{ 2 هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب }- وهم يهود بني النضير - { من ديارهم }عند أول إخراج لهم من جزيرة العرب . { ما ظننتم }- أيها المسلمون-{ أن يخرجوا }من ديارهم لقوتهم ، { وظنوا }- هم - { أنهم مانعتهم حصونهم }من بأس الله ، فأخذهم الله من حيث لم يظنوا أن يؤخذوا من جهته ، وألقى في قلوبهم الفزع الشديد ، يخربون بيوتهم بأيديهم ليتركوها خاوية ، وأيدي المؤمنين ليقضوا على تحصنهم ، فاتعظوا بما نزل بهم يا أصحاب العقول .
ومن ذلك ، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها .
وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجلوا إلى خيبر ، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا ، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر ، ثم عمر رضي الله عنه ، [ أخرج بقيتهم منها ] .
{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ يَخْرُجُوا } من ديارهم ، لحصانتها ، ومنعتها ، وعزهم فيها .
{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم ، وحسبوا أنهم لا ينالون بها ، ولا يقدر عليها أحد ، وقدر الله تعالى وراء ذلك كله ، لا تغني عنه الحصون والقلاع ، ولا تجدي فيهم القوة والدفاع .
ولهذا قال : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : من الأمر والباب ، الذي لم{[1027]} يخطر ببالهم أن يؤتوا منه ، وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } وهو الخوف الشديد ، الذي هو جند الله الأكبر ، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة ، ولا قوة ولا شدة ، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها ، واطمأنت نفوسهم إليها ، ومن وثق بغير الله فهو مخذول ، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال{[1028]} فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم ، التي هي محل الثبات والصبر ، أو الخور والضعف ، فأزال الله قوتها وشدتها ، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا ، لا حيلة لهم ولا منعة معه{[1029]} فصار ذلك عونا عليهم ، ولهذا قال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، على أن لهم ما حملت الإبل .
فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ، التي استحسنوها ، وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم ، فهم الذين جنوا على أنفسهم ، وصاروا من أكبر عون عليها ، { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } أي : البصائر النافذة ، والعقول الكاملة ، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، ووصل إليهم النكال بذنوبهم ، والعبرة بعموم اللفظ{[1030]} لا بخصوص السبب ، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار ، وهو اعتبار النظير بنظيره ، وقياس الشيء على مثله ، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة ، وبذلك يزداد{[1031]} العقل ، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي ، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ، وأن الله خفف عنهم .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين ، حيث نصرهم على أعدائهم ، فقال : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر . . } .
والمراد بالذين كفروا من أهل الكتاب هنا : يهود بنى النضير ، وقصتهم معروفة فى كتب السنة والسيرة ، وملخصها : أن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون فى ضواحى المدينة فذهب إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستعين بهم فى دفع دية لقتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ ، فاستقبلوه استقبالا حسنا ، وأظهروا له - صلى الله عليه وسلم - استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه منهم ، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فمن منكم يصعد إلى أعلى هذا البيت الذى يجلس تحته محمد - صلى الله عليه وسلم - فيلقي عليه حجرا فيريحنا منه .
فتعهد واحد منهم بذلك ، وقبل أن يتم فعله ، نزل جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما أضمره اليهود من غدر وخيانة فرجع - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة - وأخبر أصحابه بما أضمره له يهود بني النضير ، ونزل قوله - تعالى - : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يستعدوا لحصار بني النضير ، وتأديبهم على غدرهم . . . فحاصرهم المؤمنون بضعا وعشرين ليلة ، وانتهى الأمر بإجلائهم ، عن المدينة ، فمنهم من ذهب إلى خبير ، ومنهم من ذهب إلى غيرها .
واللام فى قوله - تعالى - : { لأَوَّلِ الحشر } متعلقة بأخرج ، والحشر : الجمع ، يقال : حشر القائد جنده إذا جمعهم ، ومنه قوله - تعالى - : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } أى : هو - سبحانه - الذى أخرج - بقدرته - الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ، وهم يهود بنى النضير عند مبدا الحشر المقدر لهم فى علمه ، بأن مكنكم - أيها المؤمنون - من محاصرتهم وجمعهم فى مكان واحد ، ثم طردهم من المدينة المنورة إلى أماكن أخرى ، بسبب غدرهم وسوء صنيعهم .
قال صاحب الكشاف : اللام فى قوله : { لأَوَّلِ الحشر } تتعلق بأخرج ، وهى مثل اللام فى قوله : { ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } وفى قولك : جئته لوقت كذا . . .
والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أول الحشر . ومعنى أول الحشر : أن هذا أول حشرهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط . . . أو المعنى : هذا أول حشرهم ، وآخر حشرهم : إجلاء عمر - رضى الله عنه - لهم من خيبر إلى الشام .
وقيل معناه : أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم ، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقصر - سبحانه - إخراجهم عليه فقال : { هو الذى أخرج الذين كفروا } ، مع أن المسلمين قد اشتركوا فى إخراجهم عن طريق محاصرتهم ؛ للإشعار بأن السبب الحقيقى فى إخراجهم من ديارهم ، هو ما قذفه الله - تعالى - فى قلوبهم من الرعب . . . أما محاصرة المؤمنين لهم فهي أسباب فرعية ، قد تؤدي إلى أخراجهم ، وقد لا تؤدي ، وللإشعار - أيضا - بأن كل شىء إنما هو بقضاء الله وقدره .
ووصفهم - سبحانه - بالكفر وبأنهم من أهل الكتاب ، للتشنيع عليهم وزيادة مذمتهم ، حيث إنهم جمعوا بين رذيلتين : رذيلة الكفر بالحق ، ورذيلة عدم العلم بكتابهم الذي أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل ، والذى يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر .
و " من " في قوله - تعالى - : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } للبيان ، حتى لا يظن بأن المراد بالذين كفروا هنا ، مشركو قريش ، وإن كان الجميع يشتركون فى الكفر والفسوق والعصيان .
وقوله - تعالى - : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ . . . } تذكير للمؤمنين بنعم الله - تعالى - عليهم .
أي : ما ظننتم - أيها المؤمنون - أن يهود بني النضير سيخرجون من ديارهم بتلك السهولة ، وذلك لتملكهم لألوان من القوة ، كقوة السلاح ، وكثرة العدد ، ووجود من يحميهم ممن يسكنون معكم فى المدينة ، وهم حلفاؤهم من بنى قومهم ، كبنى قريظة وغيرهم ، ومن غير بنى قومهم كالمنافقين الذين وعدوهم ومنوهم .
وقوله : { وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله } معطوف على ما قبله .
أي : أنتم - أيها المؤمنون - ظننتم أن اليهود لن يخرجوا من ديارهم لما معهم من قوة ، وهم - أيضا - ظنوا أن حصونهم ستمنع بأس الله عنهم ، وأنها ستحول بينهم وبين خروجهم منها ، ونَصْرِكم عليهم .
وقوله - سبحانه - : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب . . } متفرع عن الظن السابق ، الذى ظنه المؤمنون ، والذي ظنه أعداؤهم وهم بنو النضير .
أى : أنتم ظننتم أنهم لن يخرجوا من ديارهم ، وهم ظنوا - أيضا - أن حصونهم ستمنعهم من نصركم عليهم ، فكانت النتيجة أن أتاهم بأس الله وعقابه من حيث لم يحتسبوا ومن حيث لم يخطر ببال ، بأن قذف فى قلوبهم الرعب والفزع فخرجوا من حصونهم التى تمنعوا بها ، ومن ديارهم التى سكنوها زمنا طويلا صاغرين أذلاء .
والتعبير بقوله : { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } إشارة إلى أن ما نزل بهم من هزيمة ، لم يكونوا يتوقعونها أصلا ، إذ الاحتساب مبالغة فى الحسبان ، أي : أتاهم عقاب الله - تعالى - من المكان الذى كانوا يعتقدون أمانهم فيه ، وفى زمان لم يكونوا أصلا يتوقعون حلول هزيمتهم عنده .
وعبر - بحانه - بالقذف ، لأنه كناية عن الرمى بقوة وعنف وسرعة . والرعب : شدة الخوف والفزع ، وأصله : الامتلاء . تقول : رعبت الحوض إذا ملأته .
أي : وقذف - سبحانه - في قلوبهم الرعب الذي ملأها بالجزع والفزع فاستسلموا بسبب ذلك لما حكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم .
ثم ين - سبحانه - ما حدث منهم خلال جلائهم فقال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار } والتخريب : إسقاط البناء وهدمه أو إفساده .
أي : أن هؤلاء اليهود ، بلغ من سوء نيتهم ، ومن اضطراب أمرهم ، أنهم عندما أجمعوا أمرهم على الرحيل عن المدينة ، أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم ، عن طريق إسقاط بنائها ، وهدم السليم منها ، وإزالة ما اشتملت عليه من أبواب وغيرها . . . حتى لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم . .
وأخذوا يخربونها - أيضا - بأيدي المؤمنين ، أي : بسبب أن المؤمنين كانوا يزيلون من طريقهم كل عقبة حتى يقتحموا عليهم ديارهم ، فترتب على ذلك أن هدموا بعض بيوت بني النضير من الخارج ، ليستطيعوا التمكن منهم .
قال صاحب الكشاف : ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين ؟ قلت : لما عرَّضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه . فكأنهم أمروهم به ، وكلفوهم إياه . .
أي : أن يهود بنى النضير بسبب تحصنهم فى ديارهم ، ومحاولتهم عدم النزول على حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حملوا المؤمنين على تخريب هذه الحصون من الخارج ، ليدخلوا عليهم . . .
والخطاب في قوله - تعالى - : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } لكل من يصلح له .
قال الجمل فى حاشيته : والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شىء إلى شىء ، ولهذا سميت العبرة عبرة ، لأنها تنتقل من العين إلى الخد . وسمى علم التعبير بذلك ، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ، لأنها تنقل المعانى من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ، لأنه ينتقل بواسطه عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، ولهذا قال القشيرى : الاعتبار هو النظر فى حقائق الأشياء ، وجهات دلالتها ، ليعرف بالنظر فيها شىء آخر ، أى : إذا كان الأمر كان بينا لكم - أيها الناس - ، فاعتبروا واتعظوا يا أصحاب العقول السليمة ، والعيون الناظرة ، بما جرى لهؤلاء اليهود ، حيث دبر الله - تعالى - أمر إخراجهم من ديارهم تدبيرا حكيما ، ونصر المؤمنين عليهم بأيسر طريق ، وجعل ديارهم من بعدهم ، خير عبرة وعظة لكل ذى بصر ، فقد خلفوها من بعدهم شاهد صدق على أن الغدر نهايته الخسران . . . وعلى أن النصر إنما هو لمن اتبع الصدق والوفاء بالعهد . . .
قال الآلوسى : واشتهر الاستدلال بهذه الجملة ، على مشروعية العمل بالقياس الشرعى ، قالوا : لأنه - تعالى - أمر فيها بالاعتبار ، وهو العبور والانتقال من الشىء إلى غيره ، وذلك متحقق فى القياس ، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع .
ثم يقص نبأ الحادث الذي نزلت فيه السورة :
هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ؛ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب .
ومن هذه الآيات نعلم أن الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر . والله هو فاعل كل شيء . ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة ، توقع في الحس أن الله تولى هذا الإخراج من غير ستار لقدرته من فعل البشر ! وساق المخرجين للأرض التي منها يحشرون ، فلم تعد لهم عودة إلى الأرض التي أخرجوا منها .
ويؤكد فعل الله المباشر في إخراجهم وسوقهم بالفقرة التالية في الآية :
( ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) . .
فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يسلمون في تصور وقوعه ! فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث لا تتوقعون أنتم أن تخرجوهم منها كما أخرجوا . وبحيث غرتهم هذه المنعة حتى نسوا قوة الله التي لا تردها الحصون !
( فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا . وقذف في قلوبهم الرعب ) .
أتاهم من داخل أنفسهم ! لا من داخل حصونهم ! أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب ، ففتحوا حصونهم بأيديهم ! وأراهم أنهم لا يملكون ذواتهم ، ولا يحكمون قلوبهم ، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم ! فضلا على أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم . وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم . فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها . وهكذا حين يشاء الله أمرا . يأتي له من حيث يعلم ومن حيث يقدر ، وهو يعلم كل شيء ، وهو على كل شيء قدير . فلا حاجة إذن إلى سبب ولا إلى وسيلة ، مما يعرفه الناس ويقدرونه . فالسبب حاضر دائما والوسيلة مهيأة . والسبب والنتيجة من صنعه ، والوسيلة والغاية من خلقه ؛ ولن يمتنع عليه سبب ولا نتيجة ، ولن يعز عليه وسيلة ولا غاية . . . وهو العزيز الحكيم . .
ولقد تحصن الذين كفروا من أهل الكتاب بحصونهم فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولقد امتنعوا بدورهم وبيوتهم فسلطهم الله على هذه الدور والبيوت يخربونها بأيديهم ، ويمكنون المؤمنين من إخرابها :
( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) . .
وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب ، في تلك الصورة الموحية ، وهذه الحركة المصورة . . والله - سبحانه - يأتيهم من وراء الحصون فتسقط بفعلهم هم ؛ ثم يزيدون فيخربونها بأيديهم وأيدي المؤمنين .
هنا يجيء أول تعقيب في ظل هذه الصورة ، وعلى إيقاع هذه الحركة :
( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) . .
وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه . والقلوب متهيئة للعظة متفتحة للاعتبار .
و { الذين كفروا من أهل الكتاب } هم بنو النضير ، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة ، وكان يقال للقبيلتين الكاهنان ، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون ، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة ، ولهم نخل وأموال عظيمة ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته إبلهم حاشى الحلقة وهي جميع السلاح ، فخرجوا إلى بلاد مختلفة فذلك قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } . وقوله تعالى : { لأول الحشر } اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن { الحشر } : الجمع والتوجيه إلى ناحية ما . فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : أراد حشر القيامة أي هذا أوله ، والقيام من القبور آخره ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : «امضوا هذا أول الحشر وإنا على الأثر »{[11017]} . وقال عكرمة والزهري وغيرهما : المعنى { لأول }موضع{ الحشر } وهو الشام ، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام ، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير{[11018]} «اخرجوا » ، قالوا : إلى أين ؟ قال : «إلى أرض المحشر » ، وقال قوم في كتاب المهدوي : المراد { الحشر } في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج ، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله ، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره ، وأخبرت الآية بمغيب وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر ، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه : «لا يبقين دينان في جزيرة العرب » ، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم قال الخليل في ما حكى الزجاج : سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات ، وفي هذه الإحاطة نظر . وقوله تعالى : { ما ظننتم أن يخرجوا } معناه : لمنعتهم وكثرة عددهم ، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم ، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم وقوله تعالى : { من الله } يريد : من جند الله حزب الله وقوله تعالى : { فأتاهم الله } عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل .
وقرأ الجمهور : «الرعْب » بسكون العين ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ، بضم العين ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ، فقال الضحاك والزجاج وغيره : كلما هدم المسلمون من حصنهم في القتال هدموا هم من البيوت وخربوا الحصون دأباً فهذا معنى تخريبهم . وقال الزهراوي وغيره كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافاً{[11019]} ولا سارية إلا قلعوه وخربوا البيوت عنه ، وقوله تعالى : { وأيدي المؤمنين } من حيث فعلهم ، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم ، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين . وقال جماعة من المفسرين : إنهم لما أزمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي . قال قتادة : خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوا هم من داخل . وقرأ جمهور القراء : «يخْرِبون » بسكون الخاء وتخفيف الراء . وقرأ أبو عمرو وحده والحسن بخلاف عنه وقتادة وعيسى بفتح الخاء وشد الراء . فقال فريق من العلماء اللغويين القراءتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء : خرب ، معناه : هدم وأفسد وأخرب معناه ترك الموضع خراباً وذهب عنه ، ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } أي العيون والأفهام .
{ هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخرُجُواْ } .
يجوز أن تجعل جملة { هو الذي أخرج الذين كفروا } إلى آخرها استئنافاً ابتدائياً لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره ، ولِمَا يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإِخراج العجيب .
ويجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في الأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنتها فاتحة السورة من أهل أحوالهما .
ويجوز أن تجعل مبينة لجملة { وهو العزيز الحكيم } [ الحشر : 1 ] لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزّه وحكمته .
وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد للمقصود من السورة وهو قسمة أموال بني النضير .
وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإِخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير .
ولذلك فَجملة { ما ظننتم أن يخرجوا } تتنزل منزلة التعليل لجملة القصر .
وجملة { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } عطف على العلة ، أي وهم ظنوا أن المسلمين لا يغلبونهم . وإنما لم يقل : وظنوا أن لا يُخرَجوا . مع أن الكلام على خروجهم ، من قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا } فعدل عنه إلى { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } أي مانعتهم من إخراجهم استغناء عن ذكر المظنون بذكر علة الظن . والتقدير : وظنوا أن لا يخرجوا لأنهم تمنعهم حصونهم ، أي ظنوا ظناً قوياً معتمدين على حصونهم .
والمراد ب { الذين كفروا من أهل الكتاب } بنو النضير ( بوزن أمير ) وهم قبيلة من اليهود استوطنوا بلاد العرب هم وبنو عمهم قُريظة ، ويهودُ خَيبر ، وكلهم من ذرية هَارون عليْه السلام وكان يقال لبني النضير وبني قريظة : الكاهنان لأن كل فريق منهما من ذرية هارون وهو كاهن الملة الإسرائيلية ، والكهانة : حفظ أمور الديانة بيده ويد أعقابه .
وقصة استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين للشام وأرض العرب فقصَّروا في قتالهم وتوفي موسى قريباً من ذلك . فلما علموا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار إسرائيل في أريحَا فقال لهم قومهم : أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا ، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قُرى حول يثرب ( المدينة ) وبنوا لأنفسهم حصُوناً وقرية سَموها الزَّهرة . وكانت حصونهم خمسة سيأتي ذكر أسمائها في آخر تفسير الآية ، وصاروا أهل زرع وأموال . وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عَادِيا ، وكَعب بن الأشرف ، وابن أبي الحُقَيق ، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج حِلف ومعاملة ، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر .
ووسموا ب { الذين كفروا } لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم تسجيلاً عليهم بهذا الوصف الذميم وقد وُصفوا ب { الذين كفروا } في قوله تعالى : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } [ البقرة : 89 ] إلى قوله : { عذاب مهين } في سورة [ البقرة : 90 ] .
وعليه فحرف من } في قوله : { من أهل الكتاب } بيانية لأن المراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود أي الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أهل الكتاب وأراد بهم اليهود ، فوصفوا ب { من أهل الكتاب } لئلا يظن أن المراد ب { الذين كفروا } المشركون بمكة أو بقية المشركين بالمدينة فيُظنّ أن الكلام وعيد .
وتفصيل القصة التي أشارت إليها الآية على ما ذكره جمهور أهل التفسير . أن بني النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاؤوا فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، ويقال : إن مصالحتهم كانت عقبَ وقعة بَدر لمَّا غلَب المسلمون المشركين لأنهم توسّموا أنه لا تهزم لهم راية ، فلما غُلب المسلمون يوم أُحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة ، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر ( كدأب اليهود في موالاة القوي ) فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بني النضير في أربعين راكباً إلى مكة فحَالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا عوناً لهم على مقاتلة المسلمين ، فلما أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمرَ محمدَ بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة في حصنه في قصة مذكورة في كتب السنة والسير .
وذكر ابن إسحاق سبباً آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة في صفر سنة أربع كان عَمرو بن أمية الضَّمْري أسيراً عند المشركين فأطلقه عامر بن الطفيل . فلما كان راجعاً إلى المدينة أقبل رجلان من بني عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلا مع عمرو بن أمية ، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أنه يثأر بهما من بني عامر الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة ، ولما قدم عمرو بن أمية أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « لقد قتلت قتيلين ولآدِيَنَّهُمَا » ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين إذ كان بين بني النضير وبين بني عامر حِلف ، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلعه الله عليه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتهيّؤ لحربهم .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسيْر إليهم في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة فسار إليهم هو والمسلمون وأمرهم بأن يَخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودسّ إليهم عبد الله بنُ أُبيّ ابنُ سلول أن لا يخرجوا من قريتهم وقال : إنْ قاتلَكم المسلمون فنحن معكم ولننصُرنَّكم وإن أخرجتم لَنَخُرجَنّ معكم فَدَرِّبُوا على الأزقة ( أي سُدُّوا منافذ بعضها لبعض ليكون كلّ درب منها صالحاً للمدافعة ) وحصِّنوها ، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم ، وأن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا عبد الله بن أُبيّ ابن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا ويَحملَ كلّ ثلاثة أبيات منهم حِمْل بعير مما شاؤوا من متاعهم ، فجعلوا يخرّبون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب .
فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر ، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام في مدن ( أريحا ) وأذرعات من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحِيرة .
واللام في قوله : { لأول الحشر } لام التوقيت وهي التي تدخل على أول الزمان المجعول ظرفاً لعمللٍ مثل قوله تعالى : { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } [ الفجر : 24 ] أي من وقت حياتي . وقولهم : كتب ليوم كذا . وهي بمعنى ( عند ) . فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدأ الحشر المقدر لهم ، وهذا إيماء إلى أن الله قَدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب . وهذا التقدير أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي . فالتعريف في { الحشر } تعريف العهد .
والحشر : جمع ناس في مكان قال تعالى : { وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحّار عليم } [ الشعراء : 36 - 37 ] .
والمراد به هنا : حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها ، أي جمْعهم للخروج ، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تُجمع من متفرق ديار البلاد .
وليس المراد به : حشر يوم القيامة إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ « أول » لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه .
وعن الحسن : أنه حمل الآية على حشر القيامة وركّبوا على ذلك أوهاماً في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة « سورة بني النضير » وفي جعل هذا الإِخراج وقتاً لأوّل الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود وذلك ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته إذ قال : « لا يبقى دينان في جزيرة العرب » وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب . وقيل : وُصف الحشر بالأول لأنه أول جلاء أصاب بني النضير ، فإن اليهود أُجْلُوا من فلسطين مرتين مرة في زمن ( بختنصر ) ومرة في زمن ( طيطس ) سلطان الروم وسَلِم بنو النضير ومن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب . فكان أول جلاء أصابهم جلاء بني النضير .
{ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله } .
أي كان ظن المسلمين وظن أهل الكتاب متواردين على تعذر إخراج بني النضير من قريتهم بسبب حصانة حصونهم .
وكان اليهود يتخذون حصوناً يأوون إليها عندما يغزوهم العدوّ مثل حصون خيبر .
وكانت لبني النضير ستة حصون أسماؤها : الكُتيبة ( بضم الكاف وفتح المثناة الفوقية ) والوَطِيح ( بفتح الواو وكسر الطاء ) والسُّلاَلم ( بضم السين ) والنَّطَاةُ ( بفتح النون وفتح الطاء بعدها ألف وبهاء تأنيث آخرَه ) والوَخْدَة ( بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة ودال مهملة ) وشَقّ ( بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف ) .
ونظم جملة { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم } على هذا النظم دون أن يقال : وظَنُّوا أن حصونهم مانعتُهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد { مانعتهم } إليه فيكون الابتداء بضميرهم مشيراً إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومَنَعة ، وأن مَنَعة حصونهم هي من شؤون عزتهم .
وفي تقديم { مانعتهم } وهو وصف على { حصونهم } وهو اسم والاسم بحسب الظاهر أولى بأن يجعل في مرتبة المبتدأ ويجعل الوصف خبراً عنه ، فعدل عن ذلك إشارة إلى أهمية منَعة الحصون عند ظنهم فهي بمحل التقديم في استحضار ظنهم ، ولا عبرة بجواز جعل حصونهم فاعلاً باسم الفاعل وهو { مانعتهم } بناء على أنه معتمد على مسند إليه لأن محامل الكلام البليغ تجري على وجوه التصرف في دقائق المعاني فيصير الجائز مرجوحاً . قال المرزوقي في شرح ( باب النسب ) قول الشاعر وهو منسوب إلى ذي الرمة في غير ديوان الحماسة :
فإن لم يكن إلا مُعَرَّج ساعة *** قليلاً فإني نافع لي قليلها
يجوز أن يكون ( قليلها ) مبتدأ و ( نافع ) خبر مقدم عليه أي لقصد الاهتمام . والجملة في موضع خبر ( إنّ ) والتقدير : إني قليلها نافع لي .
{ فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين فاعتبروا ياأولي الألباب } .
تفريع على مجموع جملتي { ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } اللتين هما تعليل للقصر في قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } .
وتركيب ( أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) تمثيل ، مُثِّل شأنُ الله حين يسّر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عِدة وعُدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوّه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها .
وهذا يشبه التمثيل الذي في قوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] .
والاحتساب : مبالغة في الحسبان ، أي الظنّ أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصّن والمنَعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم .
والقذف : الرمي باليد بقوة . واستعير للحصول العاجل ، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية [ آل عمران : 151 ] { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } .
والمعنى : وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام . وقَذْفُ الرعب في قلوبهم هو من أحوال إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله ، وعطفُه على أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا عطف خاص على عام للاهتمام .
و{ الرعب } : شدة الخوف والفزع . وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « نصرت بالرعب » ، أي برعب أعداء الدين .
وجملة { يخربون بيوتهم } حال من الضمير المضاف إليه { قلوبهم } لأن المضاف جزء من المضاف إليه فلا يمنع مجيء الحال منه .
والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم فإنهم وإن خربوا بيوتهم باختيارهم لكن داعي التخريب قهري .
والإِخراب والتخريب : إسقاط البناء ونقضه . والخراب : تهدم البناء .
وقرأ الجمهور { يخربون } بسكون الخاء وتخفيف الراء المكسورة مضارع : أَخرب . وقرأه أبو عمرو وحْده بفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة مضارع : خَرَّب . وهما بمعنى واحد . قال سيبويه : إن أفعلت وفَعَّلت يتعاقبان نحْو أخربته وخَرّبته ، وأفرحته وفرّحته . يريد في أصل المعنى . وقد تقدم ما ذكر من الفرق بين : أَنزل ونَزّل في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير .
وأشارت الآية إلى ما كان من تخريب بني النضير بيوتهم ليأخذوا منها ما يصلح من أخشاب وأبواب مما يحملونه معهم ليبنوا به منازلهم في مهاجرهم ، وما كان من تخريب المؤمنين بقية تلك البيوت كلما حلّوا بقعة تركها بنو النضير .
وقوله : { بأيديهم } هو تخريبهم البيوت بأيديهم ، حقيقةٌ في الفعل وفي ما تعلق به ، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سبَّبوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير .
فعطف { أيدي المؤمنين } على { بأيديهم } بحيث يصير متعلّقاً بفعل { يخربون } استعمال دقيق لأن تخريب المؤمنين ديار بني النضير لمّا وجدوها خاوية تخريب حقيقي يتعلق المجرور به حقيقة .
فالمعنى : ويسببون خراب بيوتهم بأيدي المؤمنين فوقع إسناد فعل { يخربون } على الحقيقة ووقع تعلق وتعليق { وأيدي المؤمنين } به على اعتبار المجاز العقلي ، فالمجاز في التعليق الثاني .
وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعلهم وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم .
والاعتبار : النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها . وهو افتعال من العبرة ، وهي الموعظة . وقول « القاموس » : هي العجب قصور .
وتقدم في قوله تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } في سورة [ يوسف : 111 ] .
والخطاب في قوله : { يا أولي الأبصار } موجّه إلى غير معين . ونودي أولو الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بَصر مما شاهد ذلك ، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم ، فتكون له عبرة قدرة الله على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال . وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين .
وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإِثبات حجّيّة القياس بناء على أنه من الاعتبار .