
قال القاضي أبو محمد : يريد الاستنجاء بالماء ، ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فلا تدعوه أبداً »{[5905]} ، وقال عبد الله بن سلا م{[5906]} وغيره ما معناه : إن الضمير عائد على مسجد قباء والمراد بنو عمرو بن عوف .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما قال المقالة المتقدمة لبني عمرو بن عوف والأول أكثر واختلف أهل العلم في الأفضل بين الاستنجاء بالماء أو بالحجارة فقيل هذا وقيل هذا ، ورأت فرقة من أهل العلم الجمع بينهما فينقي بالحجارة ثم يتبع بالماء ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجاراً في تراب ينقون بها ، ثم يستنجون بالماء أخذاً بهذا القول .
قال القاضي أبو محمد : وإنما يتصور الخلاف في البلاد التي يمكن فيها أن تنقي الحجارة ، وابن حبيب لا يجيز الاستنجاء بالحجارة حيث يوجد الماء ، وهو قول شذ فيه ، وقرأ جمهور الناس «يتطهروا » وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش «يطهروا » بالإدغام ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «المتطهرين » بالتاء ، وأسند الطبري عن عطاء أنه قال : أحدث قوم من أهل قباء الاستنجاء بالماء فنزلت الآية فيهم .
جملة : { لا تقم فيه أبداً } هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمْنا . والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام .
ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يُمْناً وبَركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غُنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم ، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين . فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه . وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى . وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بنَ ياسر ووحشياً مولى المُطعم بن عدي ومالكَ بن الدخشم ومعنَ بن عدي فقال : « انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه » ، ففعلوا . وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السَّقف ، والجذوعِ التي تجعل له أعمدة .
وقوله : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادةٍ في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعَوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قُباء ، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه ، وهذا أدب نفساني عظيم .
وفيه أيضاً دفع مكيدةِ المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع ، فقوله : { أحقُّ } وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقاً بصلاته فيه أصلاً .
ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمُجازاتهم ظاهراً في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقاً بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه ، فيعرف من وصفه بأنه { أسس على التقوى } أن هذا أسس على ضدها .
وثبت في « صحيح مسلم » وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال : « هو مسجدكم هذا » . يعني المسجد النبوي بالمدينة . وثبت في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء . وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدهم ، لقوله : { فيه رجالٌ } .
ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى : { لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم } المسجد الذي هذه صفته لا مسجداً واحداً معيناً ، فيكون هذا الوصف كلياً انحصر في فَردين المسجدِ النبوي ومسجدِ قُباء ، فأيهما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجدِ الضرار كانَ ذلك أحق وأجدر ، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مَسجدهم ، ومن مطاعنهم أيضاً ، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين . وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبَه .
ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام . وذلك ما انتزعه السهيلي في « الروض الأنف » في فصل تأسيس مسجدِ قباء إذ قال : « وفي قوله سبحانه : { من أول يوم } ( وقد علم أنه ليس أولَ الأيام كلها ولا أضافَه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه ) من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عَام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل » .
وجملة : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسجد قباء . وجاء الضمير مفرداً مراعاة للفظ ( مَسجد ) الذي هو جنس ، كالإفراد في قوله تعالى : { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] . وفيه تعريض بأن أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك .
وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدارقطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فقال : " يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطُهور فما طُهوركم ؟ قالوا : إنَّ أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء . قال : هو ذلك فعليكموه " ، فهذا يعم الأنصار كلهم . ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضاً من الأنصار ، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار .
وأطلقت المحبة في قوله : { يحبون } كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئاً ممكناً يعمله لا محالة . فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقرباً إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها ، بحيث صارت الطهارة خُلقاً لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم .
وجملة : { والله يحب المطهرين } تذييل . وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقاً يحبه الله تعالى . وكفى بذلك تنويهاً بزكاء أنفسهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا تقم فيه أبدا} يعني في مسجد المنافقين إلى الصلاة أبدا...
{لمسجد} يعني مسجد قباء، وهو أول مسجد بني بالمدينة، {أسس} يعني بُنِيَ، {على التقوى من أول يوم} يعني أول مرة، {أحق أن تقوم فيه} إلى الصلاة؛ لأنه كان بني من قبل مسجد المنافقين، ثم قال: {فيه رجال}، يعنى في مسجد قباء، {يحبون أن يتطهروا} من الأحداث والجنابة، {والله يحب المطهرين}، نزلت في الأنصار...
قال مالك: المسجد الذي ذكر الله أنه أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه. هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان يقوم رسول الله ويأتيه أولئك من هنالك وقال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما} وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- القرطبي: قال مالك: هو مسجد قباء رواه عنه ابن وهب، وأشهب، وابن القاسم. قوله تعالى: {وفيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}.
- قال مالك: إذا قضيت الحاجة فلا تبرأ بشيء حتى تغسل فرجك بالماء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تقم يا محمد في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون ضرارا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله. ثم أقسم جلّ ثناؤه فقال:"لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقّ أنْ تَقُومَ" أنت فيه. يعني بقوله: "أُسّسَ على التّقْوَى "ابتدئ أساسه وأصله على تقوى الله وطاعته من أوّل يوم ابتدئ في بنائه "أحَقّ أنْ تَقُومَ فِيهِ" يقول: أولى أن تقوم فيه مصليا. وقيل: معنى قوله: "مِنْ أوّلِ يَوْمٍ" مبدأ أوّل يوم كما تقول العرب: لم أره من يوم كذا، بمعنى مبدؤه، ومن أوّل يوم يراد به من أول الأيام، كقول القائل: لقيت كلّ رجل، بمعنى كلّ الرجال.
واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه: "لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ"؛
فقال بعضهم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره اليوم...
وقال آخرون: بل عني بذلك مسجد قباء...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قالّ: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لصحة الخبر بذلك عن رسول الله...
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو نعيم، عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبيّ بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس علي التقوى، فقال: «مَسْجِدِي هَذَا»...
"فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أنْ يَتَطَهّرُوا وَاللّهُ يُحِبّ المُطّهّرِينَ":
يقول تعالى ذكره: في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم رجال يحبون أن ينظفوا مقاعدهم بالماء إذا أتوا الغائط والله يحبّ المتطهرين بالماء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) يحتمل أي فيه رجال يؤثرون التطهر بالإيمان والتوحيد و الصلاة فيه، وفي كل مسجد هذا فهو مؤسس على التقوى، أي تقوى الشرك والخلاف لأمر الله ومناهيه، أو يقول: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ) أي يؤثرون التطهر بالتقوى والأعمال الصالحة على غيرها من الأعمال التي تنجسهم. ويحتمل ما ذكر أهل التأويل من التطهير من الأقذار والأنجاس؛ كأنه قال: فيه رجال يؤثرون الإبلاغ في التطهر من الأقدار والأنجاس التي تصيبهم.
وهذا يدل على أن بعض الأماكن قد يكون أوْلى بفعل الصلاة فيه من بعض وأن الصلاة قد تكون منهية عنها في بعضها، ويدل على فضيلة الصلاة في المسجد بحسب ما بني عليه في الأصل، ويدل على فضيلتها في المسجد السابق لغيره لقوله: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} وهو معنى قوله تعالى: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} لأن معناه أن القيام في هذا المسجد لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا المسجد الذي أُسس على التقوى أحق بالقيام فيه من غيره؛ وذلك أن مسجد الضرار لم يكن مما يجوز القيام فيه لنهي الله تعالى نبيه عن ذلك، فلو لم يكن المعنى ما ذكرنا لكان تقديره: لَمَسْجِدٌ أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه من مسجد لا يجوز القيام فيه، ويكون بمنزلة قوله فِعْلُ الفرض أصْلَحُ من تركه، وهذا قد يسوغ، إلاّ أن المعنى الأول هو وجه الكلام.
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} فيه دلالة على أن فضيلة أهل المسجد فضيلة للمسجد وللصلاة فيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المقام في أماكن العصيان، والتعريج في أوطان أهل الجحود والطغيان -من علامات الممالأة مع أربابها وسُكَّانِها وقُطَّانِها. والتباعدُ عن مَسَاكِنِهم، وهجرانُ مَنْ جَنَحَ إلى مَسالِكهم عَلَمٌ لِمَنْ أشرب قلبه مخالفتهم، وباشرت سِرَّه عداوتُهم. {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا}: يتطهرون عن المعاصي، وهذه سِمَة العابدين، ويتطهرون عن الشهوات والأماني وتلك صفة الزاهدين، ويتطهرون عن محبة المخلوقين...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى} بنيت جدره ورفعت قواعده على طاعة الله تعالى...
{والله يحب المطهرين} من الشرك والنفاق..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى} قيل: هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة... فإن قلت: ما معنى المحبَّتَيْن؟ قلت: محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهى له على إيثاره، ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم، كما يفعل المحبّ بمحبوبه...
ثم قال تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} وفيه مباحث: البحث الأول: أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين:
أحدهما: أنه بني على التقوى، وهو الذي تقدم تفسيره.
والثاني: إن فيه رجالا يحبون أن يتطهروا، وفي تفسير هذه الطهارة قولان:
الأول: المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي، وهذا القول متعين لوجوه:
أولها: أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه.
والثاني: أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم، وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي.
والثالث: أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} هذا نهي للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع له عن الصلاة فيه مؤكد بلفظ الأبد الذي يستغرق الزمن المستقبل، وتفسير القيام بالصلاة هنا مروي عن ابن عباس وهو معهود في التنزيل كقوله: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] وقوله: {قم الليل إلا قليلا} [المزمل: 2]، والنهي عن القيام المطلق يتضمن النهي عن القيام للصلاة، ولكنها هي المقصودة بالنهي لطلبهم لها به صلى الله عليه وسلم.
{لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَولِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} اللام الداخلة على المسجد للقسم أو للابتداء. والتأسيس وضع الأساس الأول للبناء الذي يقوم عليه ويرفع، والمراد منه هنا القصد والغرض من البناء، والتقوى الاسم الجامع لما يرضي الله ويقي من سخطه، أي أن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه في أول يوم تقوى الله تعالى بإخلاص العبادة له، وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى، هو أحق أن تقوم فيه أيها الرسول مصليا بالمؤمنين من غيره، ولاسيما ذلك المسجد الذي وضع أساسه على المقاصد الأربعة الخبيثة، والسياق يدل على أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم مسجد قباء، وقد صح في أحاديث رواها الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عنه فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة، ففي رواية مسلم عن أبي سعيد أنه لما سأله أخذ صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال:"هو مسجدكم هذا"، وفي رواية لأحمد عنه وعن سهل بن سعد "هو مسجدي هذا"، ولفظ الآية لا يمنع من إرادة كل من المسجدين، لأن كلا منهما قد بناه النبي صلى الله عليه وسلم ووضع أساسه على التقوى من أو يوم شرع فيه ببنائه، أو من أول يوم وجد في موضعه (والتحقيق أن "من "تدخل على الزمان والمكان).
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} هذه جملة وصف بها المسجد الذي أسس على التقوى تؤكد ترجيح القيام مع أهله المطهرين في مقابل أهل مسجد الضرار وهم رجس، والمعنى: فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف وإقامة الصلاة، وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، يحبون أن يتطهروا بذلك من كل ما يعلق بأنفسهم من درن الآثام، أو التقصير في إقامة دعائم الإسلام، كما تطهر المتخلفون منهم عن غزوة تبوك بالتوبة والصدقات، ومن لوازم عمارته المعنوية والعكوف فيه طهارة الثوب والبدن الحسية، وطهارة الوضوء والغسل الحكمية، فالتطهر صيغة مبالغة تشمل الطهارتين النفسية والبدنية، ووردت الروايات بكل منهما، ولكل من الاستعمالين موضع من التنزيل، والجمع بينهما هو الأولى.
{واللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} أي المبالغين في الطهارة الروحية والجسدية، وإنما يبالغون فيها إذا أحبوها، وحينئذ تكمل إنسانيتهم المؤلفة من الروح والجسد. ولا يطيق نجاسة البدن وقذارته إلا ناقص الفطرة والأدب، وأنقص منه من يطيق خبث النفس بالإصرار على المعاصي والعادات القبيحة، والتخلق بالأخلاق الذميمة. دع رجس المنافقين المرائين في الأعمال، الأشحة الباخلين بالأموال. وأما حب الله المستحقين لحبه، فهو من صفات كماله، لأن العالم بتفاوت الأشياء في الحسن والقبح، والكمال والنقص، يكون من أفضل صفاته حب الجمال والكمال والحق والخير، وبغض أضدادها وكراهتها، وحبه اللائق بربوبيته منزه عن مشابهة حبنا، كتنزه ذاته وسائر صفاته عن مشابهة ذواتنا وصفاتنا، ولكن يظهر أثره في المحبوبين من عباده في أخلاقهم وأعمالهم، ومعارفهم وآدابهم، وأعلاه ما أشار إليه حديث البخاري القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" الخ.
وقد قال الله تعالى معللا ما وعظ به نساء نبيه صلى الله عليه وسلم من أمره ونهيه لهن بما يليق بمكانتهن من رسوله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... والتعبير القرآني الفريد يرسم هنا صورة حافلة بالحركة، تنبئ عن مصير كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار؛ وتكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة؛ وتطمئن العاملين المتطهرين من كل كيد يراد بهم، مهما لبس أصحابه مسوح المصلحين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لا تقم فيه أبداً}...وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بنَ ياسر ووحشياً مولى المُطعم بن عدي ومالكَ بن الدخشم ومعنَ بن عدي فقال: « انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه»، ففعلوا...
وقوله: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادةٍ في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعَوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قُباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم. وفيه أيضاً دفع مكيدةِ المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع..ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمُجازاتهم ظاهراً في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقاً بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه {أسس على التقوى} أن هذا أسس على ضدها.
{فيه رجال يحبون أن يتطهروا}... فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقرباً إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها، بحيث صارت الطهارة خُلقاً لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم. وجملة: {والله يحب المطهرين} تذييل، وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقاً يحبه الله تعالى، وكفى بذلك تنويهاً بزكاء أنفسهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} في صلاةٍ أو في اجتماع، أو في أيّ نشاط آخر يوحي بالرضا والتأييد، لأن القيادة لا يمكن أن تدعم الوجود المنحرف، بل يجب عليها العمل على القضاء عليه، وتوجيه الأمة كلها إلى هذا الاتجاه، في عملية توعيةٍ فكريةٍ من جهة، وقدوةٍ عمليّةٍ من جهةٍ أخرى، ليتحوّل الدعم والإخلاص إلى الوجود المستقيم الخالص لله في كل شيء، وهذا ما يفرض الإصرار على القيام في مسجد قبا وأمثاله من مساجد الله الخالصة. {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} لأنه هو الذي يحقّق للصلاة غاياتها، ويركّز للدين قواعده على أساس الحق، ويبني للمسلمين علاقاتهم على أساس التقوى، ويدفع الحياة إلى أن تتحرر من عبوديّتها للشيطان، ليبقى لها الخط الذي تتحرك فيه من خلال عبوديّتها لله، في حركة الإنسان في حرّيته وعبوديّته.
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} الذين يعملون للطهارة الروحية على مستوى الفرد والمجتمع والحياة كلها، في الطريق إلى الله في رحابه الفسيحة الشاملة.