المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

40- وهذا مثل آخر لأعمال الكفار ، فمثلها كمثل ظلمات البحر الواسع العميق ، الذي تتلاطم أمواجه عند هياجه ، ويعلو بعضها فوق بعض ، ويغطيها سحاب كثيف قاتم يحجب النور عنها ، فهذه ظلمات متراكمة ، لا يستطيع راكب البحر معها أن يرى يده ولو أدناها إلي بصره ، فوقف حائراً مبهوتاً ، وكيف يرى شيئاً ويخلص من هذه الحيرة بدون نور يهديه في مسيره ويقيه الارتطام والهلاك ؟ وكذلك الكافرون لا يفيدون من أعمالهم ، ولا يخرجون من عمايتهم وضلالهم ، ولا ينجون بأنفسهم إلا بنور الإيمان ، ومن لم يوفقه الله لنور الإيمان ، فليس له نور يهديه إلي الخير ويدله علي الطريق المستقيم ، فيكون من الهالكين{[150]} .


[150]:تعليق الخبراء علي الآية 40: {أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}: تجمع هذه الآية الكريمة أهم ظواهر عواصف البحر، فالمعروف عن عواصف البحار العميقة أو المحيطات تنطلق فيها أمواج مختلفة الطول أو السعة أو الارتفاع، بحيث يبدو الموج منطلقا في طبقات بعضها فوق بعض، فيحجب ضياء الشمس، لما تثيره هذه العواصف من سحب ركامية سميكة تحجب بدورها ضوء الشمس ويخيم معها الظلام في سلسلة من عمليات الإعتام التي تصل إلي حد انعدام رؤية الأجسام رغم سلامة النظر. ولما كانت نشأة الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ في البادية، فإن ورود الدقائق العلمية علي لسانه، وحيا من الله، دليل علي أن القرآن الكريم من عند الله، وعلي أنه معجزة هذا الرسول الكريم.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .

وهذا مَثَل ضربه الله لأعمال أهل الكفر به ، فقال : والذين جحدوا توحيد ربهم وكذّبوا بهذا القرآن وبمن جاء به ، مَثَل أعمالهم التي عملوها كسراب يقول : مثلُ سَراب ، والسراب : ما لَصِق بالأرض ، وذلك يكون نصف النهار وحين يشتدّ الحرّ . والاَل ما كان كالماء بين السماء والأرض ، وذلك يكون أوّل النهار ، يرفع كلّ شيء ضُحًى . وقوله : بقيَعَةٍ وهي جمع قاع ، كالجِيرة جمع جار ، والقاع : ما انبسط من الأرض واتسع ، وفيه يكون السراب . وقوله : يَحْسَبُهُ الظّمآنُ ماءٌ يقول : يظن العطشان من الناس السراب ، ماء . حتى إذا جاءه والهاء من ذكر السّراب ، والمعنى : حتى إذا جاء الظمآن السراب ملتمسا ماء يستغيث به من عطشه لم يَجِدْهُ شَيْئا يقول : لم يجد السراب شيئا ، فكذلك الكافرون بالله من أعمالهم التي عملوها في غُرور يحسبون أَنها منجيتهم عند الله من عذابه ، كما حسب الظمآن الذي رأى السراب فظنه ماء يُرْويه من ظمئه حتى إذا هلك وصار إلى الحاجة إلى عمله الذي كان يرى أنه نافعه عند الله ، لم يجده ينفعه شيئا لأنه كان عمله على كفر بالله ، ووجد الله هذا الكافر عند هلاكه بالمِرصاد ، فوفّاه يوم القيامة حساب أعماله التي عملها في الدنيا وجازاه بها جزاءه الذي يستحقه عليه منه .

فإن قال قائل : وكيف قيل : حتى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا فإن لم يكن السراب شيئا ، فعلام أدخلت الهاء في قوله : حتى إذَا جاءَهُ ؟ قيل : إنه شيء يُرَى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد والهباء ، فإذا قرب منه المرء رقّ وصار كالهواء . وقد يحتمل أن يكون معناه : حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب من ذكر موضعه . وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يقول : والله سريع حسابه لأنه تعالى ذكره لا يحتاج إلى عقد أصابع ولا حفظ بقلب ، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد ومن بعد ما عمله .

وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : ثم ضرب مثلاً آخر ، فقال : وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالُهُمْ كَسَرابٍ بقِيعَةٍ قال : وكذلك الكافر يجيء يوم القيامة وهو يَحْسِب أن عند الله خيرا ، فلا يجد ، فيُدخله النار .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب بنحوه .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : أعمالُهُمْ كَسَرابٍ بقِيعَةٍ يقول : الأرض المستوية .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ . . . إلى قوله : وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِساب قال : هو مَثَل ضربه الله لرجل عطش فاشتدّ عطشه ، فرأى سرابا فحسبه ماء ، فطلبه وظنّ أنه قد قدر عليه ، حتى أتاه ، فلما أتاه لم يجده شيئا ، وقُبض عند ذلك . يقول : الكافر كذلك ، يحسب أن عمله مُغْنٍ عنه أو نافعه شيئا ، ولا يكون آتيا على شيء حتى يأتيه الموت ، فإذا أتاه الموت لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولم ينفعه إلا كما نفع العطشانَ المشتدّ إلى السّراب .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ قال : بقاعٍ من الأرض ، والسراب : عَمَلُه . زاد الحارث في حديثه عن الحسن : والسراب عمل الكافر . إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا . إتيانه إياه : موته وفراقه الدنيا . وَوَجَد اللّهَ عند فراقه الدنيا ، فَوَفّاهُ حِسَابَهُ .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ قال : بقِيعة من الأرض . يَحْسَبُهُ الظّمانُ ماءً : هو مثل ضربه الله لعمل الكافر ، يقول : يحسب أنه في شيء كما يحسب هذا السراب ماء . حتى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجدْهُ شَيْئا ، وكذلك الكافر إذا مات لم يجد عمله شيئا وَوَجَدَ اللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا . . . إلى قوله : وَوَجَدَ اللّهُ عِنْدَهُ قال : هذا مَثَل ضربه الله للذين كفروا أعمْالُهُمْ كَسَراب بِقِيعَةٍ قد رأى السراب ، ووثق بنفسه أنه ماء ، فلما جاءه لم يجده شيئا . قال : وهؤلاء ظنوا أن أعمالهم صالحة ، وأنهم سَيَرْجعون منها إلى خير ، فلم يرجعوا منها إلا كما رجع صاحب السراب فهذا مَثَلٌ ضربه الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه . القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } .

وهذا مَثَل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول تعالى ذكره : ومَثَل أعمال هؤلاء الكفار في أنها عُمِلت على خطأ وفساد وضلالة وحيرة من عمالها فيها وعلى غير هدى ، مَثَل ظلمات في بحر لُجّىّ . ونسب البحر إلى اللّجة ، وصفا له بأنه عميق كثير الماء . ولجُة البحر : معظمه . يَغْشاهُ مَوْج يقول : يغشى البحر موج ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ : يقول : من فوق الموج موج آخر يغشاه ، مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ : يقول : من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأوّل سحاب . فجعل الظلمات مثلاً لأعمالهم ، والبحر اللجىّ مثلاً لقلب الكافر ، يقول : عَمِل بنية قلب قد غَمَره الجهل وتغشّته الضلال والحَيرة كما يغشى هذا البحر اللّجيّ موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مَثَل عمله مَثَل هذه الظلمات ، يغشاه الجهل بالله ، بأن الله ختم عليه فلا يعقل عن الله ، وعلى سمعه فلا يسمع مواعظ الله ، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله ، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سحَابٌ . . . إلى قوله : مِنْ نُورٍ قال : يعني بالظلمات : الأعمال ، وبالبحر اللّجيّ : قلب الإنسان . قال : يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، قال : ظلمات بعضها فوق بعض يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر .

وهو كقوله : خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ . . . الآية ، وكقوله : أفَرأيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ . . . إلى قوله : أفَلا تَذَكّرُونَ .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : أوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرِ لجّيّ عميق ، وهو مثل ضربه الله للكافر يعمل في ضلالة وحيرة ، قال : ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْض . ورُوِيِ عن أُبيّ بن كعب ، ما :

حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازيّ ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : أوْ كُظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّىَ يَغْشاهُ مَوْجٌ . . . الآية ، قال : ضرب مثلاً آخر للكافر ، فقال : أوْ كُظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ . . . الآية ، قال : فهو يتقلب في خمس من الظّلَم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومَدخله ظلمة ، ومَخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن أبي الربيع ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب ، بنحوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : أو كَظُلُماتٍ فِي بَحْرِ لُجّىّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ . . . إلى قوله : ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ قال : شرّ بعضه فوق بعض .

وقوله : إذَا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها يقول : إذا أخرج الناظر يده في هذه الظلمات ، لم يكد يراها .

فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : لم يكد يراها ، مع شدّة هذه الظلمة التي وصف ، وقد علمت أن قول القائل : لم أكد أرى فلانا ، إنما هو إثبات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة ، ومن دون الظلمات التي وصف في هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فيه ، فكيف فيها ؟ قيل : في ذلك أقوال نذكرها ، ثم نخبر بالصواب من ذلك . أحدها : أن يكون معنى الكلام : إذا أخرج يده رائيا لها لم يكد يراها أي لم يعرف من أين يراها . والثاني : أن يكون معناه : إذا أخرج يده لم يرها ، ويكون قوله : لَمْ يَكَدْ في دخوله في الكلام ، نظير دخول الظنّ فيما هو يقين من الكلام ، كقوله : وَظَنّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ونحو ذلك . والثالث : أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد ، كما يقول القائل لاَخر : ما كدت أراك من الظلمة ، وقد رآه ، ولكن بعد إياس وشدة . وهذا القول الثالث أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب «أكاد » في كلامها . والقول الاَخر الذي قلنا إنه يتوجه إلى أنه بمعنى لم يرها ، قول أوضح من جهة التفسير ، وهو أخفى معانيه . وإنما حسُنَ ذلك في هذا الموضع ، أعني أن يقول : لم يكد يراها مع شدة الظلمة التي ذكر لأن ذلك مَثَل لا خبر عن كائن كان . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورا يقول : من من لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه ، فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يقول : فما له من إيمان وهدى ومعرفة بكتابه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ} (40)

شأن { أو } إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وبما بعدها . وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } في سورة البقرة ( 19 ) ، أي مع اتحاد وجه الشبه . ومنه قول أمرىء القيس :

يُضيء سناه أو مصَابيح راهب *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقول لبيد

أفتلك أم وحشية مسبوعة *** خذلت وهادية الصوّار قوامها

فإذا كان الكلام هنا جارياً على ذلك الشأن كان المعنى تمثيل الذين كفروا في أعمالهم التي يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله بحال ظلمات ليل غشيت ماخراً في بحر شديد الموج قد اقتحم ذلك البحر ليصل إلى غاية مطلوبة ، فحالهم في أعمالهم تشبه حال سابح في ظلمات ليل في بحر عميق يغشاه موج يركب بعضه بعضاً لشدة تعاقبه ، وإنما يكون ذلك عند اشتداد الرياح حتى لا يكاد يرى يده التي هي أقرب شيء إليه وأوضحُه في رؤيته فكيف يرجو النجاة .

وإن كان الكلام جارياً على التخيير في التشبيه مع اختلاف وجه الشبه كان المعنى تمثيل حال الذين كفروا في أعمالهم التي يعملونها وهم غير مؤمنين بحال من ركب البحر يرجو بلوغ غاية فإذا هو في ظلمات لا يهتدي معها طريقاً . فوجه الشبه هو ما حف بأعمالهم من ضلال الكفر الحائل دون حصول مبتغاهم .

ويرجح هذا الوجه تذييل التمثيل بقوله : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } .

وعلى الوجهين فقوله : { كظلمات } عطف على { كسراب } [ النور : 39 ] والتقدير : والذين كفروا أعمالهم كظلمات .

وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال : شاهدتُ سواد الكفر في وجه فلان .

والظلمات : الظلمة الشديدة . والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدة ، فالجمع كناية لأن شدة الظلمة يحصل من تظاهر عدة ظلمات . ألا ترى أن ظلمة بين العشاءين أشد من ظلمة عقب الغروب وظلمة العشاء أشد مما قبلها .

وقد ذكرنا فيما مضى أن لفظ ظلمة بالإفراد لم يرد في القرآن انظر أول سورة الأنعام . ومعنى كونها { في بحر } أنها انطبع سوادها على ماء بحر فصار كأنها في البحر كقوله تعالى : { أو كصيب من السماء فيه ظلمات } وقد تقدم في سورة البقرة ( 19 ) إذ جعل الظلمات في الصيب .

واللجِّيّ منسوب إلى اللجة ، واللج هو معظم البحر ، أي في بحر عميق ، فالنسب مستعمل في التمكن من الوصف كقول أبي النجم :

والدهر بالإنسان دوّاريّ .

أي دوّار ، وكقولهم : رجل مشركي ورجل غلاّبي ، أي قوي الشرك وكثير الغلب .

والموج : اسم جمع موجة والموجة : مقدار يتصاعد من ماء البحر أو النهر عن سطح مائه بسبب اضطراب في سطحه بهبوب ريح من جانبه يدفعه إلى الشاطىء . وأصله مصدر : ماج البحر ، أي اضطرب وسمي به ما ينشأ عنه .

ومعنى : { من فوقه موج } أن الموج لا يتكسر حتى يلحقه موج آخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته .

والسحاب تقدم في سورة الرعد ( 12 ) . والسحاب يزيد الظلمة إظلاماً لأنه يحجب ضوء النجم والهلال .

وقوله : { ظلمات بعضها فوق بعض } استئناف . والتقدير : هي ظلمات والمراد بالظلمات التي هنا غير المراد بقوله : { أو كظلمات } لأن الجمع هنا جمع أنواع وهنالك جمع أفراد من نوع واحد .

وقرأ الجمهور : { سحاب ظلمات } بالتنوين فيهما . وقرأ البزي عن ابن كثير { من فوقه سحاب ظلمات } بترك التنوين في { سحاب } وبإضافته إلى { ظلمات } . وقرأه قنبل عن ابن كثير برفع { سحاب } منوناً وبجر { ظلمات } على البدل من قوله : { أو كظلمات } .

وقوله : { لم يكد يراها } هو من قبيل قوله { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] وقد تقدم وجه هذا الاستعمال في سورة البقرة وما فيه من قصة بيت ذي الرمة .

وجملة : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } تذييل للتمثيل ، أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يخلق في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان ، أي أن الله جبلهم غير قابلين للهدى فلم يجعل لهم قبوله في قلوبهم فلا يحل بها شيء من الهدى .

وفيه تنبيه على أن الله تعالى متصرف بالإعطاء والمنع على حسب إرادته وحكمته وما سبق من نظام تدبيره .

وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها ؛ فالضلالات تشبه الظلمات ، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر ، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة ، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول . وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني ، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم ، وتطلّبُه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله .