82- وصار الذين تمنوا منذ وقت قريب منزلته من الدنيا يرددون عبارات التحسّر والندم بعد أن فكروا فيما أصابه ! ويقولون : إن الله يوسِّع الرزق على من يشاء من عباده المؤمنين وغير المؤمنين ، ويضيِّق على من يشاء منهم ، ويقولون شاكرين : لولا أن الله أحسن إلينا بالهداية إلى الإيمان والعصمة من الزلل لامتحننا بإجابة ما تمنيناه ، ولفعل بنا مثل ما فعل بقارون . إن الكافرين بنعمة الله لا يفلحون بالنجاة من عذابه .
{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ } أي : الذين يريدون الحياة الدنيا ، الذين قالوا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ } { يَقُولُونَ } متوجعين ومعتبرين ، وخائفين من وقوع العذاب بهم : { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي : يضيق الرزق على من يشاء ، فعلمنا حينئذ أن بسطه لقارون ، ليس دليلا على خير فيه ، وأننا غالطون في قولنا : { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } و { لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } فلم يعاقبنا على ما قلنا ، فلولا فضله ومنته { لَخَسَفَ بِنَا } فصار هلاك قارون عقوبة له ، وعبرة وموعظة لغيره ، حتى إن الذين غبطوه ، سمعت كيف ندموا ، وتغير فكرهم الأول .
{ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي : لا في الدنيا ولا في الآخرة .
ثم - بين - سبحانه - ما قاله الذين كانوا يتمنون أن يكونوا مثل قارون فقال - تعالى - : { وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } .
ولفظ " وى " اسم فعل بمعنى أعجب ، ويكون - أيضا - للتحسر والتندم ، وكان الرجل من العرب إذا أراد أن يظهر ندمه وحسرته على أمر فائت يقول : وى .
وقد يدخل هذا اللفظ على حرف " كأن " المشددة - كما فى الآية - وعلى المخففة .
قال الجمل ما ملخصه قوله : { وَيْكَأَنَّ الله } فى هذا اللفظ مذاهب : أحدها : أن ( وى ) كلمة برأسها ، وهى اسم فعل معناها أعجب ، أى : أنا ، ( والكاف ) للتعليل ، ( وأن ) وما فى حيزها مجرورة بها ، أى : أعجب لأن الله - تعالى - يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .
. . وقياس هذا القول أن يوقف على " وى " وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائى .
الثانى : أن كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب معناه وصارت للخبر واليقين ، وهذا - أيضا - يناسبه الوقف على ( وى ) .
الثالث : أن " ويك " كلمة برأسها ، والكاف حرف خطاب ، و " أن " معمولة لمحذوف . أى : أعمل أن الله يبسط . . . وهذا ياسب الوقف على ( ويك ) وقد فعله أبو عمرو .
الرابع : أن أصل الكلمة ويلك ، فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف - أيضا - كما فعل أبو عمرو .
الخامس : أن { وَيْكَأَنَّ } كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها : ألم تر . . . ولم يرسم فى القرآن إلا { وَيْكَأَنَّ } و { وَيْكَأَنَّهُ } متصلة فى الموضعين . . ووصل هذه الكلمة عند القراءة لا خلاف بينهم فيه .
والمعنى : وبعد أن خسف الله - تعالى - الأرض بقارون ومعه داره ، أصبح الذين تمنوا أن يكونوا مثله { بالأمس } أى : منذ زمان قريب ، عندما خرج عليهم فى زينته ، أصبحوا يقولون بعد أن رأوا هلاكه : { وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أى : صاروا يقولون ما أعجب قدرة الله - تعالى - فى إعطائه الزرق لمن يشاء من عباده وفى منعه عمن يشاء منهم ، وما أحكمها فى تصريف الأمور ، وما أشد غفلتنا عندما تمنينا أن نكون مثل قارون ، وما أكثر ندمنا على ذلك .
لولا أن الله - تعالى - قد منّ علينا ، بفضله وكرمه لخسف بنا الأرض كما خسفها بقارون وبداره .
{ وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أى : ما أعظم حكمة الله - تعالى - فى إهلاكه للقوم الكافرين ، وفى إمهاله لهم ثم يأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَصْبَحَ الّذِينَ تَمَنّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلآ أَن مّنّ اللّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } . يقول تعالى ذكره : وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس من الدنيا ، وغناه وكثرة ماله ، وما بسط له منها بالأمس ، يعني قبل أن ينزل به ما نزل من سخط الله وعقابه ، يقولون : ويْكأنّ الله . . .
اختلف في معنى وَيْكَأنّ اللّهَ فأما قَتادة ، فإنه رُوي عنه في ذلك قولان : أحدهما ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن خالد بن عَثْمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشير ، عن قَتادة ، قال في قوله وَيْكأنّهُ قال : ألم تر أنه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَيْكأَنّهُ : أوَ لاَ تَرى أنه .
وحدثني إسماعيل بن المتوكل الأشجعي ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : ثني معمر ، عن قَتادة : وَيْكأنّهُ قال : ألم تَرَ أنه . والقول الاَخر ، ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَيْكأَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ قال : أو لم يعلم أن الله وَيْكأنّهُ : أوَ لا يَعلمُ أنه .
وتأوّل هذا التأويل الذي ذكرناه عن قَتادة في ذلك أيضا بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة ، واستشهد لصحة تأويله ذلك كذلك ، بقول الشاعر :
سألَتانِي الطّلاقَ أنْ رَأَتانِي *** قَلّ مالي ، قَدْ جِئْتُما بِنُكْرِ
وَيْكأنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَب يُحْ *** بَبْ ومَن يفْتَقِرْ يعِشْ عَيْشَ ضُرّ
وقال بعض نحويّي الكوفة : «ويكأنّ » في كلام العرب : تقرير ، كقول الرجل : أما ترى إلى صُنع الله وإحسانه وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابننا ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت . معناه : أما ترينه وراء البيت قال : وقد يَذْهَب بها بعض النحويين إلى أنها كلمتان ، يريد : وَيْكَ أَنه ، كأنه أراد : ويْلَك ، فحذف اللام ، فتجعل «أَنّ » مفتوحة بفعل مضمر ، كأنه قال : ويْلَك اعلمْ أنه وراء البيت ، فأضمر «اعلم » . قال : ولم نجد العرب تُعْمِل الظنّ مضمرا ، ولا العلم وأشباهه في «أَنّ » ، وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين ، أو في آخر الكلمة ، فلما أضمر جرى مجرى المتأخر ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن يقول : يا هذا ، أنك قائم ، ويا هذا أَنْ قمت ، يريد : علمت ، أو اعلم ، أو ظننت ، أو أظنّ . وأما حذف اللام من قولك : ويْلَك حتى تصير : ويْك ، فقد تقوله العرب ، لكثرتها في الكلام ، قال عنترة :
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسي وأبْرأَ سُقْمَها *** قَوْلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أقْدِم
قال : وقال آخرون : إن معنى قوله وَيْكأَنّ : «وي » منفصلة من كأنّ ، كقولك للرجل : وَيْ أما ترى ما بين يديك ؟ فقال : «وي » ثم استأنف ، كأن الله يبسط الرزق ، وهي تعجب ، وكأنّ في معنى الظنّ والعلم ، فهذا وجه يستقيم . قال : ولم تكتبها العرب منفصلة ، ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة ، وقد يجوز أن تكون كُثّر بها الكلام ، فوُصِلت بما ليست منه .
وقال آخر منهم : إن «وَيْ » : تنبيه ، وكأن حرف آخر غيره ، بمعنى : لعلّ الأمر كذا ، وأظنّ الأمر كذا ، لأن كأنّ بمنزلة أظنّ وأحسب وأعلم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة : القول الذي ذكرنا عن قَتادة ، من أن معناه : ألم تَرَ ، ألم تعلَمْ ، للشاهد الذي ذكرنا فيه من قول الشاعر ، والرواية عن العرب وأنّ «ويكأنّ » في خطّ المصحف حرف واحد . ومتى وجه ذلك إلى غير التأويل الذي ذكرنا عن قَتادة ، فإِنه يصير حرفين ، وذلك أنه إن وجه إلى قول من تأوّله بمعنى : وَيْلَك اعلم أن الله ، وجب أن يفصل «وَيْكَ » من «أَنّ » ، وذلك خلاف خطّ جميع المصاحف ، مع فساده في العربية ، لما ذكرنا . وإن وُجّه إلى قول من يقول : «وَيْ » بمعنى التنبيه ، ثم استأنف الكلام بكأن ، وجب أن يُفْصَل «وَيْ » من «كأن » ، وذلك أيضا خلاف خطوط المصاحف كلها .
فإذا كان ذلك حرفا واحدا ، فالصواب من التأويل : ما قاله قَتادة ، وإذ كان ذلك هو الصواب ، فتأويل الكلام : وأصبح الذين تمنوا مكان قارون وموضعه من الدنيا بالأمس ، يقولون لَمّا عاينوا ما أحلّ الله به من نقمته ، ألم تر يا هذا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ، فيُوسّع عليه ، لا لفضل منزلته عنده ، ولا لكرامته عليه ، كما كان بسط من ذلك لقارون ، لا لفضله ولا لكرامته عليه وَيَقُدِرُ يقول : ويضيق على من يشاء من خلقه ذلك ، ويقتّر عليه ، لا لهوانه ، ولا لسُخْطه عمله .
وقوله : لَوْلا أنْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنا يقول : لولا أن تفضل علينا ، فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس ، لَخَسَفَ بِنا .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى شيبة : «لَخُسِفَ بِنا » بضم الخاء ، وكسر السين وذُكر عن شيبة والحسن : لخَسَفَ بِنَا بفتح الخاء والسين ، بمعنى : لخسف اللّهُ بنا .
وقوله : وَيْكأنّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ يقول : ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون ، فتُنْجِح طَلِباتهم .