المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

29- وإن الله الذي تجب عبادته وإطاعته هو الذي تفضل عليكم فخلق لمنفعتكم وفائدتكم كل النعم الموجودة في الأرض ، ثم قد توجهت إرادته مع خلقه الأرض بمنافعها إلى السماء فجعل منها سبع سماوات منتظمات فيها ما ترون وما لا ترون ، والله محيط بكل شيء عالم به .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي : خلق لكم ، برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار .

وفي هذه الآية العظيمة{[83]}  دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك الخبائث ، فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ، ومعرفة المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك ، ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث ، تنزيها لنا .

وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها ، الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت ب " على " كما في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش }{[84]} { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت ب " إلى " كما في هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض ، قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، { وهو بكل شيء عليم } ف { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى .

وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه ، وحكمته ، وقدرته .


[83]:- في ب: الكريمة.
[84]:- في ب: أورد آية أخرى هي: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ".
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } . أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .

ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } .

استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .

والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : { فَسَوَّاهُنَّ } ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع . فمعنى { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة المسلابسة والمباشرة .

وجملة { ثُمَّ استوى } معطوفة على جملة { خَلَقَ لَكُمْ } ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .

وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } وجملة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع . أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا . وقوله : «هو » مكنى من اسم الله جل ذكره ، عائد على اسمه في قوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ . ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه : إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود . و«ما » بمعنى «الذي » . فمعنى الكلام إذا : كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم ، فجعلكم بشرا أحياء ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك ، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم . و«كيف » بمعنى التعجب والتوبيخ لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويحكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : فأين تذهبون . وحل قوله : وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ محلّ الحال ، وفيه إضمار «قد » ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها . وذلك أن «فعل » إذا حلت محلّ الحال كان معلوما أنها مقتضية «قد » ، كما قال جل ثناؤه : أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بمعنى : قد حصرت صدورهم . وكما تقول للرجل : أصبحت كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك .

وبنحو الذي قلنا في قوله : هوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا كان قتادة يقول :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا نعم والله سخر لكم ما في الأرض .

القول في تأويل قوله تعالى : ثُم اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ .

قال أبو جعفر : اختلف في تأويل قوله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني واستوى إليّ يشاتمني ، بمعنى : أقبل عليّ وإليّ يشاتمني . واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :

أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَى سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضّجُوعِ

فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى أقبلن . وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : «واستوين من الضجوع » عندي : استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه .

وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام ، إنما يريد تحوّل فعله .

وقال بعضهم : قوله ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ يعني به : استوت ، كما قال الشاعر :

أقُولُ لَهُ لَمّا اسْتَوَى في تُرَابِهِ على أيّ دِينٍ قَتّلَ الناسَ مُصْعَبُ

وقال بعضهم : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ : عمد إليها . وقال : بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه .

وقال بعضهم : الاستواء : هو العلوّ ، والعلوّ : هو الارتفاع .

وممن قال ذلك الربيع بن أنس .

حدثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ يقول : ارتفع إلى السماء .

ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء ، فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها : هو خالقها ومنشئها .

وقال بعضهم : بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء .

قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاء شباب الرجل وقوّته ، فيقال إذا صار كذلك : قد استوى الرجل ، ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمره : إذا استقام له بعد أود . ومنه قول الطرماح بن حكيم :

طالَ على رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْ *** وعَفا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ

يعني : استقام به .

ومنها الإقبال على الشيء بالفعل ، كما يقال : استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه . ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم : استوى فلان على المملكة ، بمعنى احتوى عليها وحازها . ومنها العلوّ والارتفاع ، كقول القائل : استوى فلان على سريره ، يعني به علوّه عليه .

وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوّاهُنْ علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات .

والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها ، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر ، ثم لم ينج مما هرب منه . فيقال له : زعمت أن تأويل قوله : اسْتَوَى أقْبَلَ ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال . ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله ، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفا ، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى .

قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل : أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟ قيل : بعده ، وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات ، كما قال جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا ، وقبل أن يسوّيها سبع سموات .

وقال بعضهم : إنما قال استوى إلى السماء ولا سماء ، كقول الرجل لاَخر : «اعمل هذا الثوب » وإنما معه غزلٌ . وأما قوله فَسَوّاهُنّ فإنه يعني هيأهنّ وخلقهنّ ودبرهنّ وقوّمهنّ ، والتسوية في كلام العرب : التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوّى فلان لفلان هذا الأمر : إذا قوّمه وأصلحه ووطأه له . فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهن على إرادته ، وتفتيقهن بعد ارتاقهن كما :

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول : سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم .

وقال جل ذكره : فَسَوّاهُنّ فأخرج مكنيّهن مخرج مكنى الجمع . وقد قال قبل : ثم استوى إلى السماء فأخرجها على تقدير الواحد . وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكنيّ الجمع . لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر ، ونخلة ونخل وما أشبه ذلك ولذلك أُنّثَتْ مرة ، فقيل : هذه سماء ، وذُكّرتْ أخرى فقيل : السماء منفطر به كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحدة غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك . وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة ، غير أنها تدلّ على السموات ، فقيل : فَسَوّاهُنّ يراد بذلك التي ذكرت ، وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تذكر معها . قال : وإنما تذكّر إذا ذكّرت وهي مؤنثة ، فيقال : السماء منفطر به كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر :

فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها *** ولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَهَا

وكما قال أعشى بني ثعلبة :

فإمّا تَرَيْ لِمّتِي بُدّلَت *** ْفإنّ الحَوَادِثَ أزْرَى بِهَا

وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء ، وأرضا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدة إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعا ، كما يقال : ثوب أخلاق وأسمال ، وبرمة أعشار للمتكسرة ، وبرمة أكسار وأجبار ، وأخلاق : أي أن نواحيه أخلاق .

فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت : إن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سموات ، ثم سوّاها سبعا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جماع ؟ قيل : إنهنّ كنّ سبعا غير مستويات ، فلذلك قال جلّ ذكره : فسوّاهنّ سبعا : كما :

حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أوّل ما خلق الله تبارك وتعالى : النور والظلمة ، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ، ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلم من دخان الماء حتى استقللن ولم يحبكهن ، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم ، ثم دحى الأرض ، وأرساها بالجبال ، وقدّر فيها الأقوات ، وبثّ فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدّر فيها من أقواتها في أربعة أيام . ثم استوى إلى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل خلقهنّ في يومين . ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته ، ثم قال للسموات والأرض : ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها ، قَالتَا : أتَيْنا طائِعِينَ .

فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء بعد خلقه الأرض وما فيها وهنّ سبع من دخان ، فسوّاهنّ كما وصف . وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بيانا عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعا من دخان قبل استواء ربنا إليها بتسويتها من غيره ، وأحسن شرحا لما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التي قال الله فيها : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ بمعنى الجمع على ما وصفنا ، وأنه إنما قال جل ثناؤه : فسوّاهنّ إذ كانت السماء بمعنى الجمع على ما بينا .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله : فسَوّاهُنّ إذ كن قد خلقن سبعا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذكر خلقهن بعد ذكر خلق الأرض ، ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك ؟ قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونزيد ذلك توكيدا بما انضمّ إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم .

فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُم اسْتَوَى إلى السماء فَسَواهُن سَبْعَ سَمَواتٍ قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماءً ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : ن والقَلَم والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض . فتحرّك الحوت فاضطرب ، فتزلزت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله : وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ أَلارْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا ذَلِكَ رَبّ العَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيها يقول : أنبت شجرها وَقَدّرَ فِيها أقْواتها يقول أقواتها لأهلها في أرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواء للسّائِلِينَ يقول : قل لمن يسألك هكذا الأمر ثمّ اسْتَوى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوْحَى في كُل سماءٍ أمْرَها قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البَرَدِ وما لا يعلم . ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش ، فذلك حين يقول : خلق السموات والأرض في ستة أيام يقول : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما .

وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : هُوَ الّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام .

وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : وَالأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .

قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغا في دنياكم ، ومتاعا إلى موافاة آجالكم ، ودليلاً لكم على وحدانية ربكم . ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان ، فسوّاهن وحبكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدّر في كل واحدة منهنّ ما قدّر من خلقه .

القول في تأويل قوله تعالى : وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ .

يعني بقوله جلّ جلاله : وهو نفسه ، وبقوله : بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ : أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسّوى السموات السبع بما فيهن ، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن ، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب ، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمَنّا بِاللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ وهم على التكذيب به منطوون . وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون ، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوّته المواثيق ، وهم به عالمون بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم ، وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم . وقوله : عَلِيمٌ بمعنى عالم . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمل في علمه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمل في علمه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم وتم به معاشهم . ومعنى { لكم } لأجلكم وانتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو بغير وسط ، ودينكم بالاستدلال والاعتبار والتعرف لما يلائمها من لذات الآخرة وآلامها ، لا على وجه الغرض ، فإن الفاعل لغرض مستكمل به ، بل على أنه كالغرض من حيث إنه عاقبة الفعل ومؤداه وهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة ، ولا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة ، فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل واحد لكل واحد . وما يعم كل ما في الأرض ، إلا إذا أريد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو . وجميعا : حال من الموصول الثاني .

{ ثم استوى إلى السماء } قصد إليها بإرادته ، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل ، إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء . وأصل الاستواء طلب السواء ، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء ، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام وقيل استوى أي : استولى وملك ، قال :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية ، أو جهات العلو ، و{ ثم } لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } لا للتراخي في الوقت ، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها ، إلا أن تستأنف بدحاها مقدرا لنصب الأرض فعلا آخر دل عليه { أأنتم أشد خلقا } مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر .

{ فسواهن } عدلهن وخلقهن مصونة من العوج والفطور . و{ هن } ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع . أو هو في معنى الجمع ، وإلا فمبهم يفسره ما بعده كقولهم : ربه رجلا .

{ سبع سماوات } بدل أو تفسير . فإن قيل : أليس إن أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك ؟ قلت : فيما ذكروه شكوك ، وإن صح فليس في الآية نفي الزائد مع أنه إن ضم إليها العرش والكرسي لم يبق خلاف .

{ وهو بكل شيء عليم } فيه تعليل كأنه قال : ولكونه عالما بكنه الأشياء كلها ، خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل والوجه الأنفع ، واستدلال بأن من كان فعله على هذا النسق العجيب ، والترتيب الأنيق كان عليما ، فإن إتقان الأفعال وإحكامها وتخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع ، لا يتصور إلا من عالم حكيم رحيم ، وإزاحة لما يختلج في صدورهم من أن الأبدان بعدما تبددت ، وتفتتت أجزاؤها ، واتصلت بما يشاكلها ، كيف تجمع أجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شيء منها ولا ينضم إليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان ، ونظيره قوله تعالى : { وهو بكل خلق عليم } .

وعلم أن صحة الحشر مبنية على ثلاث مقدمات ، وقد برهن عليها في هاتين الآيتين : أما الأولى فهي : أن مواد الأبدان قابلة للجمع والحياة وأشار إلى البرهان عليها بقوله : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم } فإن تعاقب الافتراق والاجتماع والموت والحياة عليها يدل على أنها قابلة لها بذاتها ، وما بالذات يأبى أن يزول ويتغير . وأما الثانية والثالثة : فإنه عز وجل عالم بها وبمواقعها قادر على جمعها وإحيائها ، وأشار إلى وجه إثباتهما بأنه تعالى قادر على إبدائها وإبداء ما هو أعظم خلقا وأعجب صنعا فكان أقدر على إعادتهم وإحيائهم ، وأنه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت واختلال مراع فيه مصالحهم وسد حاجاتهم . وذلك دليل على تناهي علمه وكمال حكمته جلت قدرته ودقت حكمته . وقد سكّن نافع وأبو عمرو والكسائي : الهاء من نحو فهو وهو تشبيها له بعضد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 29 )

و { خلق } معناه اخترع وأوجد بعد العدم ، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئاً ، ومنه قول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ] [ الكامل ]

ولأنت تفري ما خلقت وبعض . . . القوم يخلق ثم لا يفري( {[393]} )

ومنه قول الآخر : [ مجزوء الكامل ]

من كان يخلق ما يقو . . . ل فحيلتي فيه قليله( {[394]} )

و { لكم } : معناه للاعتبار ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء ، والإماتة ، والخلق ، والاستواء إلى السماء وتسويتها( {[395]} ) .

وقال قوم : بل معنى { لكم } إباحة الأشياء وتمليكها ، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية( {[396]} ) ، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر ، والقائلون بالوقف ، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس ، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة ، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به .

ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل .

وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : «لم يخل العقل قط من السمع( {[397]} ) ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب » . قال : «فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف » ، و { جميعاً } نصب عل الحال .

وقوله تعالى : { ثم استوى } ، { ثم } هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه ، و { استوى } : قال قوم : «معناه علا دون تكييف ولا تحديد » ، هذا اختيار الطبري ، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه .

وقال ابن كيسان : «معناه قصد إلى السماء » .

قال القاضي أبو محمد : أي بخلقه واختراعه .

وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق . ( {[398]} )

وحكى الطبري عن قوم : أن المعنى أقبل ، وضعفه( {[399]} ) .

وحكي عن قوم «المستوي » هو الدخان .

وهذا أيضاً يأباه رصف الكلام( {[400]} ) ، وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر( {[401]} ) الأخطل : [ الرجز ]

قد استوى بشر على العراقِ . . . من غير سيف ودم مهراقِ

وهذا إنما( {[402]} ) يجيء في قوله تعالى : { على العرش استوى }( {[403]} ) [ طه : 5 ] والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة( {[404]} ) وحلول الحوادث ، ويبقى استواء القدرة والسلطان .

{ فسواهن } قيل المعنى جعلهن سواء ، وقيل سوى سطوحها بالإملاس ، و { سبع } نصب على البدل من الضمير ، أو على المفعول : ب «سوّى » ، بتقدير حذف الجار من الضمير ، كأنه قال فسوّى منهن سبع ، وقيل نصب على الحال ، وقال سواهن إما على أن السماء جمع ، وإما على أنه مفرد اسم جنس ، فهو دال على الجمع .

وقوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر ، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء ، وذلك صحيح( {[405]} ) ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء ، وبهذا تتفق معاني الآيات : هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات .


[393]:- وهو لزهير بن أبي سلمى المزني، يمدح هرم بن سنان، ويقول: إنه إذا قدر شيئا قطعه وأمضاه، لمضاء عزمه وقوة إرادته.
[394]:- أنشده المبرد في (الكامل) الجزء الثاني، ونسبه إلى بعض المحدثين، وقبل البيت: لي حيلة فيمن ينـــــــــــــــــــــــــم وليس لي في الكذاب حيلة من كان يخــــــلق ما يقو ل فــحيـــلــتي فـــيه قــــليلة ونسبهما في (معجم الأدباء) إلى منصور بن إسماعيل الشافعي أبي الحسن التميمي الفقيه الشاعر الضرير المصري. يقال: نم الحديث ينُمه نما، أي: قَتَّه، والإسم: النميمة- والرجل نَمٌّ ونمَّام أي: قتَّات – الصحاح.
[395]:- نعمة خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى، ونعمة خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ويتم به معاشهم، فيمكن أن يكون معنى [لكم]: (لاعتباركم) بهذه النعمة، فتوحدونه وتطيعونه، وأن يكون معناه (لأجلكم) و(لانتفاعكم) فواجب أن تشكروه وتحمدوه وحده دون غيره، وأن تتقوَّوا بذلك على طاعته، وإصلاح أرضه، وواجب أن تعتبروا كذلك بالخلق والإماتة، وبالإستواء إلى السماء وتسويتها [ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو].
[396]:- قال ابن العربي: ليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة، ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة على الوحدانية.
[397]:- من السمع الإجماع.
[398]:- لأن اللفظ ينبو عن الدلالة عليه.
[399]:- الإقبال: هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى، فهو كقول ابن كيسان، ومن ذلك قول الحريري: فاستوى الغلام إليه، وقد استولى الخجل عليه: أي قصد.
[400]:- بعيد جدا لاختلاف الضمائر، وعوده على غير مذكور، ولا يقتضيه البيان، ولقوله تعالى: [ثم استوى إلى السماء وهي دخان].
[401]:- هو الأخطل النصراني.
[402]:- قال الفراء: تقول العرب: كان فلان مقبلا على فلان ثم اسيوى إلي وعلي يشاتمني. فعلي وإلي سواء. نقله عنه الإمام (ق) رحمه الله.
[403]:- من الآية 5 من سورة طه.
[404]:- أي: منع الحركة وحلول الحوادث، ويعني أن هذه التأويلات إنما جاءت فرارا مما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث، أو يحل هو سبحانه في حادث.
[405]:- ذلك أن (ثم) للترتيب، وهي تدل بحكم اللغة على أن الأرض خُلقت قبل السماء إلا أن خلق السماء اكتنفه خلْق الأرض أولا، وبسْطها ثانيا بإخراج الماء والمرعى وبإرساء الجبال عليها.