فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } أي : في وقت من الأوقات ، والنهي عن القيام فيه ، يستلزم النهي عن الصلاة فيه . وقد يعبر عن الصلاة بالقيام ، يقال فلان يقوم الليل : أي يصلي ، ومنه الحديث الصحيح : «من قام رمضان إيماناً به واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله : { لَمَسْجِد أُسّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } واللام في { لَمَسْجِد } لام القسم ، وقيل : لام الابتداء ، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة ، وتأسيس البناء : تثبيته ورفعه .

ومعنى تأسيسه على التقوى : تأسيسه على الخصال التي تتقى بها العقوبة .

واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقالت طائفة : هو مسجد قباء ، كما روي عن ابن عباس والضحاك ، والحسن ، والشعبي ، وغيرهم . وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . والأول : أرجح لما سيأتي قريباً إن شاء الله .

و { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } متعلق بأسس : أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه ، قال بعض النحاة : إن { مِنْ } هنا بمعنى منذ : أي منذ أوّل يوم ابتدئ ببنائه ، وقوله : { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } خبر المبتدأ ، والمعنى : لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله ، لكونه أسس على التقوى من أوّل يوم ، ولكون { فِيهِ رِجَال يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه صلى الله عليه وسلم فيه : أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل ، فهو أولى من جهة الحالّ فيه ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال : أي حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد . ومعنى محبتهم للتطهر : أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه ؛ وقيل : معناه : يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار . والأوّل : أولى . وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة من الذنوب فحموا جميعاً ، وهذا ضعيف جدّاً . ومعنى محبة الله لهم : الرضا عنهم ، والإحسان إليهم ، كما يفعل المحب بمحبوبه .

/خ110