{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا }
هذا تعجيب من الله لعباده ، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود والنصارى ، ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه . وذلك أن اليهود والنصارى يقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } ويقولون : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وهذا مجرد دعوى لا برهان عليها ، وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فهؤلاء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا : { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي : بالإيمان والعمل الصالح بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة ، والتحلي بالصفات الجميلة .
وأما هؤلاء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء ، وأن الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة في ذلك ، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب ، بسبب ظلمهم وكفرهم لا بظلم من الله لهم ، ولهذا قال : { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } وهذا لتحقيق العموم أي : لا يظلمون شيئا ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها .
ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من قبائح اليهود فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } .
روى المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين " أن رجالا من اليهود أتوا النبى صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء ذنب ؟ فقال : لا . فقالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم . ما علمناه بالنهار كفر عنا بالليل ، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار " .
ولقد حكى القرآن عن اليهود أنهم قالوا { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } وحكى عنهم أنهم كانوا { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } وحكى عنهم وعن النصارى أنهم قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ } للتعجب من أحوالهم ، والتهوين من شأنهم حيث بالغوا فى مدح أنفسهم مع أنهم كاذبون فى ذلك .
وقوله { يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } من التزكية بمعنى التطهير والتنزيه عن القبيح . والمراد بهذا التعبير هنا : أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة ، ويمدحونها مدحا كثيرا ، مع أنهم لا يستحقون إلا الذم بسبب سوء أقوالهم وأفعالهم .
والمعنى : ألم ينته علمك يا محمد إلى حال هؤلاء اليهود الذين يمدحون أنفسهم ويثنون عليها مختالين متفاخرين مع ما هم عليه من الكفر وسوء الأخلاق ؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فها نحن نكشف لك عن خباياهم لتتعجب من سوء أعمالهم وليتعجب منهم كل عاقل .
وقوله { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } إبطال لمعتقدهم بإثبات ضده ، وهو أن التزكية شهادة من الله ولا ينفع أحدا أن يزكى نفسه ، وإعلام منه - سبحانه - بأن تزكيته هى التى يعتد بها لا تزكية غيره ، فإنه هو العالم بما ينطوى عليه الإِنسان من حسن وقبح ، وخير وشر .
وقوله { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } بيان لكمال عدله - سبحانه - وأنه لا يظلم أحدا من خلقه لا قليلا ولا كثيرا .
والفتيل : هو الخيط الذى يكون فى شق النواة . وكثيرا ما يضرب به المثل فى القلة والحقارة . أى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم بغير حق يعاقبون على هذا الكذب بما يستحقون من عقاب عادل لا ظلم معه ؛ لأنه - سبحانه - لا يظلم أحدا من عباده شيئا بل يجازى كل إنسان بما هو أهل له من خير أو شر .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ألم تر يا محمد بقلبك الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرّئونها من الذنوب ، ويطرونها .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي كانت اليهود تزكي به أنفسها ، فقال بعضهم : كانت تزكيتهم أنفسهم قولهم : { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُه } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتيلاً } وهم أعداء الله اليهود زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه ، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لا ذنوب لنا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : هم اليهود والنصارى ، قالوا : { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } وقالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانع هُودا أوْ نَصَارَى } .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قال : قالت يهود : ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون ، فإن كات لهم ذنوب ، فإن لنا ذنوبا ، فإنما نحن مثلهم ، قال الله تعالى ذكره : { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وكَفَى بِهِ إثما مُبِينا } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : قال أهل الكتاب : { لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَن كانَ هُودا أوْ نَصَارَى } وقالوا : { نَحْنُ أبْناءُ اللّهِ وأحِبّاؤُهُ } وقالوا : نحن على الذي يحبّ الله . فقال تبارك وتعالى : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ } حين زعموا أنهم يدخلون الجنة ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزكّونَ أنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } نزلت في اليهود ، قالوا : إنا نعّلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ، ما عملنا بالنهار كُفّر عنا بالليل .
وقال آخرون : بل كانت تزكيتهم أنفسهم تقديمهم أطفالهم لإماتهم في صلاتهم زعما منها أنهم لا ذنوب لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : يهود كانوا يقدّمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم ، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم . فتلك التزكية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الأعرج ، عن مجاهد ، قال : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم ، فتلك تزكية . قال ابن جريج : هم اليهود والنصارى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ } قال : نزلت في اليهود كانوا يقدّمون صبيانهم يقولون : ليست لهم ذنوب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي مكين ، عن عكرمة ، في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } قال : كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحنث يصلون بهم ، يقولون ليس لهم ذنوب ، فأنزل الله : { ألَمْ تَرع إلى الّذِينَ يُزَكُونَ أنْفُسَهُمْ } . . . الاَية .
وقال آخرون : بل تزكيتهم أنفسهم كات قولهم : إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا قد توفوا وهم لنا قربة عند الله ، وسيشفعون ويزكوننا . فقال الله لمحمد : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } . . . إلى { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
وقال آخرون : بل ذلك كان منهم تزكية من بعضهم لبعض . ذكر من قال ذلك :
حدثني فيحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء ! يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرّا ، فيقول : والله إنك لذيت وذيت ، ولعلّه أن يرجع ، ولم يحل من حاجته بشيء ، وقد أسخط الله عليه . ثم قرأ : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يُزَكّونَ أنْفُسَهُمْ } . . . الاَية .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى تزكية القوم الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا ، وأنهم لله أبناء وأحباء ، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه ، لأنه ذلك هو أظهر معانيه لإخبار الله عنهم أنها إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها .
وأما الذين قالوا : معنى ذلك : تقديمهم أطفالهم للصلاة ، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم . وأما قوله جلّ ثناؤه : { بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ } فإنه تكذيب من الله المزكين أنفسهم من اليهود والنصارى ، المبرئيها من الذنوب ، يقول الله لهم : ما الأمر كما زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا ، وإنكم برآء مما يكرهه الله ، ولكنكم أهل فرية وكذب على الله ، وليس المزكي من زكى نفسه ، ولكنه الذي يزكيه الله ، والله يزكي من يشاء من خلقه ، فيطهره ويبرئه من الذنوب بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معصاصيه إلى ما يرضاه من طاعته .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك لقوله جلّ ثناؤه : { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ } وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الله قد طهرهم من الذنوب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه ، فيبخسهم في تركه تزكيتهم ، وتزكية من ترك تزكيته ، وفي تزكية من زكى من خلقه شيئا من حقوقهم ولا يضع شيئا في غير موضعه ، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه ، فيوفقه ، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه¹ كل ذلك إليه وبيده ، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدا ممن زكاه أو لم يزكه فتيلاً .
واختلف أهل التأويل في معنى «الفتيل » ، فقال بعضهم : هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ إذا فتلت إحداهما بالأخرى . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الفتيل : ما خرج من بين أصبعيك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن التيمي ، قال : سألت ابن عباس ، عن قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : ما فتلت بين أصبعيك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زيد بن درهم أبي العلاء ، قال : سمعت أبا العالية ، عن ابن عباس : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : الفتيل : هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } والفتيل : هو أن تدلك بين أصبعيك ، فما خرج بينهما فهو ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : خبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : الفتيل : الوسخ الذي يخرج من بين الكفين .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : الفتيل : ما فتلت به يديك فخرج وسخ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما .
وأناس يقولون : الذي يكون في بطن النواة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : { فَتِيلاً } قال : الذي في بطن النواة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : الفتيل : الذي في بطن النواة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني طلحة بن عمرو ، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول ، فذكر مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : الفتيل : الذي في شقّ النواة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : الفتيل : في النوى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } قال : الفتيل : الذي في شقّ النواة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : الفتيل : شِقّ النواة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الفتيل : الذي في بطن النواة .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : الفتيل : الذي يكون في شقّ النواة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } : فتيل النواة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرّة ، عن عطية ، قال : الفتيل : الذي في بطن النواة .
قال أبو جعفر : وأصل الفتيل : المفتول ، صرف من فمفعول إلى فعيل ، كما قيل : صريع ودهين من مصروع ومدهون . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الله جلّ ثناؤه إنما قصد بقوله : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } الخبر عن أنه لا يظلم عباده أقلّ الأشياء التي لا خطر لها ، فكيف بما له خطر ، وكان الوسخ الذي يخرج من بين أصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى ، كالذي هو في شقّ النواة وبطنها ، وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي مفتولة ، مما لا خطر له ولا قيمة ، فواجب أن يكون كل ذلك داخلاً في معنى الفتيل ، إلا أن يخرج شيئا من ذلك ما يجب التسليم له مما دلّ عليه ظاهر التنزيل .
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } يعني أهل الكتاب قالوا { نحن أبناء الله وأحباؤه } وقيل : ناس من اليهود جاؤوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب قال لا قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل ، وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار . وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها . { بل الله يزكي من يشاء } تنبيه على أن تزكيته تعالى هي المعتد بها دون تزكية غيره ، فإنه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح ، وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين . وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا أو قولا . { ولا يظلمون } بالذم أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حق . { فتيلا } أدنى ظلم وأصغره ، وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في الحقارة .
هذا لفظ عام في ظاهره ، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود ، واختلف في المعنى الذي به «زكوا أنفسهم » ، فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه }{[4099]} وقولهم : { لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً }{[4100]} وقال الضحاك والسدي : ذلك قولهم : لا ذنوب لنا وما فعلناه نهاراً غفر ليلاً ، وما فعلناه ليلاً غفر نهاراً ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب ، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم .
قال المؤلف : وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس : ذلك قولهم أبناؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا ، وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض ، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم .
قال القاضي أبو محمد : فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل{[4101]} ، والضمير في { يزكون } عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى ، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية ، وقرأت طائفة «ولا تظلمون » بالتاء على الخطاب ، «والفتيل » : هو ما فتل ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم : «الفتيل » : الخيط الذي في شق نواة التمرة ، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي : هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما ، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه ، ولا شيء دونه في الصغر ، فكيف بما فوقه ، ونصبه على مفعول ثان ب { يظلمون }{[4102]} .