{ 65 - 67 } { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
أي : هو تعالى قادر على إرسال العذاب إليكم من كل جهة . { مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ } أي : يخلطكم { شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } أي : في الفتنة ، وقتل بعضكم بعضا .
فهو قادر على ذلك كله ، فاحذروا من الإقامة على معاصيه ، فيصيبكم من العذاب ما يتلفكم ويمحقكم ، ومع هذا فقد أخبر أنه قادر على ذلك . ولكن من رحمته ، أن رفع عن هذه الأمة العذاب من فوقهم بالرجم والحصب ، ونحوه ، ومن تحت أرجلهم بالخسف .
ولكن عاقب من عاقب منهم ، بأن أذاق بعضهم بأس بعض ، وسلط بعضهم على بعض ، عقوبة عاجلة يراها المعتبرون ، ويشعر بها العالمون{[291]}
{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ } أي : ننوعها ، ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها دالة على الحق . { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ما خلقوا من أجله ، ويفقهون الحقائق الشرعية ، والمطالب الإلهية .
ثم بين - سبحانه - قدرته على تعذيبهم تهديدا لهم حتى يخشوا بأسه أثر بيان قدرته على تنجيتهم فقال - تعالى - : { قُلْ هُوَ . . . } .
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين ، إن الله - تعالى - وحده هو القادر على أن يرسل عليكم عذابا عظيما من فوقكم أى : من جهة العلو كما أرسل على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة ، أو من تحت أرجلكم أى من السفل كما حدث بالنسبة لفرعون وجنده من الغرق ، وبالنسبة لقارون حيث خسف به الأرض .
وقيل : من فوقكم أى من قبل سلاطينكم وأكابركم ، ومن تحت أرجلكم أى : من قبل سفلتكم وعبيدكم . وقيل : هو حبس المطر والنبات .
وتصوير العذاب بأنه آت من أعلى أو من أسفل أشد وقعا فى النفس من تصويره بأنه آت من جهة اليمين أو من جهة الشمال ، لأن الآتى من هاتين الجهتين قد يتوهم دفعه ، أما الآتى من أعلى أو من أسفل فهو عذاب قاهر مزلزل لا مقاومة له ولا ثبات معه .
وقوله { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أى : يخلطكم فرقا مختلفة الأهواء ، متباينة المشارب ، مضطربة الشئون ، كل فرقة تتبع إماما لها تقاتل معه غيرها ، فيزول الأمن ويعم الفساد .
و { شِيَعاً } جمع شيعة وهم الأتباع والأنصار ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، وقوله { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } معطوف على ما قبله ، أى : يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل ، لأن من عواقب ذلك اللبس التقاتل والتصارع . وفى هاتين الجملتين تصوير مؤثر للعذاب الذى يذوقه الناس بحواسهم إذ يجعلهم - سبحانه - شيعا وأحزابا غير منعزل بعضها عن بعض ، فهى أبدا فى جدال وصراع وفى خصومة ونزاع ، وفى بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك ، وذلك أشنع ما تصاب به الجماعة فيأكل بعضها بعضا .
ثم تختم الآية بهذا التعبير الحكيم { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
أى : انظر وتدبر - أيها الرسول الكريم - أو أيها العاقل كيف ننوع الآيات والعبر والعظات بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى لعلهم يفقهون الحق ويدركون حقيقة الأمر ، فينصرفوا عن الجحود والمكابرة ، ويكفوا عن كفرهم وعنادهم .
هذا ، وقد ساق ابن كثير عقب تفسير هذه الآية جملة من الأحاديث منها ما رواه الإمام مسلم عن سعد بن أبى وقاص أنه أقبل مع النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية ، حتى إذا مر بمسجد بنى معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه . ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربى ثلاثا فأعطانى ثنتين ومنعنى واحدة . سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالسَّنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها ، وسألت ربى أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " .
بعد هذا التهديد الشديد للمعاندين اتجه القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمره أن يصارح قومه بسوء مصيرهم إذا ما استمروا فى ضلالهم فقال :
وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة ! فما هي مرة وتنتهي ، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون :
( قل : هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ، أو من تحت أرجلكم ، أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) . .
وتصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت ، أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال . فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال ! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق ، أو يأخذه من تحت ، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل ، لا مقاومة له ولا ثبات معه ! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه ، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء .
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله ؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء ؛ لونا آخر بطيئا طويلا ؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار :
( أو يلبسكم شيعا ، ويذيق بعضكم بأس بعض ) . .
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد ؛ الذي يذوقونه بأيديهم ، ويجرعونه لأنفسهم ؛ إذ يجعلهم شيعا وأحزابا ، متداخلة لا يتميز بعضها عن بعض ، ولا يفاصل بعضها بعضا ، فهي أبدا في جدال وصراع ، وفي خصومة ونزاع ، وفي بلاء يصبه هذا الفريق على ذاك . .
ولقد عرفت البشرية في فترات كثيرة من تاريخها ذلك اللون من العذاب ، كلما انحرفت عن منهج الله وتركت لأهواء البشر ونزواتهم وشهواتهم وجهالتهم وضعفهم وقصورهم . . تصريف الحياة وفق تلك الأهواء والنزوات والشهوات والجهالة والضعف والقصور . وكلما تخبط الناس وهم يضعون أنظمة للحياة وأوضاعا وشرائع وقوانين وقيما وموازين من عند أنفسهم ؛ يتعبد بها الناس بعضعهم بعضا ؛ ويريد بعضهم أن يخضع لأنظمته وأوضاعه وشرائعه وقوانينه البعض الآخر ، والبعض الآخر يأبى ويعارض ، وأولئك يبطشون بمن يأبى ويعارض . وتتصارع رغباتهم وشهواتهم وأطماعهم وتصوراتهم . فيذوق بعضهم بأس بعض ، ويحقد بعضهم على بعض ، وينكر بعضهم بعضا ، لأنهم لا يفيئون جميعا إلى ميزان واحد ؛ يضعه لهم المعبود الذي يعنوا له كل العبيد ، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارا عن الخضوع له ، ولا يحس في نفسه صغارا حين يخضع له .
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم ، ثم يزاول هذا الحق فعلا ! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة ؛ لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا ، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض ؛ ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من الله - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص . . ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض ! وهم شيع ؛ ولكنها ليست متميزة ولا منفصله ولا مفاصلة ! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد !
وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها - والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها ؛ باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب : ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام " دار إسلام " تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هي " الأمة المسلمة " وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه ، جاهلية وأهل جاهلية . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج ؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز ، حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد ؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود !
إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله ، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره ، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتهالقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعا .
وطريق هذه الدعوة واحد . ولن يكون في شأنها إلا ما كان على عهود رسل الله جميعا ، صلوات الله عليهم وسلامه :
هذا إخبار يتضمن الوعيد ، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري ، وقال أبيّ بن كعب وأبو العالية وجماعة معهما : هي للمؤمنين وهم المراد ، قال أبي بن كعب : هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، ثم لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض ، واثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم ، وقال الحسن بن أبي الحسن : بعضها للكفار وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها للمؤمنين ، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين ، وروي من حديث جابر وخالد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت { أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } قال أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو من تحت أرجلكم } قال : أعوذ بوجهك فلما نزلت { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } قال هذه أهون أو هذه أيسر{[4952]} ، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت في المؤمنين ، وقال الطبري : وغير ممتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار ، وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث الموطأ وغيره ، وقد قال ابن مسعود : إنها أسوأ الثلاث ، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة ، والحق أنها أيسرها كما قال عليه السلام ، و { من فوقكم ومن تحت أرجلكم } لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك { من فوقكم } الرجم { ومن تحت أرجلكم } الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : { من فوقكم } ولاة الجور { ومن تحت أرجلكم } سفلة السوء وخدمة السوء .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود ، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ و { يلبسكم } على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعاً فرقاً بتشيع بعضها لبعض ، واللبس :الخلط ، وقال المفسرون هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة ، وقرأ أبو عبد الله المدني «يُلبسكم » بضم الياء من ألبس ، فهوعلى هذه استعارة من اللباس ، فالمعنى أو يلبسكم الفتنة شيعاً و { شيعاً } منصوب على الحال وقد قال الشاعر [ النابغة الجعدي ] : [ المتقارب ]
لبِسْت أُناساً فأفْنَيْتهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4953]}
فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة ، والبأس القتل وما أشبهه من المكاره ، { ويذيق } استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار ، وهي استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن ، وقرأ الأعمش «ونذيق » بنون الجماعة ، وهي نون العظمة في جهة الله عز وجل ، وتقول أذقت فلاناً العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو هذا ، وفي قوله تعالى { انظر كيف نصرف } الآية ، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم ، و «الفقه » الفهم .