المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

27- لقد صدق الله رسوله رؤياه دخول المسجد الحرام بتحققها . أقسم : لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين عدوكم ، بين محلق رأسه ومقصر ، وغير خائفين ، فعلم سبحانه الخير الذي لم تعلموه في تأخير دخول المسجد الحرام ، فجعل من قبل دخولكم فتحا قريبا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ 27-28 } { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }

يقول تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه ، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت ، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى ، ورجعوا من غير دخول لمكة ، كثر في ذلك الكلام منهم ، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ فقال : " أخبرتكم أنه العام ؟ " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " قال الله هنا : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها ، { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي : في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف ، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحًا قَرِيبًا }

ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها ، هدى ورحمة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

ثم أكد الله - تعالى - صدق ما شاهد النبى - صلى الله عليه وسلم - فى رؤياه ، وبين الحكمة التى من أجلها أرسله إلى الناس كافة فقال - تعالى - : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ . . . بالله شَهِيداً } .

قال الآلوسى ما ملخصه : " رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى المنام قبل خروجه إلى الحديبية ، أنه هو واصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصروا ، فقص الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا واستبشروا ، وظنوا أنهم سيدخلونها فى عامهم هذا ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق ، فلما تأخر ذلك قال بعض المنافقين - على سبيل التشكيك والاعتراض - والله ما حلقنا ولا قصرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت هذه الآية .

وقد روى عن عمر - رضى الله عنه - أنه قال نحو ذلك - على سبيل الفهم والاستكشاف - ليزداد يقينه . .

والصدق يكون بالقول ويكون بالفعل ، وما فى الآية صدق بالفعل ، وهو التحقيق ، أى حقق - سبحانه - للرسول رؤيته . .

وقوله { بالحق } صفة لمصدر محذوف ، أى : صدقا ملتبسا بالحق ، أو بمحذوف على أنه حال من الرؤيا ، أى : رؤيا ملتبسة بالحق .

والمعنى : والله لقد أرينا رسولنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة التى لا تتخلف ، ولا يحوم حولها ريب أو شك ، وحققنا له ما اشتملت عليه هذه الرؤيا من بشارات سارة ، وعطايا كريمة ، على حسب ما اقتضته حكمتنا وإرادتنا .

وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ } جواب لقسم محذوف وقوله : { آمِنِينَ } وما بعده ، حال من فاعل { لَتَدْخُلُنَّ } . . أى : والله لتدخلن - أيها المؤمنون - المسجد الحرام فى عامكم المقبل إن شاء الله ، حالة كونكم آمنين من كل فزع ، وحالة كونكم بعضكم يحلق شعر رأسه كله ، وبعضكم يكتفى بقص جزء منه ، وحالة كونكم لا تخافون أذى المشركين بعد ذلك .

وقوله : { إِن شَآءَ الله } فيه ما فيه من الإِشعار بأن الرؤيا مع صدقها ، تحقيقها موكول إلى مشيئة الله - تعالى - وغلى قدرته ، لا إلى أحد سواه ، وفيه ما فيه من تعليم الناس وإرشادهم إلى أنهم يجب عليهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه عند إرادتهم لفعل من الأفعال ، كما قال - تعالى - { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } قال بعض العلماء : " إن الله - تالى - استثنى فيما يعلم ، ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون " .

ويرى بعضهم : أن الاستثناء هنا لتحقيق الخبر وتأكيده .

استدل بعضهم بهذه الآية على أن الحلق غير متعين فى النسك ، بل يجزئ عنه التقصير ، إلا أن الحلق أفضل ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم اغفر للمحلقين قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ، قال اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ، قال اللهم اغفر للمحلقين . . ثم قال بعد الثالثة : والمقصرين " .

واستدل بها - أيضا - على أن التقصير للراس دون اللحية ، ودون سائر شعر البدن ، إذ الظاهر أن المراد : ومقصرين شعر رءوسكم .

وقوله : { لاَ تَخَافُونَ } تأكيد وتقرير لقوله { آمِنِينَ } أى : آمنين عند دخولكم مكة للعمرة ولا تخافون بعد إتمامها ، لأن عناية الله - تعالى - ورعايته معكم . .

وقوله : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } بيان للحكمة فى تأخير دخولهم مكة عام الحديبية ، وتمكنيهم من دخولها فى العام الذى يليه .

والجملة الكريمة معطوفة على قوله : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ . . . } أى : والله لقد حقق الله - تعالى - لرسوله رؤياه فى دخول مكة ، ولكن فى الوقت الذى يشاؤه ويختاره وتقتضيه حكمته ، لأنه - تعالى - علم ما لم تعلموه أنتم من أن المصلحة فى عدم دخولكم مكة فى عام صلح الحديبية ، وأن هذا الصلح هو خير لكم من دخولها ، لما يترتب عليه من منافع كثيرة لكم ، وقد جعل - سبحانه - بفضله - وإحسانه { مِن دُونِ ذَلِكَ } أى : من قبل دخولكم مكة ، وطوافكم بالمسجد الحرام { فَتْحاً قَرِيباً } هو فتح خيبر الذى خرجتم منه بالغنائم الوفيرة ، أو فتح خيبر ومعه صلح الحديبية ، الذى قال فيه الزهرى لا فتح فى الإِسلام كان أعظم من صلح الحديبية .

هذا ، وقد بسط الإِمام ابن كثير ما أصابه المسلمون بعد صلح الحديبية من خيرات فقال ما ملخصه : " ورجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية فى ذى القعدة من السنة السادسة . . ثم خرج فى المحرم من السنة السابعة إلى خيبر ، ففتحها الله - تعالى - عليه . .

فلما كان فى ذى القعدة من السنة السابعة ، خرج إلى مكة معتمرا ، هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذى الحليفة ، وساق معه الهدى . . وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة فى قربها . فدخلها وبين يديه أصحابه يلبون ، وعبد الله بن رواحه آخذ بزمام ناقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينشد ويقول :

خلوا بنى الكفار عن سبيله . . . إنى شيهد أنه رسوله

وخرج المشركون من مكى لكى لا يروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، أما النساء والأطفال فقد جلسوا على لاطرق ينظرون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى المؤمنين .

ومكث الرسول وأصحابه بمكة ثلاثة أيام اعتمر خلالها هو وأصحابهن ثم عادوا إلى المدينة .

وهكذا تحققت رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الوقت الذى أراده - سبحانه –

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

18

ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام ؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام . فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا ، وينبئهم أنها منه ، وأنها واقعة ولا بد . وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا :

( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق : لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون . فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا . هو الذي أرسل رسوله بالهدى )( ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفى بالله شهيدا ) . .

فأما البشرى الأولى . بشرى تصديق رؤيا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ودخولهم المسجد الحرام آمنين ، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة ، لا يخافون . . فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد . ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية . إذ تم لهم فتح مكة ، وغلبة دين الله عليها .

ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان ؛ وهو يقول لهم : " لتدخلن المسجد الحرام - إن شاء الله - " . . فالدخول واقع حتم ، لأن الله أخبر به . ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء ، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب ، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية . والقرآن يتكئ على هذا المعنى ، ويقرر هذه الحقيقة ، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع ، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله . ووعد الله لا يخلف . ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق . إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين ، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور .

ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد ؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع - أي العام التالي لصلح الحديبية - خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية . فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي - كما أحرم وساق الهدي في العام قبله - وسار أصحابه يلبون . فلما كان [ صلى الله عليه وسلم ] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه . فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا فأخبروا أهل مكة . فلما جاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن ياجج ، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه . فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص ، فقال : يا محمد ، ما عرفناك تنقض العهد . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " وما ذاك ? " قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لم يكن ذلك ، وقد بعثنا به إلى ياجج " فقال : بهذا عرفناك ، بالبر والوفاء !

وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى أصحابه - رضي الله عنهم - غيظا وحنقا . وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه . فدخلها [ صلى الله عليه وسلم ] وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى ، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا } رأى صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا ، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أن ذلك يكون في عامهم ، فلما تأخر قال بعضهم والله ما حلقنا ولا قصرنا و لا رأينا البيت فنزلت والمعنى صدقة في رؤياه . { بالحق } ملتبسا به فإن ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدر له وهو العام القابل ، ويجوز أن يكون { بالحق } صفة مصدر محذوف أي صدقا ملتبسا { بالحق } وهو القصد إلى التمييز بين الثابت على الإيمان والمتزلزل فيه ، وأن يكون قسما إما باسم الله تعالى أو بنقيض الباطل وقوله : { لتدخلن المسجد الحرام } جوابه وعلى الأولين جواب قسم محذوف . { إن شاء الله } تعليق للعدة . بالمشيئة تعليما للعباد ، أو إشعارا بأن بعضهم لا يدخل لموت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا ، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه . { آمنين } حال من الواو والشرط معترض . { محلقين رؤوسكم ومقصرين } أي محلقا بعضكم ومقصرا آخرون . { لا تخافون } حال مؤكدة أو استئناف أي لا تخافون بعد ذلك . { فعلم ما لم تعلموا } من الحكمة في تأخير ذلك . { فجعل من دون ذلك } من دون دخولكم المسجد أو فتح مكة . { فتحا قريبا } هو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الموعود .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر{[10428]} ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا ؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .

واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .

وقرأ ابن مسعود : «إن شاء الله لا تخافون » بدل { آمنين } .

ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله تعالى{[10429]} بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .

واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : «نعم » وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .


[10428]:في بعض النسخ: وأخذ الناس في الصدر، والصدر هنا: الرجوع والعودة، يقال: صدر عن المكان والورود صدرا وصدرا: رجع وانصرف.
[10429]:يريد أن الله تعالى دفع بهم عن أهل مكة من الكفار، ولم يكن للمسلمين من دخول مكة رحمة بمن فيها من المؤمنين الذين لم يكونوا معروفين.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} وذلك أن الله عز وجل أرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه ففرحوا واستبشروا وحبسوا أنهم داخلوه في عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، فردهم الله عز وجل عن دخول المسجد الحرام إلى غنيمة خيبر... فأنزل الله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}. {لتدخلن المسجد الحرام} يعني العام المقبل {إن شاء الله} يستثنى على نفسه مثل قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} ويكون ذلك تأديبا للمؤمنين ألا يتركوا الاستثناء، في رد المشيئة إلى الله تعالى {آمنين} من العدو {محلقين رءوسكم ومقصرين} من أشعاركم {لا تخافون} عدوكم {فعلم} الله أنه يفتح عليهم خيبر قبل ذلك فعلم {ما لم تعلموا} فذلك قوله: {فجعل من دون ذلك} يعني قبل ذلك الحلق والتقصير {فتحا قريبا} يعني غنيمة خيبر وفتحها، فلما كان في العام المقبل بعدما رجع من خيبر أدخله الله هو وأصحابه المسجد الحرام، فأقاموا بمكة ثلاثة أيام فحلقوا وقصروا تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصّرا بعضهم رأسه، ومحلّقا بعضهم... قال ابن زيد، في قوله:"لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ "إلى آخر الآية. قال: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي قَدْ رأيْتُ أنّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ» فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك، فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله "لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ" فقرأ حتى بلغ "وَمُقَصّرِينَ لا تَخافُونَ" إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكوننّ ذلك...

وقوله: "فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا" يقول تعالى ذكره: فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين، الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم، فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك...

وقوله: "فجَعَلَ مِنْ دُون ذلكَ فَتْحا قَرِيبا" اختلف أهل التأويل في الفتح القريب، الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين؛ فقال بعضهم: هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش... عن مجاهد، قوله: "مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا" قال: النحر بالحُديبية، ورجعوا فافتتحوا خَيبر، ثم اعتمر بعد ذلك، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة...

عن الزهريّ، قوله: فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا يعني: صلح الحُديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر...

وقال آخرون: عنى بالفتح القريب في هذا الموضع: فتح خيبر... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد الحرام، ودون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك، ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح، بل عمّ ذلك، وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك.

والصواب أن يعم كما عمه، فيقال: جعل الله من دون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لتدخلُنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} هذا يخرّج على وجهين:

أحدهما: على الأمر أن ادخلوا المسجد الحرام...

والثاني: أن يكون قوله: {لتدخلنّ المسجد الحرام} على الوعد، فتُخرّج الثُّنيا المذكورة على وجهين:

أحدهما: على التبرُّك والتيمُّن كما يُتبرّك بذكر اسمه في فعل يُفعَل، والله أعلم. والثاني: على الأمر لكل في نفسه إذا أخبر غيره أنه يدخل أن يقول {إن شاء الله} كما يؤمر بالثّنيا من أخبر آخر شيئا أنه يفعله لقوله تعالى عز وجل: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا} {إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 و24]...

.

{محلّقين رؤوسكم ومقصِّرين} يخبر أنهم يدخلون المسجد الحرام محلّقين ومقصّرين...

فإن قيل: ما الحكمة في أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج للحج عام الحديبية على علم منه أنه لا يصل إلى مكة، وأنه يحال بينه وبين دخول مكة وقضاء النُّسك، إذ لا يُحمَل على ذلك إلا بأمر من الله تعالى، ليس هو كغيره من الناس: إنهم يفعلون أفعالا بلا أمر، ثم يُمنعون، أو يُنهون عن ذلك. فأما رسول الله صلى لله عليه وسلم فلا يفعل شيئا إلا عن أمر منه له بذلك؟ قيل: يحتمل أن ما أمره بذلك مع علمه بأنهم يُمنعون ذلك تعليما منه رسوله وأمته حكم الإحصار أن من حُصِر عن الحج، ومُنع عن دخول مكة لقضاء النّسُك ماذا يلزمه؟ وكيف يخرج منه؟ ولله تعالى أن يعلّم خلقه أحكام شريعته، أو يخبره بأمر يأمرهم بذلكن أو يخبر بخبرهم، ومرة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهم بما شاء إذ له الحكم والأمر في الخلق، والله أعلم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{لقد}. ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران: أحدهما من جهة الواقع وهو غيب عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، عبر بالصدق والحق فقال تعالى: {صدق الله} أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال {رسوله} صلى الله عليه وسلم الذي هو أعز الخلائق عنده...

{الرؤيا} التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر آخرون...

{بالحق} لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه، وكان الواقع يطابقه لا يخرم شيء منه عن شيء منه، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت حقاً... {لا تخافون} أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين لهم بالنصر...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام. فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا، وينبئهم أنها منه، وأنها واقعة ولا بد. وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا:

(لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخلن المسجد الحرام -إن شاء الله- آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون. فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا. هو الذي أرسل رسوله بالهدى) (ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا)..

فأما البشرى الأولى. بشرى تصديق رؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ودخولهم المسجد الحرام آمنين، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة، لا يخافون.. فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد. ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية. إذ تم لهم فتح مكة، وغلبة دين الله عليها.

ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان؛ وهو يقول لهم: "لتدخلن المسجد الحرام -إن شاء الله -".. فالدخول واقع حتم، لأن الله أخبر به. ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية. والقرآن يتكئ على هذا المعنى، ويقرر هذه الحقيقة، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله. ووعد الله لا يخلف. ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق. إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور.

ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع- أي العام التالي لصلح الحديبية -خرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية. فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي- كما أحرم وساق الهدي في العام قبله -وسار أصحابه يلبون. فلما كان [صلى الله عليه وسلم] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص، فقال: يا محمد، ما عرفناك تنقض العهد. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " وما ذاك؟ " قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج " فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء!

وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وإلى أصحابه- رضي الله عنهم -غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه. فدخلها [صلى الله عليه وسلم] وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها.