{ 22 - 24 } { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }
{ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ } أي : يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه . { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في ذلك الإسلام بأن كان عمله مشروعا ، قد اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم .
أو : ومن يسلم وجهه إلى اللّه ، بفعل جميع العبادات ، وهو محسن فيها ، بأن يعبد اللّه كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراه .
أو ومن يسلم وجهه إلى اللّه ، بالقيام بحقوقه ، وهو محسن إلى عباد اللّه ، قائم بحقوقهم .
والمعاني متلازمة ، لا فرق بينها إلا من جهة [ اختلاف ]{[671]} مورد اللفظتين ، وإلا فكلها متفقة على القيام بجميع شرائع الدين ، على وجه تقبل به وتكمل ، فمن فعل ذلك فقد أسلم و { اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : بالعروة التي من تمسك بها ، توثق ونجا ، وسلم من الهلاك ، وفاز بكل خير .
ومن لم يسلم وجهه للّه ، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى ، وإذا لم يستمسك بالعروة الوثقى لم يكن ثَمَّ إلا الهلاك والبوار . { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أي : رجوعها وموئلها ومنتهاها ، فيحكم في عباده ، ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم ، ووصلت إليه عواقبهم ، فليستعدوا لذلك الأمر .
ثم فصل سبحانه بعد ذلك حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار الذين لا يحسنون التدبر فى أنفسهم ، أو فيما حولهم ، فقال تعالى - : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ . . . هُوَ الغني الحميد } .
وقوله - تعالى - : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ } أى : ومن يتجه إلى الله - تعالى - ويذعن لأمره ، ويخلص له العبادة ، وهو محسن فى أقواله وأفعاله .
من يفعل ذلك { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } والعربوة فى أصل معناها : تطلق على ما يتعلق بالشئ من عراه ، أى من الجهة التى يجب تعليقه منها . وتجمع على عرا .
والعروة من الدلو مقبضه ، ومن الثوب : مدخل زره .
والوثقى : تأنيث الأوثق ، وهو الشئ المحكم الموثق . يقال : وثق - بالضم - وثاقه ، أى : قوى وثبت فهو وثيق ، أى : ثابت محكم .
والمعنى : ومن يستسلم لأمر الله - تعالى - ويأتى بالأقوال والأفعال على وجه حسن ، فقد ثبت أمره ، واستقام على الطريقة المثلى ، وأمسك من الدين بأقوى سبب ، وأحكم رباط .
فقد شبه - سبحانه - المتوكل عليه فى جميع أموره ، المحسن فى أفعاله ، بمن ترقى فى حبل شاهق ، وتدلى منه ، فاستمسك بأوثق عروة ، من حبل متين مأمون انقطاعه .
وخص - سبحانه - الوجه بالذكر ، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حرمة ، فإذا خضع الوجه الذى هو أكرم الأعضاء ، فغيره أكثر خضوعا .
وقوله : { وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور } أى : وإلى الله - تعالى - وحده تصير الأمور ، وترجع إليه ، وتخضع لحكمه وإرادته .
يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله ، أي : أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه ؛ ولهذا قال : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : في عمله ، باتباع ما به أمر ، وترك ما عنه زجر ، { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه ، { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ وَإِلَىَ اللّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } .
يقول تعالى ذكره : ومن يعبد وجهه متذللاً بالعبودة ، مقرّا له بالألوهة وَهُوَ مُحْسِنٌ يقول : وهو مطيع لله في أمره ونهيه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى يقول : فقد تمسك بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه من تمسك به وهذا مثل إنما يعني بذلك أنه قد تمسك من رضا الله بإسلامه وجهه إليه وهو محسن ، ما لا يخاف معه عذاب الله يوم القيامة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي السوداء ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى قال : لا إله إلاّ الله .
وقوله وَإلى اللّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ يقول : وإلى الله مرجع عاقبة كلّ أمر خيره وشرّه ، وهو المسائل أهله عنه ، ومجازيهم عليه .
{ ومن يسلم وجهه إلى الله } بأن فوض أمره إليه وأقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون ، ويؤيده القراءة بالتشديد وحيث عدي باللام فلتضمن معنى الإخلاص . { وهو محسن } في عمله . { فقد استمسك بالعروة الوثقى } تعلق بأوثق ما يتعلق به ، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه . { وإلى الله عاقبة الأمور } إذ الكل صائر إليه .
لما ذكر تعالى حال الكفرة أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين ليبين الفرق وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل ، وقرأت عامة القراء «يسْلم » بسكون السين وتخفيف اللام .
وقرأ عبد الله بن مسلم وأبو عبد الرحمن «يسَلّم » بفتح السين وشد اللام ومعناه يخلص ويوجه ويستسلم به{[9379]} ، و «الوجه » هنا الجارحة استعير للمقصود لأن القاصد للشيء فهو مستقبله بوجهه فاستعير ذلك للمقاص ، و «المحسن » الذي جمع القول والعمل ، وهو الذي شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإحسان{[9380]} ، و { العروة الوثقى } استعارة للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال والعرى موضع التعليق فكأن المؤمن متعلق بأمر الله فشبه ذلك { بالعروة } ، و { الأمور } جمع أمر وليس بالمضاد للنهي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن يسلم وجهه إلى الله}: من يخلص دينه لله، كقوله تعالى: {ولكل وجهة} [البقرة:148]، يعني لكل أهل دين.
{وهو محسن} في عمله {فقد استمسك} فقد أخذ.
{بالعروة الوثقى} التي لا انفصام لها: لا انقطاع لها.
{وإلى الله عاقبة الأمور} مصير أمور العباد إلى الله عز وجل في الآخرة، فيجزيهم بأعمالهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن يعبد وجهه متذللاً بالعبودة، مقرّا له بالألوهة "وَهُوَ مُحْسِنٌ "يقول: وهو مطيع لله في أمره ونهيه "فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى" يقول: فقد تمسك بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه من تمسك به وهذا مثل إنما يعني بذلك أنه قد تمسك من رضا الله بإسلامه وجهه إليه وهو محسن، ما لا يخاف معه عذاب الله يوم القيامة... عن ابن عباس "وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى" قال: لا إله إلاّ الله.
وقوله: "وَإلى اللّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ" يقول: وإلى الله مرجع عاقبة كلّ أمر خيره وشرّه، وهو المسائل أهله عنه، ومجازيهم عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وجهه} أي نفسه، كأنه قال: ومن يسلم نفسه لله، ويجعلها سالمة له لم يجعل لأحد فيها شركا.
{وهو محسن} في عمله إلى نفسه، أي لا يستعملها إلا في طاعة الله وفي ما أمر به؛ فإذا فعل ذلك {فقد استمسك بالعروة الوثقى}... لأنها تثبت بالحجج والبراهين لا بالهوى. فكل شيء يثبت بالحجة فهو ثابت أبدا، لا زوال له ولا انقطاع، وكل شيء يثبت بالهوى فهو يزول، وينقطع عن قريب لزوال الهوى.
{وهو محسن} يحتمل وجوها: أحدها: ما ذكرنا... والثاني: {وهو محسن} إلى الناس بالمعروف والبر. والثالث: {وهو محسن} أي عالم كما يقال: أحسن أي علم.
{وإلى الله عاقبة الأمور} هذا يخرج على وجوه: أحدها: وإلى الله تدبير عاقبة الأمور وتقديرها لا إلى الخلق. والثاني: إلى من له التدبير والتقدير ترجع عاقبة الأمور.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وهو محسن" أي: لا يخلط طاعاته بالمعاصي.
والتوثق: امتناع سبب الانتقاض وما ليس بموثق على سبب الانتقاض.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"فقد استمسك بالعروة الوثقى": قول لا إله إلا الله. وقيل العروة الوثقى: السبب الذي يوصل إلى رضا الله تعالى.
"وإلى الله عاقبة الأمور" أي: خاتمة الأمور.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما ذكر تعالى حال الكفرة أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين ليبين الفرق وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل.
«المحسن» الذي جمع القول والعمل، وهو الذي شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإحسان.
{العروة الوثقى} استعارة للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال.
والعرى موضع التعليق فكأن المؤمن متعلق بأمر الله فشبه ذلك {بالعروة}.
فقوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله} إشارة إلى الإيمان {وهو محسن} إشارة إلى العمل الصالح فتكون الآية في معنى قوله تعالى: {من آمن وعمل صالحا}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فمن جادل في الله فلا متمسك له، عطف عليه قوله في شرح حال أضدادهم: {ومن يسلم} أي في الحال أو الاستقبال {وجهه} أي قصده وتوجهه وذاته كلها.
ولما كان الكل صائرين إليه، رافدين عليه: من استمسك بالأوثق، ومن استمسك بالأوهى، ومن لم يتمسك بشيء، إلا أن الأول صائر مع السلامة، وغيره مع العطب، قال مظهراً تعظيماً للأمر ولئلا يقيد بحيثية عاطفاً على ما تقديره: فيصير إلى الله سالماً، فإلى الله عاقبته لا محالة: {وإلى الله} أي الملك الأعظم وحده تصير {عاقبة الأمور} أي كما أنه كانت منه بادئتها، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادئة.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{بالعروة الوثقى}... لأنّ أوثق العرى جانب الله تعالى فإن كل ما عداه هالك منقطع وهو باق لا انقطاع له.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه الاستسلام المطلق لله -مع إحسان العمل والسلوك- الاستسلام بكامل معناه، والطمأنينة لقدر الله. والانصياع لأوامر الله وتكاليفه وتوجيهاته مع الشعور بالثقة والاطمئنان للرحمة، والاسترواح للرعاية، والرضى الوجداني، رضى السكون والارتياح.. كل أولئك يرمز له بإسلام الوجه إلى الله. والوجه أكرم وأعلى ما في الإنسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا مقابل قوله {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} [لقمان: 20] إلى قوله: {يدعوهم إلى عذاب السعير} [لقمان: 21]، فأولئك الذين اتبعوا ما وجدوا ءاباءهم عليه من الشرك على غير بصيرة فوقعوا في العذاب، وهؤلاء الذين لم يتمسكوا بدين آبائهم وأسلموا لله لما دعاهم إلى الإسلام فلم يصدّهم عن اتباع الحق إلف ولا تقديس آباء؛ فأولئك تعلقوا بالأوهام واستمسكوا بها لإرضاء أهوائهم، وهؤلاء استمسكوا بالحق إرضاء للدليل وأولئك أرضوا الشيطان وهؤلاء اتّبعوا رضى الله.
و {الأمور: جمع أمر وهو الشأن. وتقديم {إلى الله} للاهتمام والتنبيه إلى أن الراجع إليه يلاقي جزاءه وافياً.
ومعنى "يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ".. أخلص وجهه في عبادته لله وحده، وبذلك يكون في معية الله، ومن كان في معية ربه فلا يجرؤ الشيطان على غوايته، ولا يضيع وقته معه، إنما ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه، فالذي ينجيك من الشيطان أن تسلم وجهك لله.