{ 18-21 } { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا }
يخبر تعالى بفضله ورحمته ، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم ، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة ، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها " بيعة الرضوان " لرضا الله عن المؤمنين فيها ، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه ، وأنه لم يجئ لقتال أحد ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، معظما له ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك ، فجاء خبر غير صادق ، أن عثمان قتله المشركون ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين ، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة ، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين ، وأن لا يفروا حتى يموتوا ، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال ، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات ، { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الإيمان ، { فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } شكرا لهم على ما في قلوبهم ، زادهم هدى ، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله ، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم ، وتطمئن بها قلوبهم ، { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وهو : فتح خيبر ، لم يحضره سوى أهل الحديبية ، فاختصوا بخيبر وغنائمها ، جزاءا لهم ، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته .
ثم بشر الله - تعالى - المؤمنين الصادقين ببشارات متنوعة ، ومدحهم مدحا عظيما ، وبين - سبحانه - أن سنته فى خلقه لن تتخلف ، فقال - تعالى - : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين . . . بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .
واللام فى قوله - تعالى - : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة . . . } هى الموطئة للقسم ، وتسمى هذه البيعة الرضوان .
والشجرة : كانت بالحديبية ، وقد جلس - صلى الله عليه وسلم - تحتها ليبايع أصحابه على الموت أو على عدم الفرار ، فبايعوه على ذلك - ما عدا بعض المنافقين - ، وقد كان الناس بعد ذلك يترددون على تلك الشجرة ويصلون تحتها ، ويدعون الله - تعالى - فأمر عمر - رضى الله عنه - قطعها خشية الافتتان بها . أى : والله لقد رضى الله - تعالى - عن المؤمنين الذين بايعوك - أيها الرسول الكريم - تحت الشجرة ، على الموت من أجل إعلاء كلمة ربهم .
وفى هذه الجملة أسمى وأعلى ما يتمناه إنسان ، وهو رضا الله - تعالى - عنه ودخوله فى زمرة العباد الذين ظفروا بمغفرته - سبحانه - ورحمته .
قال الآلوسى - رحمه الله - : والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة هذه المبايغة . وقوله - سبحانه - : { تَحْتَ الشجرة } متعلق بيبايعونك . . وفى التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة فى النفوس . ولذا استوجبت رضا الله - تعالى - الذى لا يعادله شئ ، ويستتبع مالا يكاد يخطر على البال .
ويكفى فيما ترتب على ذلك ما أخرجه أحمد عن جابر ، ومسلم عن أم بشر ، عنه ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " .
وصح برواية الشيخين وغيرهما فى أولئك المؤمنين من حديث جابر ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم " أنتم خير أهل الأرض . . " .
وقوله - تعالى - : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } بشارة أخرى لهؤلاء المؤمنين الصادقين .
أى : لقد رضى - سبحانه - عن الذين بايعوك تحت الشجرة - أيها الرسول الكريم - حيث علم ما فى قلوبهم من الصدق والإِخلاص وإيثار الآخرة على الأولى ، فأنزل السكينة والطمأنينة والأمان عليهم ، { وَأَثَابَهُمْ } أى : وأعطاهم منحهم فتحا قريبا ، وهو فتح خيبر ، الذى كان بعد صلح الحديبية بأقل من شهرين .
وقيل المراد به : فتح مكة ، والأول أرجح ، لأن فتح خيبر لم يكن فتح أقرب منه ، ولأن المسلمين قد أصابوا من فتح خيبر غنائم كثيرة .
وقد أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى تلك الغنائم فقال : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا . . . } .
يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم ، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية .
قال البخاري : حدثنا محمود ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون ، فقلت{[26852]} ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة ، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم{[26853]} .
وقوله : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الصدق والوفاء ، والسمع والطاعة ، { فَأَنزلَ السَّكِينَةَ } : وهي الطمأنينة ، { عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ،
ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم ، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا{[26854]} وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }
القول في تأويل قوله تعالى : { لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } .
يقول تعالى ذكره : لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفرّوا ، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة ، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة .
وكان سبب هذه البيعة ما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش ، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء ، فظنّ أنه قد قتل ، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت ، فبايعوه على ذلك ، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان ، وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم : ألفا وأربع مئة ، وفي قول بعضهم : ألفا وخمس مئة ، وفي قول بعضهم : ألفا وثلاث مئة . ذكر الرواية بما وصفنا من سبب هذه البيعة :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على جمل له يقال له الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، وذلك حين نزل الحديبية ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرادوا قتله ، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم ، عن عكرِمة مولى ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليهم ، ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها مني عثمان بن عفان ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته ، فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ، فنزل عن دابته ، فحمله بين يديه ، ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قُتل .
قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل ، قال : «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القَوْمَ » ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت فكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ، ولكنه بايعنا على أن لا نفر ، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، كان جابر بن عبد الله يقول : لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد اختبأ إليها ، يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل .
حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن إياس بن سلمة ، قال : قال سلمة : بينما نحن قائلون زمن الحديبية ، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس البيعة البيعة ، نزل روح القدس صلوات الله عليه ، قال : فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت شجرة سمرة ، قال : فبايعناه ، وذلك قول الله : لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ .
حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري ، قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر ، قال : كان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان جديّ يقال له حَزْن ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، فأتيناها من قابل ، فعُميّت علينا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : ثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بُكير بن الأشجّ أنه بلغه أن الناس بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَلَى ما اسْتَطَعْتُمْ » . والشجرة التي بُويع تحتها بفج نحو مكة ، وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت ، فجعل بعضهم يقول هنا ، وبعضهم يقول : ههنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا هذا التكلف فذهبت الشجرة وكانت سَمُرة إما ذهب بها سيل ، وإما شيء سوى ذلك . ذكر عدد الذين بايعوا هذه البيعة :
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في عددهم ، ونذكر الروايات عن قائلي المقالات التي ذكرناها إن شاء الله تعالى . ذكر من قال : عددهم ألف وأربع مئة :
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر ، قال : كنا يوم الحُديبية ألفا وأربع مئة ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت ، قال : فبايعناه كلنا إلا الجدّ بن قيس اختبأ تحت إبط ناقته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، أخبرني القاسم بن عبد الله بن عمرو ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله «أنهم كانوا يوم الحُديبية أربع عشرة مئة ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي سمرة ، فبايعنا غير الجدّ بن قيس الأنصاريّ ، اختبأ تحت إبط بعيره ، قال جابر : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت » .
حدثنا يوسف بن موسى القطان ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري ، قالا : حدثنا ليث بن سعد المصري ، قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مئة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، فبايعناه على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت ، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قيل له : إن جابر بن عبد الله يقول : إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مئة ، قال سعيد : نسي جابر هو قال لي كانوا ألفا وأربع مئة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كنا أصحاب الحُديبية أربع عشرة مئة .
ذكر من قال : كان عدتهم ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ قال : كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين .
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، فجعلت لهم مغانم خيبر كانوا يومئذ خمس عشرة مئة ، وبايعوا على أن لا يفرّوا عنه .
ذكر من قال ذلك : كانوا ألفا وثلاث مئة :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول : كانوا يوم الشجرة ألفا وثلاث مئة ، وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين .
وقوله : فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم يقول تعالى ذكره : فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة ، من صدق النية ، والوفاء بما يبايعونك عليه ، والصبر معك فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يقول : فأنزل الطمأنينة ، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم ، فأنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ : أي الصبر والوقار .
وقوله : وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا يقول : وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا ، وذلك فيما قيل : فتح خيبر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال : خيبر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا وهي خيبر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال : بلغني أنها خيبر .
{ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } روي : أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع ، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا ألفا وثلثمائة أو وأربعمائة أو وخمسمائة ، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا عنهم وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة . { فعلم ما في قلوبهم } من الإخلاص . { فأنزل السكينة عليهم } الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح . { وأثابهم فتحا قريبا } فتح خيبر غب انصرافهم ، وقيل مكة أو هجر .
وقوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة ، وبهذا سميت بيعة الرضوان . والرضى بمعنى الإرادة ، فهو صفة ذات . ومن جعل { إذ } مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة ، جاز أن يجعل { رضي } بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم ، فالرضى على هذا صفة فعل ، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها .
وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلاً يبين على قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً ، وإنما جاء معتمراً ، فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي{[10419]} وحمله على جمل يقال له الثعلب ، فلما كلمهم ، عقروا الجمل ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعه الأحابيش ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسول الله أنا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني ، وليس هناك من بني عدي بن كعب من يحميني ، ولكن ابعث عثمان بن عفان ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي ، فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره ، حتى إذا جاء قريشاً فأخبرهم ، فقالوا له : إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه ، فقال عثمان : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة ، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وقالوا : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ، ونادى مناديه : أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا الجد بن قيس المنافق ، وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال :
«هذه يد لعثمان ، وهي خير من يد عثمان ثم جاء عثمان بعد ذلك سالماً » .
والشجرة سمرة{[10420]} كانت هنالك ، ذهبت بعد سنين ، فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها ، فقال عمر سيروا هذا التكلف{[10421]} .
وقوله تعالى : { فعلم ما في قلوبهم } قال قوم معناه : من كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف ، فيه مذمة للصحابة . وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه : من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه ، وهذا قول حسن ، لكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه ، أما أنه يحتمل أن يجازى ب { السكينة } والفتح القريب والمغانم .
وقال آخرون معناه : من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر رضي الله عنه وغيره{[10422]} ، وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول { السكينة } والتعريض بالفتح القريب . و { السكينة } هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له .
وقرأ الناس : «وأثابهم » قال هارون وقد قرئت : «وأتابهم » بالتاء بنقطتين والفتح القريب : خيبر ، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج إليها لم يلبث ، قال أبو جعفر النحاس ، وقد قيل : الفتح القريب : فتح مكة .