القول في تأويل قوله تعالى : { لّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } .
يقول تعالى ذكره : لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين ، لا يخافون أهل الشرك ، مقصّرا بعضهم رأسه ، ومحلّقا بعضهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شاءَ اللّهِ آمِنِينَ قال هو دخول محمد صلى الله عليه وسلم البيت والمؤمنون ، محلقين رؤوسهم ومقصرين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : الرّؤْيا بالحَقّ قال : أُرِيَ بالحدُيبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين ، فقال أصحابه حين نحر بالحُديبية : أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطوف بالبيت وأصحابه ، فصدّق الله رؤياه ، فقال : لَتَدْخُلُنّ المَسّجِدَ الحَرَام إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ . . . حتى بلغ لا تَخافُونَ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال : أُرِيَ في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام ، وأنهم آمنون محلّقين رؤوسهم ومقصّرين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ . . إلى آخر الآية . قال : قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي قَدْ رأيْتُ أنّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ » فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك ، فقالوا : أين رؤياه ؟ فقال الله لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ فقرأ حتى بلغ وَمُقَصّرِينَ لا تَخافُونَ إني لم أره يدخلها هذا العام ، وليكوننّ ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ . . . إلى قوله : إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أُرِيَها أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف ، يقول : محلقين ومقصرين لا تخافون .
وقوله : فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يقول تعالى ذكره : فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا ، وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين ، الذين لم يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل ، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم ، فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلمُوا قال : ردّه لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات ، وأخره ليدخل الله في رحمته من يشاء من يريد أن يهديه .
وقوله : فجَعَلَ مِنْ دُون ذلكَ فَتْحا قَرِيبا اختلف أهل التأويل في الفتح القريب ، الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، فقال بعضهم : هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال : النحر بالحُديبية ، ورجعوا فافتتحوا خَيبر ، ثم اعتمر بعد ذلك ، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، قوله : فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا يعني : صلح الحُديبية ، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب ، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا ، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال : صلح الحُديبية .
وقال آخرون : عنى بالفتح القريب في هذا الموضع : فتح خيبر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال : خيبر حين رجعوا من الحُديبية ، فتحها الله عليهم ، فقسمها على أهل الحديبية كلهم إلا رجلاً واحدا من الأنصار ، يقال له : أبو دجانة سماك بن خرشة ، كان قد شهد الحُديبية وغاب عن خَيبر .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد الحرام ، ودون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك ، ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح ، بل عمّ ذلك ، وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك .
والصواب أن يعم كما عمه ، فيقال : جعل الله من دون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر .
روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر{[10428]} ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا ؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .
وقرأ ابن مسعود : «إن شاء الله لا تخافون » بدل { آمنين } .
ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله تعالى{[10429]} بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .
واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : «نعم » وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .
استئناف بياني ناشىء عن قوله : { فأنزل اللَّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ الفتح : 26 ] ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية ، أو وهو في الحديبية : كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحَلَقوا وقصَّروا . هكذا كانت الرؤيا مُجملة ليس فيها وقوع حجّ ولا عمرة ، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما .
وقصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبَّروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها ، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا : فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا ؟ فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه : إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية . والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأنَّ الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم لك الرؤيا أيامئذٍ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها : أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زماناً كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زماناً حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة .
وتوكيد الخبر بحرف ( قد ) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا : فأين الرؤيا ؟
ومعنى { صدق اللَّه رسوله الرؤيا } أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك . وهذا تطْمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لمَّا يحصل بقرينة قوله : { إن شاء اللَّه } .
وتعدية { صدق } إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمّى بالحذف والإيصال ، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب . وأصل الكلام : صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى : { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] .
والباء في { بالحق } للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف ، أي صدقاً ملابسا الحق ، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف ، أي صدقا ملابساً وقع حالاً من الرؤيا .
والحق : الغرض الصحيح والحكمة ، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مَجْعُولة محكمة وهي ما قدمناه آنفاً .
وجملة { لتدخلن المسجد الحرام } إلى آخرها يجوز أن يكون بياناً لجملة { صدق اللَّه } لأن معنى { لتدخلن } تحقيق دخول المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل . وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذٍ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك أبو بكر إذ قال لهم : إن المنام لم يكن موقتاً بوقت وأنه سيدخل . وقد جاء في سورة يوسف ( 100 ) { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } وليست هذه الجملة بياناً للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك .
والأحسن أن تكون جملة { لتدخلن المسجد الحرام } استئنافاً بيانياً عن جملة { صدق اللَّه رسوله } أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله : { بالحق } ليظهر معنى الاستئناف .
وقوله : { إن شاء اللَّه } من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخياً ، ألا ترى أن الذي يقال له : افعل كذا ، فيقول : أفعل إن شاء الله ، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله .
ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف ( 99 ) { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أنّ إن شاء اللَّه } للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا مصر . أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل . وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد ، وهذا من استعمالات كلمة { إن شاء اللَّه } . فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذٍ للثُّنْيا لأنها في موضع قولهم : إلا أن يشاء الله ، لأن معنى : إلا أن يشاء الله : عدم الفعل ، وأما إن شاء الله ، التي تقع موقع : إلا أن يشاء الله ، فمعناه إن شاء الله الفعلَ .
والموعود به صادق بدخولهم مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية ، فإنهم دخلوا المسجد الحرام آمنين وحَلق بعضهم وقصّر بعض غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد ، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد ، وصادق بدخولهم المسجد الحرام عام حجة الوداع ، وعدمُ الخوف فيه أظهر . وأما دخولهم مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين . قال مالك في « الموطأ » بعد أن ساق حديث قتل ابن خطل يومَ الفتح ( ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ محرماً والله أعلم ) .
و { محلقين رؤوسكم } حال من ضمير { آمنين } وعطف عليه { ومقصرين } والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤياه ، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير ، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير .
وجملة { لا تخافون } في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة ل { آمنين } تأكيداً بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق ، ويجوز أن تكون حالاً مؤسسة على أن { آمنين } معمول لفعل { تدخلُنّ } وأن { لا تخافون } معمول ل { ءامنين } ، أي آمنين أمن مَن لا يخاف ، أي لا تخافون غدراً . وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوّهم الذي أمنهم ، وهذا يُومِىءُ إلى حكمة تأخير دخولهم مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعداداً وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع .
والفاء في قوله : { فعلم ما لم تعلموا } لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله : { فعلم ما في قلوبهم } [ الفتح : 18 ] .
وفي إيثار فعل { جعل } في هذا التركيب دون أن يقول : فتح لكم من دون ذلك فتحاً قريباً أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه . وصيغة الماضي في { جعل } لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي ، أو لأن { جعل } بمعنى قدر . ودون هنا بمعنى غير ، ومِن ( م ) ابتدائية أو بيانية . والمعنى : فجعل فتحاً قريباً لكم زيادة على ما وعدكم من دخول مكة آمنين . وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح .