السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

فلما قفل أي : رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد نزل قوله تعالى :

{ لا تقم فيه أبداً } قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه لا تصلّ فيه أبداً ، وقال الحسن : همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل : لا تقم فيه أبداً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشياً فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا جميعاً سريعاً حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك : انظروني حتى أخرج لكم بنار من أهلي فدخل إلى أهله وأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فهدموه وأحرقوه وتفرّق عنه أهله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً فريداً غريباً وقيل : كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى أو بمال غير طيب فهو ملحق بمسجد الضرار .

وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه وقوله تعالى : { لمسجد } اللام فيه للابتداء وقيل : لام القسم تقديره والله لمسجد { أسس } أي : وضع أساسه وقواعده { على التقوى } أي : تقوى الله تعالى { من أوّل يوم } أي : من أوّل أيام وجوده لأن من تعم الزمان والمكان أي : فأحاطت به التقوى لأنها إذا أحاطت بأوّله أحاطت بآخره { أحق } أي : أولى { أن } أي : بأن { تقوم } أي : تصلي { فيه } ، واختلف في هذا المسجد الذي أسس على التقوى فقيل : هو مسجد المدينة قاله زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري قال أبو سعيد رضي الله عنه : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت : يا رسول الله أي المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال : «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة » ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي ) وعن أمّ سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة » أي : ثوابت ، وقيل : هو مسجد قباء قاله سعيد بن جبير وقتادة أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهو يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ويدل على هذا قوله تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } أي : من المعاصي والخصال المذمومة طلباً لمرضاة الله تعالى عليهم { والله يحب المطهرين } أي : يثيبهم ويرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحب حبيبه .

روي أنها لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : «أمؤمنون أنتم ؟ » فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : «أترضون بالقضاء ؟ » فقالوا : نعم ، قال : «أتصبرون على البلاء ؟ » قالوا : نعم ، قال عليه الصلاة والسلام : «مؤمنون ورب الكعبة » فجلس ثم قال : «يا معشر الأنصار إنّ الله عز وجل قد أثنى عليكم فماذا الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ؟ » فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { رجال يحبون أن يتطهروا } .

وروى ابن خزيمة في صحيحه عن ابن ساعدة إنه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : ( إنّ الله تعالى قد أحسن إليكم الثناء في الطهر وفي قصة مسجدكم فما الطهور الذي تطهرون به ؟ ) قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي حديث رواه البزار فقالوا : نتبع الحجارة بالماء فقال : «هو ذاك فعليكموه » ، وقيل : كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء إثر البول ، وعن الحسن هو التطهر من الذنوب بالتوبة ، وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن آخرهم .