المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

18 - لقد رضي الله عن المؤمنين حين يعاهدونك مختارين تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم من الإخلاص والوفاء لرسالتك ، فأنزل الطمأنينة عليهم وأعطاهم بصدقهم في البيعة وإتمام الصلح عِزا عاجلا . ومغانم كثيرة وعدهم الله بها يأخذونها ، وكان الله غالبا على كل شيء ، ذا حكمة بالغة في كل ما قضاه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

{ 18-21 } { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا }

يخبر تعالى بفضله ورحمته ، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم ، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة ، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها " بيعة الرضوان " لرضا الله عن المؤمنين فيها ، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه ، وأنه لم يجئ لقتال أحد ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، معظما له ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك ، فجاء خبر غير صادق ، أن عثمان قتله المشركون ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين ، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة ، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين ، وأن لا يفروا حتى يموتوا ، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال ، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات ، { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الإيمان ، { فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } شكرا لهم على ما في قلوبهم ، زادهم هدى ، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله ، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم ، وتطمئن بها قلوبهم ، { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وهو : فتح خيبر ، لم يحضره سوى أهل الحديبية ، فاختصوا بخيبر وغنائمها ، جزاءا لهم ، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

ثم بشر الله - تعالى - المؤمنين الصادقين ببشارات متنوعة ، ومدحهم مدحا عظيما ، وبين - سبحانه - أن سنته فى خلقه لن تتخلف ، فقال - تعالى - : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين . . . بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } .

واللام فى قوله - تعالى - : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة . . . } هى الموطئة للقسم ، وتسمى هذه البيعة الرضوان .

والشجرة : كانت بالحديبية ، وقد جلس - صلى الله عليه وسلم - تحتها ليبايع أصحابه على الموت أو على عدم الفرار ، فبايعوه على ذلك - ما عدا بعض المنافقين - ، وقد كان الناس بعد ذلك يترددون على تلك الشجرة ويصلون تحتها ، ويدعون الله - تعالى - فأمر عمر - رضى الله عنه - قطعها خشية الافتتان بها . أى : والله لقد رضى الله - تعالى - عن المؤمنين الذين بايعوك - أيها الرسول الكريم - تحت الشجرة ، على الموت من أجل إعلاء كلمة ربهم .

وفى هذه الجملة أسمى وأعلى ما يتمناه إنسان ، وهو رضا الله - تعالى - عنه ودخوله فى زمرة العباد الذين ظفروا بمغفرته - سبحانه - ورحمته .

قال الآلوسى - رحمه الله - : والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة هذه المبايغة . وقوله - سبحانه - : { تَحْتَ الشجرة } متعلق بيبايعونك . . وفى التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة فى النفوس . ولذا استوجبت رضا الله - تعالى - الذى لا يعادله شئ ، ويستتبع مالا يكاد يخطر على البال .

ويكفى فيما ترتب على ذلك ما أخرجه أحمد عن جابر ، ومسلم عن أم بشر ، عنه ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " .

وصح برواية الشيخين وغيرهما فى أولئك المؤمنين من حديث جابر ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم " أنتم خير أهل الأرض . . " .

وقوله - تعالى - : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } بشارة أخرى لهؤلاء المؤمنين الصادقين .

أى : لقد رضى - سبحانه - عن الذين بايعوك تحت الشجرة - أيها الرسول الكريم - حيث علم ما فى قلوبهم من الصدق والإِخلاص وإيثار الآخرة على الأولى ، فأنزل السكينة والطمأنينة والأمان عليهم ، { وَأَثَابَهُمْ } أى : وأعطاهم منحهم فتحا قريبا ، وهو فتح خيبر ، الذى كان بعد صلح الحديبية بأقل من شهرين .

وقيل المراد به : فتح مكة ، والأول أرجح ، لأن فتح خيبر لم يكن فتح أقرب منه ، ولأن المسلمين قد أصابوا من فتح خيبر غنائم كثيرة .

وقد أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى تلك الغنائم فقال : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا . . . } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

18

( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحا قريبا ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزا حكيما ) . .

وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين . أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون ؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم ، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود . . وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم ، أنهم هم ، بأشخاصهم وأعيانهم ، يقول الله عنهم : لقد رضي عنهم . ويحدد المكان الذي كانوا فيه ، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى : ( إذ يبايعونك تحت الشجرة ) . . يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق ، على لسان ربه العظيم الجليل . .

يالله ! كيف تلقوا - أولئك السعداء - تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي ? التبليغ الذي يشير إلى كل أحد ، في ذات نفسه ، ويقول له : أنت . أنت بذاتك . يبلغك الله . لقد رضي عنك . وأنت تبايع . تحت الشجرة ! وعلم ما في نفسك . فأنزل السكينة عليك !

إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع : ( الله ولي الذين آمنوا ) . . فيسعد . يقول في نفسه : ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم ? ويقرأ أو يسمع : ( إن الله مع الصابرين ) . . فيطمئن . يقول في نفسه : ألست ارجو أن أكون من هؤلاء الصابرين ? وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون . واحدا واحدا . أن الله يقصده بعينه وبذاته . ويبلغه : لقد رضي عنه ! وعلم ما في نفسه . ورضي عما في نفسه !

يا لله ! إنه أمر مهول !

( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) . . ( فعلم ما في قلوبهم . فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) . .

علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم . وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم . وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز ، وضبط لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] طائعين مسلمين صابرين .

فانزل السكينة عليهم . . بهذا التعبير الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار ، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة ، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا .

( وأثابهم فتحا قريبا ) . . هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا ، وجعلته بدء فتوح كثيرة . قد يكون فتح خيبر واحدا منها . وهو الفتح الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله الله للمسلمين . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم ، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية .

قال البخاري : حدثنا محمود ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون ، فقلت{[26852]} ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة ، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم{[26853]} .

وقوله : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الصدق والوفاء ، والسمع والطاعة ، { فَأَنزلَ السَّكِينَةَ } : وهي الطمأنينة ، { عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ،

ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم ، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا{[26854]} وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }


[26852]:- (1) في م: "وقلت".
[26853]:- (2) صحيح البخاري برقم (4163).
[26854]:- (3) في ت: "تأخذونها".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

وقوله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } تشريف وإعلام برضاه عنهم حين البيعة ، وبهذا سميت بيعة الرضوان . والرضى بمعنى الإرادة ، فهو صفة ذات . ومن جعل { إذ } مسببة بمعنى لأنهم بايعوا تحت الشجرة ، جاز أن يجعل { رضي } بمعنى إظهار النعم عليهم بسبب بيعتهم ، فالرضى على هذا صفة فعل ، وقد تقدم القول في المبايعة ومعناها .

وكان سبب هذه المبايعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث إلى مكة رجلاً يبين على قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً ، وإنما جاء معتمراً ، فبعث إليهم خراش بن أمية الخزاعي{[10419]} وحمله على جمل يقال له الثعلب ، فلما كلمهم ، عقروا الجمل ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعه الأحابيش ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسول الله أنا قد علمت فظاظتي على قريش وهم يبغضونني ، وليس هناك من بني عدي بن كعب من يحميني ، ولكن ابعث عثمان بن عفان ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي ، فنزل عن دابته فحمله عليها وأجاره ، حتى إذا جاء قريشاً فأخبرهم ، فقالوا له : إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف ، وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه ، فقال عثمان : ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إن بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة ، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحديبية من مكة على عشرة أميال ، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، وقالوا : لا نبرح إن كان هذا حتى نلقى القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ، ونادى مناديه : أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فما تخلف عن البيعة أحد ممن شهد الحديبية إلا الجد بن قيس المنافق ، وحينئذ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال :

«هذه يد لعثمان ، وهي خير من يد عثمان ثم جاء عثمان بعد ذلك سالماً » .

والشجرة سمرة{[10420]} كانت هنالك ، ذهبت بعد سنين ، فمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فاختلف أصحابه في موضعها ، فقال عمر سيروا هذا التكلف{[10421]} .

وقوله تعالى : { فعلم ما في قلوبهم } قال قوم معناه : من كراهة البيعة على الموت ونحوه وهذا ضعيف ، فيه مذمة للصحابة . وقال الطبري ومنذر بن سعيد معناه : من الإيمان وصحته والحب في الدين والحرص عليه ، وهذا قول حسن ، لكنه من كانت هذه حاله فلا يحتاج إلى نزول ما يسكنه ، أما أنه يحتمل أن يجازى ب { السكينة } والفتح القريب والمغانم .

وقال آخرون معناه : من الهم بالانصراف عن المشركين والأنفة في ذلك على نحو ما خاطب فيه عمر رضي الله عنه وغيره{[10422]} ، وهذا تأويل حسن يترتب معه نزول { السكينة } والتعريض بالفتح القريب . و { السكينة } هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى والصبر له .

وقرأ الناس : «وأثابهم » قال هارون وقد قرئت : «وأتابهم » بالتاء بنقطتين والفتح القريب : خيبر ، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف بالمؤمنين إلى المدينة وقد وعده الله بخيبر وخرج إليها لم يلبث ، قال أبو جعفر النحاس ، وقد قيل : الفتح القريب : فتح مكة .


[10419]:هو خراش بن أمية بن ربيعة بن الفضل الخزاعي، ثم الكلبي، شهد المُريسيع والحديبية، وحلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ. أو في العمرة التي تليها، قال ابن السكن: روي عنه حديثا واحدا، وقيل:إنه شهد خيبر وما بعدها.
[10420]:السَّمُرَةُ: ضرب من شجر الطلح، جمعه: أسمر، والطلح: شجر عظام من شجر العضاه ترعاه الإبل.
[10421]:الخبر كما رواه ابن جرير كاملا يقول:"زعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أن كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، ويعضهم يقول: ها هنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا هذا التكلف، فذهبت الشجرة وكانت سمراء، إما ذهب بها سيل وإما شيء سوى ذلك.
[10422]:وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد عقد صلح الحديبية، وقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا، فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجابه أبو بكر رضي الله عنه بمثل ما أجاب صلوات الله وسلامه عليه، فلم يلبث أن نزل القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: نعم، فطابت نفسه.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَثَٰبَهُمۡ فَتۡحٗا قَرِيبٗا} (18)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين" إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ "يعني بيعة أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رسولَ الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة. وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء، فظنّ أنه قد قتل، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت، فبايعوه على ذلك، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان، وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم: ألفا وأربع مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وخمس مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وثلاث مئة... وقوله: "فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم" يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النية، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك.

"فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ" يقول: فأنزل الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له...

وقوله: "وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا" يقول: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا، وذلك فيما قيل فتح خيبر...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لقد رضي الله عن المؤمنين} لما عزموا من الوفاء على ما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق لذلك والتحقيق لما عاهدوا من الوفاء. لذلك أخبر الله أن قد رضي الله عنهم لذلك. فنحن نستدل به على تصديق ذلك وتحقيقه...

{فعلم ما في قلوبهم} هذا يحتمل وجوها:

أحدها: ما ذكرنا: علم ما في قلوبهم من العزم على الوفاء والتصديق لما أعطوا بأيديهم من أنفسهم.

...

...

...

...

...

...

...

....

والثالث: علم ما في قلوبهم من الكراهة التي يذكرها أهل التأويل. لكن تلك الكراهة كراهة الطبع لا كراهة الاختيار لأنهم طمِعوا الوصول إلى البيت، ورَجَوا دخوله. فلما جرى الصلح بينهم على ألاّ يدخلوا عامهم ذلك، فانصرفوا، فاشتدّ ذلك عليهم، فكرِهوا ذلك كراهة الطبع لا كراهة الاختيار، وقد يكره طبع الإنسان شيئا، والخيار غيره كقوله عز وجل: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: 19] وكقول يوسف: {رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} [الآية: 33] محبة الاختيار لا محبّة الطبع إلى ما يدعونه...

أي أنزل عليهم ما يسكُن به قلوبهم لما علم تحقيق الوفاء لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق ما أعطوا من أنفسهم {وأثابهم} فكان ما كانوا يرجون، ويطمعون، من دخول مكة وما كرهت أنفسهم من الرجوع {فتحا قريبا} وهو فتح مكة، أو فتح خبير، والله أعلم...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصِدْقِ بصائرهم... فدلّ على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء لله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان. وقد أكّد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه...

وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني الصبر بصدق نياتهم؛ وهذا يدلّ على أن التوفيق يصحب صدق النية...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض {فأنزل السكينة عليهم} حتى بايعوا على الموت، وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات} فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية، وفي هذه الآية بين أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان، أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله {لقد رضي الله عن المؤمنين} وأما طاعة الرسول فبقوله {إذ يبايعونك تحت الشجرة} بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى: {ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{لقد رضي الله} أي الذي له الجلال والجمال {عن المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان...

{إذ} أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: {يبايعونك} في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت... {تحت الشجرة} واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان...

{فعلم} أي لما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين... {فأنزل السكينة} أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله...

. {وأثابهم} أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء... {قريباً} بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح لمكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا الدرس كله حديث عن المؤمنين، وحديث مع المؤمنين. مع تلك المجموعة الفريدة السعيدة التي بايعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تحت الشجرة. والله حاضر البيعة وشاهدها وموثقها، ويده فوق أيديهم فيها. تلك المجموعة التي سمعت الله تعالى يقول عنها لرسوله [صلى الله عليه وسلم]: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).. وسمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول لها: "أنتم اليوم خير أهل الأرض"..

حديث عنها من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله [صلى الله عليه وسلم] وحديث معها من الله سبحانه وتعالى:يبشرها بما أعد لها من مغانم كثيرة وفتوح؛ وما أحاطها به من رعاية وحماية في هذه الرحلة، وفيما سيتلوها؛ وفيما قدر لها من نصر موصول بسنته التي لا ينالها التبديل أبدا. ويندد بأعدائها الذين كفروا تنديدا شديدا. ويكشف لها عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام. ويؤكد لها صدق الرؤيا التي رآها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن دخول المسجد الحرام. وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون. وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض جميعا.

ويختم الدرس والسورة بتلك الصورة الكريمة الوضيئة لهذه الجماعة الفريدة السعيدة من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصفتها في التوراة وصفتها في الإنجيل، ووعد الله لها بالمغفرة والأجر العظيم..

(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيزا حكيما)..

وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين. أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود.. وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم، أنهم هم، بأشخاصهم وأعيانهم، يقول الله عنهم: لقد رضي عنهم. ويحدد المكان الذي كانوا فيه، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة).. يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق، على لسان ربه العظيم الجليل..

يالله! كيف تلقوا -أولئك السعداء- تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي؟ التبليغ الذي يشير إلى كل أحد، في ذات نفسه، ويقول له: أنت. أنت بذاتك. يبلغك الله. لقد رضي عنك. وأنت تبايع. تحت الشجرة! وعلم ما في نفسك. فأنزل السكينة عليك!

إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع: (الله ولي الذين آمنوا).. فيسعد. يقول في نفسه: ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم؟ ويقرأ أو يسمع: (إن الله مع الصابرين).. فيطمئن. يقول في نفسه: ألست ارجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون. واحدا واحدا. أن الله يقصده بعينه وبذاته. ويبلغه: لقد رضي عنه! وعلم ما في نفسه. ورضي عما في نفسه!

يا لله! إنه أمر مهول!

(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).. (فعلم ما في قلوبهم. فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا)..

علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم. وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم. وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز، وضبط لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] طائعين مسلمين صابرين.

فانزل السكينة عليهم.. بهذا التعبير الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا.

(وأثابهم فتحا قريبا).. هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا، وجعلته بدء فتوح كثيرة. قد يكون فتح خيبر واحدا منها. وهو الفتح الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله الله للمسلمين.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم). سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة» فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقاً إلى قلوبهم...