ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بأن هؤلاء اليهود الذين يزعمون أن الجنة خالصة لهم في غاية الحرص على الحياة فقال تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } .
ومعنى الآية الكريمة : ولتجدن - يا محمد - أولئك اليهود - الذين يزعمون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس - لتجدنهم أحب الناس للحياة ، وأحرصهم عليها ، وأشدهم كراهية للموت " وليس ذلك عندما يكونون متمتعين بالطمأنينة والعافية فقط بل هم كذلك حتى ولو زالت عنها كل معاني الراحة والطمأنينة ، فهم أحرص عليها حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث ، والذين يعتبرون نعيمهم الأكبر هو ما يتمتعون به من اللذائذ في هذه الدنيا ، وهم في حرصهم على الحياة يتمنون أن تطول أعمارهم دهوراً طويلة ، لا يصلل إليها خيال أحد ممن يحرصون عليها كما قال تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } . وبذلك تكون الآية الكريمة قد كذبتهم في دعواهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس لأن الأمر لو كان كما يزعمون لرحبوا بالانتقال إليها ، ولكنهم لا يحبون الموت ولا يكاد يخطر ببالهم ، ويحرصون كل الحرص على البقاء حتى مع سوء الحالة ورذالة العيش ، كما يشعر بذلك التنكير في قوله تعالى { على حَيَاةٍ } .
والمراد بالناس جميعهم ، وأفعل التفضيل في { أَحْرَصَ } على بابه ، لأن الحرص على الحياة غريزة في البشر إلا أنهم متفاوتون فيه قوة وكيفية وأسباباً ، كما قال الشاعر :
أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه . . . حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى . . . وحب الشجاع النفس أورده الحربا
فالناس جميعاً وإن كانوا يشتركون مع اليهود في الحرص على الحياة ، إلا أن اليهود يزيدون على سائر الناس أنهم أحرصهم ، وأنهم من أجل حرصهم عليها يضحون بدينهنم وبكرامتهم وبكل شيء .
ونكر - سبحانه - الحياة التي يحرصون عليها ، زيادة في تحقيرهم ، فكأنه - سبحانه - يقول : إنهم شديدوا الحرص على الحياة ، ولو كانت حياة بؤس وشقاء ، وللإِشعار بأ نما يهمهم هو ملطق الحياة كفيما كانت ، بصرف النظر عن العزة والكرامة ، فمن أمثال اليهود المشهورة " الحياة وكفى " .
ولا شك أن شدة التهالك على الحياة ، تؤدى إلى الجبن ، واحتمال الضيم ، وتجعل الأمة التي تنتشر فيها هذه الرذيلة لا تفرق بين الحياة الكريمة والحياة الرذيلة .
وقوله تعالى : { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } عطف على الناس ، لأنه لما كان قوله تعالى : { أَحْرَصَ الناس } في معنى : أحرص من جميع الناس صح أن يراعى المعنى ، فيكون قوله : { وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } معطوف عليه ، فيكون المعنى : أحرص من جميع الناس ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة .
والذين أشركون ، هم الذين جعلوا لله شركاء وإأنما أقردوا بالذكر مع أنهم من الناس ، مبالغة في توبيخ اليهود وذمهم ، لأنهم إذا زاد حرصهم على الحياة - وهم أهل كتاب - على المشركين الذين لا كتاب لهم ولا يدينون ببعث أو نشور كان ذلك دليلا على هوان نفوسهم ، وابتذال كرامتهم وعدم اعتدادهم بوصايا كتبهم التي تناهم عن الحرص على الحياة الرذيلة .
قال صاحب الكشاف : " وفيه توبيخ عظيم ، لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم ، فإذا زاد عليها في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء ، كان حقيقياً بأعظم التوبيخ ، فإن قلت : لم زاد حرصهم على حرص المشركين ؟ قلت : لأأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك " .
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر حرصهم على الحياة فقال تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش دهوراً كثيرة ، ليس من عادة الناس أن يحبوا بلوغها ، لأنهنا تؤدي بهم إلى أرذل العمر ، وعدم طيب العيش .
فالجملة الكريمة مستأنفة لإِظهار مغالاتهم في التهالك على الدنيا ولتحقيق عموم النوعية في الحياة المنكرة ، ولدفع ما يظنه بعض الناس من أن حرصهم على الحياة مهما اشتد فلن يصل بهم إلى تمنى أن يعيش الواحد منهم ألف عام ، أو أكثر ، فجيء بهذه الجملة الكريمة . لتحقيق أن تعلقهم بالدنيا يشمل حتى هذه السن المتطاولة ، التي لا هناء فيها ولا راحة ، والتي استعاذ من بلوغها المؤمنون .
ثم بين - سبحانه - أن تعميرهم الطويل لن ينجيهم من العقوبة ، لأن الموت لا يتركهم مهما طال عمرهم ، فقال تعالى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ } أي : وما أحد منهم بمبعده تعميره عن العذاب المعد له ، ولا بمنجيه منه .
والجملة الكريمة فيها بيان مصيرهم المحتوم ، وقطع لحبال مطامعهم ، لأن الموت سيلحقهم مهما بلغ عمرهم ، وسيلقون جزاءهم على سوء صنيعهم .
وفي التعبير { بِمُزَحْزِحِهِ } أشارة إلى أن طول عمرهم ، ليس له أي أثر في تخفيف العذاب عنهم ، وقوله : { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } تهديد ووعيد لهم لأنه - سبحانه - عليم بأعمالهم ، محيط بما يخفون وما يعلنون ، وسيجازيهم على كل ذلك بما يستحقون .
ومن هذا العرض للآيات الكريمة نرى أنها قد ردت على اليهود في دعواهم أن الجنة خالصة لهم ، رداً يبطل حجتهم ، ويفضح مزاعمهم ، ويكبت نفوسهم ، ويخرس ألسنتهم ، ويعلن أن الجنة إنما هي لمن أسلم وجهه لله وهو محسن ، وهم ليسوا من هذا النوع من الناس ولذا حرصوا على الحياة وفزعوا من الموت ، لأنهم يعلمون أن من ورائهم النار وبئس القرار بسبب ما ارتكبوا من سيئات ، واقترفوا من أكاذيب .
وليس هذا فحسب . ولكنها خصلة أخرى في يهود ، خصلة يصورها القرآن صورة تفيض بالزراية وتنضح بالتحقير والمهانة : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) . . أية حياة ، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميزة على الإطلاق ! حياة فقط ! حياة بهذا التنكير والتحقير ! حياة ديدان أو حشرات ! حياة والسلام ! إنها يهود ، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء . وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة . فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس ، وعنت الجباه جبنا وحرصا على الحياة . . أي حياة !
( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، والله بصير بما يعملون ) . .
يود أحدهم لو يعمر ألف سنة . ذلك أنهم لا يرجون لقاء الله ، ولا يحسون أن لهم حياة غير هذه الحياة . وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحس النفس الإنسانية أنها لا تتصل بحياة سواها ، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة . . إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة . نعمة يفيضها الإيمان على القلب . نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني . المحدود الأجل الواسع الأمل وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلود ، إلا وحقيقة الحياة في روحه ناقصة أو مطموسة . فالإيمان بالآخرة - فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق ، وجزائه الأوفى - هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيوية ، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض ؛ إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق ، الذي لا يعلم إلا الله مداه ، وإلى المرتقى السامي الذي يتجه صعدا إلى جوار الله .
{ وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَىَ حَيَاةٍ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ } اليهود يقول : يا محمد لتجدن أشدّ الناس حرصا على الحياة في الدنيا وأشدّهم كراهة للموت اليهود . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ } على حَياةٍ يعني اليهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن أبي العالية : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ } يعني اليهود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وإنما كراهتهم الموت لعلمهم بما لهم في الاَخرة من الخزي والهوان الطويل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } وأحرص من الذين أشركوا على الحياة ، كما يقال : هو أشجع الناس ومن عنترة ، بمعنى : هو أشجع من الناس ومن عنترة ، فكذلك قوله : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } لأن معنى الكلام : ولتجدنّ يا محمد اليهود من بني إسرائيل أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا . فلما أضيف «أحرص » إلى «الناس » ، وفيه تأويل «من » أظهرت بعد حرف العطف ردّا على التأويل الذي ذكرناه .
وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة لعلمهم بما قد أعدّ لهم في الاَخرة على كفرهم بما لا يقرّ به أهل الشرك ، فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث لأنهم يؤمنون بالبعث ، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب ، وأن المشركين لا يصدّقون بالبعث ، ولا العقاب . فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت .
وقيل : إن الذين أشركوا الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة هم المجوس الذين لا يصدّقون بالبعث . ذكر من قال هم المجوس :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } يعني المجوس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : المجوس .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } قال : يهود أحرص من هؤلاء على الحياة . ذكر من قال : هم الذين ينكرون البعث :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَلَتَجِدنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا } وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو يحبّ طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الاَخرة من الخزي بما ضيع مما عنده من العلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } . .
هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا ، الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة ، يقول جل ثناؤه : يودّ أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا بعد فناء دنياه وانقضاء أيام حياته أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور لو يعمر ألف سنة حتى جعل بعضهم تحية بعض عشرة آلاف عام حِرْصا منهم على الحياة . كما :
حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي عليا ، أخبرنا أبو حمزة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : هو قول الأعاجم سأل زه نوروز مهرجان حر .
وحدثت عن نعيم النحوي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس : زه هزارسال .
حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن أبي نجيح عن قتادة في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ } قال : حُببت إليهم الخطيئة طول العمر .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثني ابن معبد ، عن ابن علية ، عن ابن أبي نجيح في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ } فذكر مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أحْرَصَ النّاسِ على حَياةٍ } حتى بلغ : { لَوْ يُعَمّرُ ألْف سَنَةٍ } يهود أحرص من هؤلاء على الحياة ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمّر أحدهم ألف سنة .
وحدثت عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ }قال : هو قول أحدهم إذا عطس زه هزار سال ، يقول : عشرة آلاف سنة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ } : يعني جل ثناؤه بقوله : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ وما التعمير وهو طول البقاء بمُزَحْزِحه من عذاب الله . وقوله : هُوَ عماد لطلب «ما » الاسم أكثر من طلبها الفعل ، كما قال الشاعر :
*** فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِمَا هَهُنَا رأسُ ***
و«أن » التي في : أنْ يُعَمّرَ رفع بمزحزحه ، أو هو الذي مع «ما » تكرير عماد للفعل لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة . وقد قال بعضهم إن «هو » الذي مع «ما » كناية ذكر العمر ، كأنه قال : يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب . وجعل «أن يعمر » مترجما عن «هو » ، يريد : ما هو بمزحزحه التعمير .
وقال بعضهم : قوله : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ نظير قولك : ما زيد بمزحزحه أن يعمر . وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا ، وهو أن يكون هو عمادا نظير قولك : ما هو قائم عمرو .
وقد قال قوم من أهل التأويل : إن «أن » التي في قوله : «أن يعمر » بمعنى : وإن عمّر ، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع عن أبي العالية : { ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ }يقول : وإن عمر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أن يعمر ولو عمر .
وأما تأويل قوله : بِمُزَحْزِحِهِ فإنه بمبعده ومُنَحّيه ، كما قال الحُطَيئة :
وقالُوا تَزَحْزَحْ ما بِنا فَضْلُ حاجَةٍ *** إلَيْكَ وَما مِنّا لِوَهْيِكَ رَاقِعُ
يعني بقوله تزحزح : تباعد ، يقال منه : زحزحه يزحزحه زحزحةً وزِحزاحا ، وهو عنك متزحزح : أي متباعد .
فتأويل الآية : وما طول العمر بمبعده من عذاب الله ولا منحيه منه لأنه لا بد للعمر من الفناء ومصيره إلى الله . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد فيما أرى ، عن سعيد بن جبير ، أو عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ أي ما هو بمنحّيه من العذاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ }يقول : وإن عمر ، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجّيه .
حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ }فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { يَوَدّ أحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ ألْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أنْ يُعَمّرَ } ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء ، وقد ودّ هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة ، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عُمّر كما عُمّر إبليس لم ينفعه ذلك ، إذ كان كافرا ولم يزحزحه ذلك عن العذاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { واللّهُ بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ } يعني جل ثناؤه بقوله : وَاللّهُ بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ والله ذو إبصار بما يعملون ، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، بل هو بجميعها محيط ولها حافظ ذاكر حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها . وأصل بصير مبصر من قول القائل : أبصرت فأنا مبصر ولكن صرف إلى فعيل ، كما صرف مسمع إلى سميع ، وعذاب مؤلم إلى أليم ، ومبدع السماوات إلى بديع ، وما أشبه ذلك .
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } من وجد بعقله الجاري مجرى علم ، ومفعولاه هم وأحرص الناس ، وتنكير حياة لأنه أريد بها فرد من أفرادها وهي : الحياة المتطاولة ، وقرئ باللام . { ومن الذين أشركوا } محمول على المعنى وكأنه قال : أحرص من الناس على الحياة ومن الذين أشركوا . وإفراده بالذكر للمبالغة ، فإن حرصهم شديد إذ لم يعرفوا إلا الحياة العاجلة ، والزيادة في التوبيخ والتقريع ، فإنهم لما زاد حرصهم -وهم مقرون بالجزاء على حرص المنكرين- دل ذلك على علمهم بأنهم صائرون إلى النار ، ويجوز أن يراد وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف أحرص لدلالة الأول عليه ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف صفته { يود أحدهم } على أنه أريد بالذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا : { عزير ابن الله } أي : ومنهم ناس يود أحدهم ، وهو على الأولين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف . { لو يعمر ألف سنة } حكاية لودادتهم ، ولو بمعنى ليت وكان أصله : لو أعمر ، فأجرى على الغيبة لقوله : يود ، كقولك حلف بالله ليفعلن { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } الضمير لأحدهم ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره ، أو لما دل عليه يعمر . وأن يعمر بدل منه . أو منهم ، وأن يعمر موضحه وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات . وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون ، والزحزحة التبعيد { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم .
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }( 96 )
«وجد » في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس( {[976]} ) ، ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر :
تَلَفَّتُّ نحو الحيِّ حتَّى وجدتُني . . . وَجِعْتُ من الإصغاءِ لِيتاً وأخدعا( {[977]} )
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الضب : «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه »( {[978]} ) ، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا خير لهم عند الله تعالى .
وقوله تعالى : { ومن الذين أشركوا }( {[979]} ) قيل المعنى وأحرص من الذين أشركوا ، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا ، ألا ترى إلى قول امرىء القيس [ الطويل ] :
تمتّعْ من الدنيا فإنك فان( {[980]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والضمير في { أحدهم } يعود في هذا القول على اليهود ، وقيل إن الكلام تم في قوله { حياة } ، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين أنهم { يود أحدهم } وهي المجوس ، لأن تشميتهم للعاطس لفظ بلغتهم معناه «عِشْ ألف سنة »( {[981]} ) فكأن الكلام : ومن المشركين قوم { يود أحدهم } ، وفي هذا القول تشبيه بني إسرئيل بهذه الفرقة من المشركين ، وقصد «الألف » بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب .
وقوله تعالى : { وما هو بمزحزحه } : اختلف النحاة في { هو } ، فقيل هو ضمير الأحد المتقدم الذكر ، فالتقدير وما أحدهم بمزحزحه وخبر الابتداء في المجرور ، و { أن يعمر } فاعل بمزحزح( {[982]} ) ، وقالت فرقة هو ضمير التعمير ، والتقدير وما التعمير بمزحزحه والخبر في المجرور ، { أن يعمر } بدل من التعمير في هذا القول ، وقالت فرقة { هو } ضمير الأمر والشأن ، وقد رد هذا القول بما حفظ عن النحاة من أن الأمر والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر ، وقد جوز أبو علي ذلك( {[983]} ) في بعض مسائله الحلبيات( {[984]} ) ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت هو عماد( {[985]} ) ، وقيل { ما } عاملة حجازية و { هو } اسمها والخبر في { بمزحزحه } ، والزحزحة الإبعاد والتنحية .
وفي قوله { والله بصير بما يعملون } وعيد ، والجمهور على قراءة «يعملون » بالياء من أسفل ، وقرأ قتادة والأعرج ويعقوب «تعملون » بالتاء من فوق ، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين من بني إسرائيل .
معطوف على قوله : { ولن يتمنوه أبداً } [ البقرة : 95 ] للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت ما دام المرء بعافية بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة حتى المشركين الذين لا يرجون بعثاً ولا نشوراً ولا نعيماً فنعيمهم عندهم هو نعيم الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من سوء الحالة ورذالة العيش . فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة المعطوف عليها أخرت عنها ، ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة الحد عطف عليه ولم يفصل لأنه لو كان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن المؤكد .
وقوله : { لتجدنهم } من الوجدان القلبي المتعدي إلى مفعولين . والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة غريزية في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسباباً قال أبو الطيب :
أرى كلنا يهوَى الحياةَ بسعيـه *** حريصاً عليها مستهاماً بها صَبّا
فحُب الجبانِ النفسَ أورده التُّقَى *** وحبُّ الشجاعِ النفسَ أَوْرَدَهِ الحَربا
ونكر ( الحياة ) قصداً للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه « الحياة وكفى » .
وقوله : { ومن الذين أشركوا } عطف على ( الناس ) لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من التفضيلية لا محالة فإذا عطف عليه جاز إظهارها ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا فإن اليهود من الناس وليسوا من الذين أشركوا . وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله : { ومن الذين أشركوا } على قوله عطفاً بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من { الذين أشركوا } وإليه مال في « الكشاف » .
وقوله : { يود أحدهم } بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم الحياة إلى تمنيها ، وقد قال الحريري :
والموت خير للفتى *** من عيشهِ عَيْشَ البهيمة
فجيء بهاته الجملة لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان لمضمون الجملة قبلها فُصلت عنها .
والود المحبة و ( لو ) للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى ويجوز أن تكون ( لو ) مصدرية والتقدير يود أحدهم تَعمير ألففِ سنة .
وقوله : { لو يعمر ألف سنة } بيان ليود أي يود ودًّا بيانه لو يعمر ألف سنة ، وأصل ( لو ) أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة لجملة { يود } على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لَما سَئِم أو لما كَرِهَ فلما كان مضمون شرط { لو } ومضمون مفعول { يود } واحداً استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة المفعول فاكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولاً بالمصدر المأخوذ منه ولذلك صار حرف ( لو ) بمنزلة أَن المصدرية نظراً لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولاً بمصدر فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالاً غلَب على { لو } الواقعة بعد فعل { يود } وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة والرغبة .
هذا تحقيق استعمال لو في مثل هذا الجاري على قول المُحَققّين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن ( لو ) تستعمل حرفاً مصدرياً وأثبتوا لها من مواقع ذلك موقعها بعد { يود } ونحوه وهو قول الفراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري وابن مالك فيقولون : لا حذف ويجعلون ( لو ) حرفاً لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية والفعل مسبوكاً بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول أضعف تحقيقاً وأسهل تقديراً .
وقوله : { وما هو بمزحزحه } يجوز أن يكون الضمير لأحدهم ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره المصدر بعده على حد قول زهير :
وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتُمُ *** وما هو عنها بالحديث المرجَّم
ولم يجعل ضمير شأن لدخول النفي عليه كالذي في البيت لكنه قريب من ضمير الشأن لأن المقصود منه الاهتمام بالخبر ولأن ما بعده في صورة الجملة ، وقيل : هو عائد على التعمير المستفاد من { لو يعمر ألف سنة } . وقوله : { أن يعمر } بدل منه وهو بعيد . والمزحزح المُبعد .
وقوله : { والله بصير بما يعملون } البصير هنا بمعنى العليم كما في قول علقمة الفحل :
فإن تسألوني بالنساء فإنني *** بَصِيرٌ بأدواء النساء طبيبُ
وهو خبر مستعمل في التهديد والتوبيخ لأن القدير إذا علم بما يجترحه الذي يعصيه وأعلمه بأنه علم منه ذلك علم أن العقاب نازل به لا محال ومنه قول زهير :
فلا تكتمُنَّ اللَّهَ ما في نفوسكم *** ليخفى فمهما يُكتم اللَّهُ يَعلـم
يؤخَّرْ فيوضَعْ في كتاب فيُدَّخرْ *** ليوم الحساب أو يعَجَّلْ فينقم
فجعل قوله : يَعْلم بمعنى العلم الراجع للتهديد بدليل إبداله منه قوله يؤخر ، البيت وقريب من هذا قول النابغة في النعمان :