القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } .
يقول تعالى ذكره : قل لهؤلاء المشركين يا محمد : إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم لا علم لي إلا ما علمني الله وإن الله يوحي إليّ أن معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، معبود واحد لا ثاني له ، ولا شريك فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ يقول : فمن يخاف ربه يوم لقائه ، ويراقبه على معاصيه ، ويرجوا ثوابه على طاعته فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا يقول : فليخلص له العبادة ، وليفرد له الربوبية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جبير فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّهِ قال : ثواب ربه .
وقوله : وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا يقول : ولا يجعل له شريكا في عبادته إياه ، وإنما يكون جاعلاً له شريكا بعبادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمرو بن عبيد ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا قال : لا يرائي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن طاوس ، قال : جاء رجل ، فقال : يا نبيّ الله إني أحبّ الجهاد في سبيل الله ، وأحبّ أن يرى موطني ويرى مكاني ، فأنزل الله عزّ وجل : فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ومسلم بن خالد الزنجي عن صدقة بن يسار ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، وزاد فيه : وإني أعمل العمل وأتصدّق وأحبّ أن يراه الناس وسائر الحديث نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، قال : حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم ، عن شهر بن حوشب ، قال : جاء رجل إلى عُبادة بن الصامت ، فسأله فقال : أنبئني عما أسألك عنه ، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ، فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله عزّ وجلّ يقول : أنا خير شريك ، فمن كان له معي شريك فهو له كله ، لا حاجة لي فيه .
حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السّكوني ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا ابن عياش ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الكندي ، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الاَية : فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبّهِ أحَدا وقال : إنها آخر آية أنزلت من القرآن .
و { إنما أنا بشر مثلكم } لم أعط إلا ما أوحي إلي وكشف لي ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : «ينفد » بالياء من تحت ، وقرأ الباقون بالتاء ، وقوله { قل إنما أنا بشر مثلكم } المعنى : { إنما أنا بشر } ينتهي علمي إلى حيث { يوحى إلي } ومهم ما يوحى إلي ، أنما إلهكم إله واحد ، وكان كفرهم بعبادة الأصنام فلذلك خصص هذا الفصل مما أوحي إليه ، ثم أخذ في الموعظة ، والوصاة البينة الرشد ، و { يرجو } على بابها ، وقالت فرقة : { يرجو } بمعنى يخاف ، وقد تقدم القول في هذا المقصد ، فمن كان يؤمن بلقاء ربه وكل موقن بلقاء ربه ، فلا محالة أنه بحالتي خوف ورجاء ، فلو عبر بالخوف لكان المعنى تاماً على جهة التخويف والتحذير ، وإذا عبر بالرجاء فعلى جهة الإطماع وبسط النفوس إلى إحسان الله تعالى ، أي { فمن كان يرجو }
النعيم المؤبد من ربه { فليعمل } وباقي الآية بين في الشرك بالله تعالى ، وقال ابن جبير في تفسيرها لا يرائي في عمله وقد روي حديث أنها نزلت في الرياء ، حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يجاهد ويحب أن يحمده الناس{[7911]} ، وقال معاوية بن أبي سفيان هذه آخر آية نزلت من القرآن{[7912]} .
استئناف ثان ، انتقل به من التنويه بسعة علم الله تعالى وأنه لا يعجزه أن يوحي إلى رسوله بعلم كل ما يُسأل عن الإخبار به ، إلى إعلامهم بأن الرسول لم يبعث للإخبار عن الحوادث الماضية والقرون الخالية ، ولا أن من مقتضى الرسالة أن يحيط علم الرسول بالأشياء فيتصدى للإجابة عن أسئلة تُلقَى إليه ، ولكنه بشَر عِلمه كعلم البشر أوحَى الله إليه بما شاء إبلاغه عبادهُ من التوْحيد والشريعة ، ولا علم له إلاّ ما علّمه ربّه كما قال تعالى : { قل إنما أتبع ما يُوحى إليّ من ربّي } [ الأعراف : 203 ] .
فالحصر في قوله { إنما أنا بشر مثلكم } قصر الموصوف على الصفة وهو إضافي للقلب ، أي ما أنا إلاّ بشر لاَ أتجاوز البشرية إلى العلم بالمغيّبات .
وأدمج في هذا أهم ما يوحي إليه وما بعث لأجله وهو توحيد الله والسعي لما فيه السلامة عند لقاء الله تعالى . وهذا من ردّ العجز على الصدر من قوله في أوّل السورة { لينذر بأساً شديداً من لدنه } إلى قوله { إن يقولون إلا كذباً } [ الكهف : 2 5 ] .
وجملة { يوحى إلي } مستأنفة ، أو صفة ثانية ل { بشر } .
و { أنما } مفتوحة الهمزة أخت ( إنما ) المكسورة الهمزة وهي مركبة من ( أَنّ ) المفتوحة الهمزة و ( ما ) الكَافة كما ركبت ( إنما ) المكسورة الهمزة فتفيد ما تفيده ( أَنّ ) المفتوحة من المصدرية ، وما تفيده ( إنما ) من الحصر ، والحصر المستفاد منها هنا قصر إضافي للقلب . والمعنى : يوحي الله إليّ توحيد الإله وانحصار وصفه في صفة الوحدانية دون المشاركة .
وتفريع { فمن كان يرجو لقاء ربه } هو من جملة الموحى به إليه ، أي يوحَى إليّ بوحدانية الإله وبإثبات البعث وبالأعمال الصالحة .
فجاء النظم بطريقة بديعة في إفادة الأصول الثلاثة ، إذ جعل التوحيد أصلاً لها وفرع عليه الأصلان الآخران ، وأكد الإخبار بالوحدانية بالنّهي عن الإشراك بعبادة الله تعالى ، وحصل مع ذلك ردّ العجز على الصدر وهو أسلوب بديع .