الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

فيه إحدى عشرة مسألة :

الأولى - قوله تعالى : " لا تقم فيه أبدا " يعني مسجد الضرار ، أي لا تقم فيه للصلاة . وقد يعبر عن الصلاة بالقيام ، يقال : فلان يقوم الليل أي يصلي ، ومنه الحديث الصحيح : ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) . أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال . . . ، فذكره . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة{[8286]} تلقى فيها الجيف والأقذار والقمامات .

الثانية - قوله تعالى : " أبدا " " أبدا " ظرف زمان . وظرف الزمان على قسمين : ظرف مقدر كاليوم ، وظرف مبهم كالحين والوقت ، والأبد من هذا القسم ، وكذلك الدهر . وتنشأ هنا مسألة أصولية ، وهي أن " أبدا " وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم ، فلو قال : لا تقم ، لكفى في الانكفاف المطلق . فإذا قال : " أبدا " فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان . فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم ، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا : لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة .

الثالثة - قوله تعالى : " لمسجد أسس على التقوى " أي بنيت جدره ورفعت قواعده . والأسس أصل البناء ، وكذلك الأساس . والأسس مقصور منه . وجمع الأس إساس ، مثل عس وعساس . وجمع الأساس أسس ، مثل قذال وقذل . وجمع الأسس أساس ، مثل سبب وأسباب . وقد أسست البناء تأسيسا . وقولهم : كان ذلك على أس الدهر ، وأس الدهر ، وإس الدهر ؛ ثلاث لغات ، أي على قدم الدهر ووجه الدهر . واللام في قوله " لمسجد " لام قسم . وقيل لام الابتداء ؛ كما تقول : لزيد أحسن الناس فعلا ؛ وهي مقتضية تأكيدا . " أسس على التقوى " نعت لمسجد . " أحق " خبر الابتداء الذي هو " لمسجد " ومعنى التقوى هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة ، وهي فعلى من وقيت ، وقد تقدم{[8287]} .

الرابعة - واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقالت طائفة : هو مسجد قباء ، يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن . وتعلقوا بقول : " من أول يوم " ، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم ، فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عمر وابن المسيب ، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم . وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري : قال تمارى{[8288]} رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل هو مسجد قباء ، وقال آخر هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هو مسجدي هذا ) . قال{[8289]} حديث صحيح . والقول الأول أليق بالقصة ؛ لقوله : " فيه " وضمير الظرف يقتضي الرجال المتطهرين ، فهو مسجد قباء . والدليل على ذلك حديث أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية . قال الشعبي : هم أهل مسجد قباء ، أنزل الله فيهم هذا . . وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء : ( إن الله سبحانه قد أحسن عليكم الثناء في التطهر فما تصنعون ) ؟ قالوا : إنا نغسل أثر الغائط والبول بالماء . رواه أبو داود . وروى الدارقطني عن طلحة بن نافع قال : حدثني أبو أيوب وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك الأنصاريون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " فقال : ( يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا ) ؟ قالوا : يا رسول الله ، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فهل مع ذلك من غيره ) ؟ فقالوا : لا غير ، إن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء . قال : ( هو ذاك فعليكموه ) . وهذا الحديث يقتضي أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء ، إلا أن حديث أبي سعيد الخدري نص فيه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مسجده فلا نظر معه . وقد روى أبو كريب قال : حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صالح بن حيان قال حدثنا عبدالله بن بريدة في قوله عز وجل : " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه{[8290]} " [ النور : 36 ] قال : إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وبيت أريحا بيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ، ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذين أسسا على التقوى ، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الخامسة - قوله تعالى : " من أول يوم " " من " عند النحويين مقابلة منذ ، فمنذ في الزمان بمنزلة من في المكان . فقيل : إن معناه هنا معنى منذ . والتقدير : منذ أول يوم ابتدئ بنيانه . وقيل : المعنى من تأسيس أول الأيام ، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس ، كما قال :

لمن الديارُ بقُنَّة الحِجْرِ*** أَقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دَهْرِ{[8291]}

أي من مر حجج ومن مر دهر . وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن " من " لا يجر بها الأزمان ، وإنما تجر الأزمان بمنذ ، تقول ما رأيته منذ شهر أوسنة أو يوم ، ولا تقول : من شهر ولا من سنة ولا من يوم . فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن ؛ كما ذكرنا في تقدير البيت . ابن عطية . ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير ، وأن تكون " من " تجر لفظة " أول " لأنها بمعنى البداءة ، كأنه قال : من مبتدأ الأيام .

السادسة - قوله تعالى : " أحق أن تقوم فيه " أي بأن تقوم ، فهو في موضع نصب . و " أحق " هو أفعل من الحق ، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين ، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية . على الآخر ، فمسجد الضرار وإن كان باطلا لاحق فيه ، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه ، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية ، لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله ، والآخر حق باطنا وظاهرا ، ومثل هذا قوله تعالى : " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا{[8292]} " [ الفرقان : 24 ] ومعلوم أن الخيرية من النار مبعودة ، ولكنه جرى على اعتقاد كل فرقة أنها على خير وأن مصيرها إليه خير ؛ إذ كل حزب بما لديهم فرحون . وليس هذا من قبيل : العسل أحلى من الخل ، فإن العسل وإن كان حلوا فكل شيء ملائم فهو حلو ، ألا ترى أن من الناس من يقدم الخل على العسل{[8293]} مفردا بمفرد ومضافا إلى غيره بمضاف .

السابعة - قوله تعالى : " فيه " من قال : إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في " أحق أن تقوم فيه " عائد إليه . و " فيه رجال " له أيضا . ومن قال : إنه مسجد قباء ، فالضمير في " فيه " عائد إليه على الخلاف المتقدم .

الثامنة - أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة ، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية ، وفى الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت :( مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم ) . قال : حديث صحيح . وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يحمل الماء معه في الاستنجاء ، فكان يستعمل الحجارة تخفيفا ) الماء تطهيرا . ابن العربي : وقد كان علماء القيروان يتخذون في متوضآتهم أحجارا في تراب ينقون بها ثم يستنجون بالماء .

التاسعة - اللازم من نجاسة المخرج التخفيف ، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير . وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه ، وبه قال عامة العلماء . وشذ ابن حبيب فقال : لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء . والأخبار الثابتة في الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء ترده .

العاشرة - واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب ، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال : الأول : أنه واجب فرض ، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا ، روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين ، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور ، ورواه ابن وهب عن مالك ، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري ، إلا أن الطبري قال : إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة . وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر . وقالت طائفة : إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان ، وجوب سنة وليس بفرض . قالوا : ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه ، هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج ، ورواية ابن وهب عنه . وقال مالك في يسير الدم : لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده ، وتعاد من يسير البول والغائط ؛ ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث . وقال ابن القاسم عنه : تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان ، وهي من مفرداته . والقول الأول أصح إن شاء الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال :( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله . . . ) . الحديث ، خرجه البخاري ومسلم ، وحسبك . وسيأتي في سورة [ سبحان{[8294]} ] . قالوا : ولا يعذب الإنسان إلا على ترك واجب ، وهذا ظاهر . وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أكثر عذاب القبر من البول{[8295]} ) . احتج الآخرون( بخلع النبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أن فيهما قذرا وأذى . . . ) الحديث . خرجه أبو داود وغيره من حديث أبي سعيد الخدري ، وسيأتي في سورة [ طه ] إن شاء الله تعالى{[8296]} . قالوا : ولما لم يعد ما صلى دل على أن إزالتها سنة وصلاته صحيحة ، ويعيد ما دام في الوقت طلبا للكمال . والله أعلم .

الحادية عشرة - قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي{[8297]} ؛ يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار{[8298]} قياسا على المسربة{[8299]} ففاسد من وجهين : أحدهما : أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير . الثاني : أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة ، والحاجة والرخص لا يقاس عليها ؛ لأنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه .


[8286]:في ج: مزبلة، وفي ى: كناسة مزبلة.
[8287]:راجع ج 1 ص 161.
[8288]:الممارة: المجادلة.
[8289]:من ج و هـ،: وفي ع: قال هو.
[8290]:راجع ج 12 ص 264 فما بعد.
[8291]:هذا البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها هرم بن سنان. والقنة (بالضم): أعلى الجبل: وأراد بها هنا ما أشرف من الأرض. والحجر (بكسر الحاء): منازل ثمود بناحية الشام عند وادي القرى. وأقوين: خلون وأقفرن. والحجج: السنون. (راجع هذا البيت والكلام عليه في الشاهد الرابع والسبعين بعد السبعمائة من خزانة الأدب للبغدادي).
[8292]:راجع ج 13 ص.
[8293]:كذا في الأصول.
[8294]:راجع ج 10 ص 216.
[8295]:رواه أحمد وابن ماجه والحاكم. وفي الأصول: في البول. وهو خطأ الناسخ .
[8296]:راجع ج 11 ص 171 فما بعد.
[8297]:دراهم ضربها رأس البغل لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[8298]:زيادة عن ابن العربي.
[8299]:المسربة (بفتح الراء وضمها) : مجرى الحدث من الدبر، يريد أعلى الحلقة.