11-اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن خفتم من قلة الماء ، ومن الأعداء ، فوهبكم الله الأمن ، وأصابكم النعاس فنمتم آمنين ، وأنزل الماء من السماء لتتطهروا به ، ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم ، وثبت قلوبكم واثقة بعون الرحمن ولتتماسك به الأرض فتثبت الأقدام{[73]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَآءِ مَآءً لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولتطمئن به قلوبكم إذ يعشيكم النعاس . ويعني بقوله : يُغَشّيكُمُ النّعاسَ : يلقي عليكم النعاس ، أمَنَةً يقول : أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم ، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عزّ وجلّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، قال : النعاس في القتال أمنة من الله عزّ وجلّ ، وفي الصلاة من الشيطان .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، في قوله : يغشاكم النعاس أمنة منه ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، بنحوه ، قال : قال عبد الله : فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بنحوه .
والأمنة : مصدر من قول القائل : أمنت من كذا أَمَنَةً وأمانا وأمنا ، وكلّ ذلك بمعنى واحد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً منْهُ : أمانا من الله عزّ وجلّ .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً قال : أمنا من الله .
حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إذْ يُغَشّيكُمُ النّعاسَ أمَنَةً مِنْهُ قال : أنزل الله عزّ وجلّ النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أُحد . فقرأ : ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَم أمَنَةً نُعاسا .
واختلفت القراء في قراءة قوله : «إذْ يُغَشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة «يُغَشِيكُمُ النّعاسَ » بضم الياء وتخفيف الشين ونصب «النعاس » ، من أغشاهم الله النعاس ، فهو يغشيهم . وقرأته عامة قراء الكوفيين : يُغَشّيكُم بضم الياء وتشديد الشين من غشّاهم الله النعاس ، فهو يُغَشّيهم . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : «يَغْشاكُم النّعاسُ » بفتح الياء ورفع «النعاس » ، بمعنى غشيهم النعاس ، فهو يغشاهم واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في آل عمران : يَغْشَى طائفَةً .
وأولى ذلك بالصواب : إذْ يُغَشّيكُم على ماذكرت من قراءة الكوفيين ، لإجماع جميع القرّاء على قراءة قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عزّ وجلّ ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك : يُغَشّيكُم إذ كان قوله : ويُنَزّلُ عطفا على «يُغَشّي » ، ليكون الكلام متسقا على نحو واحد .
وأما قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيّطَهّرَكُمْ بِهِ فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر ، ليطهر به المؤمنين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُجْنِبين على غير ماء فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا . وكان الشيطان وسوس لهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء ، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر فذلك ربطه على قلوبهم وتقويته أسبابهم وتثبيته بذلك المطر أقدامهم ، لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم على رَمْلة هَشّاء فلبّدَها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها ، توطئة من الله عزّ وجلّ لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم . وبمثل الذي قلنا ، تتابعت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلم . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا هارون بن إسحاق ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : أصابنا من الليل طشّ من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف ، نستظلّ تحتها من المطر ، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به : «اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ » فلما أن طلع الفجر نادى : الصّلاةَ عِبادَ اللّهِ ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرّض على القتال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : طشّ يوم بدر .
حدثني الحسن بن يزيد ، قال : حدثنا حفص ، عن داود ، عن سعيد ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد أبي عديّ وعبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبيّ وسعيد بن المسيب ، قالا : طش يوم بدر .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الاَية : يُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ قالا : طش كان يوم بدر ، فثبت الله به الأقدام .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . الاَية ، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذٍ حتى سال الوادي ماء ، واقتتلوا على كثيب أعفر ، فلبده الله بالماء ، وشرب المسلمون وتوضئوا وسَقَوْا ، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان . وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشي الناس عليه والدوابّ فساروا إلى القوم ، وأمدّ الله نبيه بألف من الملائكة ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : «إذْ يُغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المسلمون وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طُهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله عليها المطر . فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه ، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر ، فانطلقوا . قال : فنزلوا على أعلى الوادي ، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله . فكان الرجل من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام يُجنب فلا يقدر على الماء ، فيصلي جنبا ، فألقى الشيطان في قلوبهم ، فقال : كيف ترجون أن تظهروا عليهم وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبا على غير وضوء ؟ قال : فأرسل الله عليهم المطر ، فاغتسلوا وتوضئوا وشربوا ، واشتدت لهم الأرض ، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم ، فاشتدّت لهم من المطر واشتدّوا عليها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : غلب المشركون المسلمين في أوّل أمرهم على الماء فظمىء المسلمون ، وصلوا مجنبين محدثين ، وكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، فقال : تزعمون أن فيكم نبيّا وأنكم أولياء الله ، وقد غلبتم على الماء وتصلون مجنبين محدثين ؟ قال : فأنزل الله ماء من السماء ، فسال كلّ واد ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسة الشيطان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : المطر أنزله عليهم قبل النعاس . رِجْزَ الشّيْطَانِ قال : وسوسته . قال : فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ أنزله عليهم قبل النعاس ، طبق المطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به الأقدام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : القطر ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وساوسه . أطفأ بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، رجز الشيطان : وسوسته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر . وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ الذي ألقى في قلوبكم ليس لكم بهؤلاء طاقة . وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ : إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر ، وغلبوا المسلمين عليه ، فأصاب المسلمين الظمأ ، وصلوا محدثين مجنبين ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، ووسوس فيها : إنكم تزعمون أنكم أولياء الله وأن محمدا نبيّ الله ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين فأمطر الله السماء حتى سال كلّ واد ، فشرب المسلمون وملئوا أسقيتهم وسقوا دوابهم واغتسلوا من الجنابة ، وثبت الله به الأقدام وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوّهم رملة لا تجوزها الدوابّ ، ولا يمشي فيها الماشي إلاّ بجهد ، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت وثبتت فيها الأقدام .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » : أي أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون ، ونزل عليكم من السماء المطر الذي أصابهم تلك الليلة ، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء ، وخُلي سبيلُ المؤمنين إليه . لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام : ليذهب عنهم شكّ الشيطان بتخويفه إياهم عدوّهم ، واستجلاد الأرض لهم ، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوّهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة وقيامهم يصلون بغير وضوء ، فقال : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ » حتى تشتدّون على الرمل ، وهو كهيئة الأرض .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب ، وقال مرّة قرأ : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ فقال سعيد : إنما هي : «وَيُنزِلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطْهِرَكُمْ بِهِ » قال : وقال الشعبي : كان ذلك طشّا يوم بدر .
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة ، أن مجاز قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ، فيثبتون لعدوّهم . وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين ، وحسب قول خطأ أن يكون خلافا لقول من ذكرنا . وقد بيّنا أقوالهم فيه ، وأن معناه : ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم .
العامل في { إذ } هو العامل الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال : 7 ] بتقدير تكراره لأن الاشتراك في العامل الأول نفسه لا يكون إلا بحرف عطف ، وإنما القصد أن تعدد نعمة{[5231]} الله تعالى على المؤمنين في يوم بدر فقال : واذكروا إذ فعلنا كذا وقال الطبري : العامل في { إذ } قوله { ولتطمئن } [ الأنفال : 10 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، ولو جعل العامل في { إذ } شيئاً قريباً مما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في { إذ } { حكيم } [ الأنفال : 10 ] لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عز وجل{[5232]} ، وقرأ نافع «يُغْشيكم » بضم الياء وسكون الغين وهي قراءة الأعرج وأبي حفص وابن نصاح ، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر والكسائي «يغَشِّيكم » بفتح الغين وشد الشين المكسورة وهي قراءة عروة بن الزبير وأبي رجاء والحسن وعكرمة وغيرهم ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَغشاكم » بفتح الياء وألف بعد الشين وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وأهل مكة «النعاسُ » بالرفع ، وحجة من قرأ «يغشاكم » إجماعهم في آية أحد على { يغشى طائفة منكم } [ آل عمران : 154 ] ، وحجة من قرأ «يغشيكم » أن يجيء الكلام متسقاً مع { ينزل }{[5233]} ، ومعنى { يغشيكم } يغطيكم به ويفرغه عليكم ، وهذه استعارة و { النعاس } أخف النوم وهو الذي قد يصيب الإنسان وهو واقف أو ماشٍ ، وينص على ذلك قصص هذه الآية أنهم إنما كان بهم خفق في الرؤوس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا نعس أحدكم في صلاته »{[5234]} الحديث ، وينص على ذلك قول الشاعر [ ابن الرقاع ] : [ الكامل ]
وسنان أقصده النعاس فرنّقت*** في عينه سِنَةٌ وليس بنائم{[5235]}
وقوله { أمنة } مصدر من أمن الرجل يأمن أمناً وأمنة وأماناً ، والهاء فيها لتأنيث المصدر كما هي في المساءة والمشقة{[5236]} ، وقرأ ابن محيصن «أمْنة » بسكون الميم وروي عن عبد الله بن مسعود{[5237]} أنه قال : النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله ، وهو في الصلاة من الشيطان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما طريقه الوحي فهو لا محالة إنما يسنده ، وقوله { وينزل عليكم من السماء ماء } تعديد أيضاً لهذه النعمة في المطر ، فقال بعض المفسرين وحكاه الطبري عن ابن عباس وغيره ، وقاله الزجّاج : إن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم - بإلقاء الشيطان إليهم - نزعم أنَّا أولياء الله وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالنا هذه والمشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهروا وسقوا الظهر{[5238]} وتدمثت السبخة{[5239]} التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين ، وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل الطش تلبدت{[5240]} قالوا : فهذا معنى قوله { ليطهركم به } أي من الجنابة ، { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي عذابه لكم بوساوسه المتقدمة الذكر والرجز العذاب ، وقرأ أبو العالية «رجس » بالسين أي وساوسه التي تمقت وتتقذر ، وقرأ ابن محيصن «رُجز » بضم الراء ، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهبْ » بجزم الباء ، { وليربط على قلوبكم } أي بتنشيطها وإزالة الكسل عنها وتشجيعها على العدو ومنه قولهم : رابط الجأش أي ثابت النفس عند جأشها في الحرب{[5241]} { ويثبت به الأقدام } أي في الرملة الدهسة{[5242]} التي كان المشي فيها صعباً .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح من القول وهو الذي في سيرة ابن إسحاق وغيرها أن المؤمنين سبقوا إلى الماء ببدر ، وفي هذا كلام حباب بن المنذر الأنصاري{[5243]} حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول ماء ، فقال له حباب : أبوحي يا رسول الله هو المنزل فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو عندك الرأي والمكيدة ؟ الحديث المستوعب في السيرة{[5244]} .
قال القاضي أبو محمد : ولكن نزول المطر كان قبل وصولهم إلى الماء وذلك أن القوم من المؤمنين لحقتهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء قريب بدر فصلوا كذلك فوقع في نفوسهم من ذلك ، ووسوس الشيطان لهم في ذلك مع تخويفه لهم من كثرة العدو وقتلهم ، وهذا قبل الترائي بالأعين ، وأيضاً فكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكفار إلى ماء بدر فتحرضوا هم أن يسبقوهم إليه فأنزل الله تلك المطرة فسالت الأودية فاغتسلوا وطهرهم الله فذهب رجز الشيطان ودمثت الطريق ، وتلبدت تلك الرملة ، فسهل المشي فيها وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى الماء ، ووقع في السير أن ما أصاب المشركين من ذلك المطر بعينه صعب عليهم طريقهم ، فُسَّر المؤمنون وتبينوا من جعل الله بهم ذلك قصد المعونة لهم ، فطابت نفوسهم واجتمعت وتشجعت ، فذلك الربط على قلوبهم وتثبيت الأقدام منهم على الرملة اللينة فأمكنهم لحاق الماء قبل المشركين .
قال القاضي أبو محمد : هذا أحد ما يحتمله قوله { ويثبت به الأقدام } والضمير في { به } على هذا الاحتمال عائد على الماء ، ويحتمل أن يعود الضمير في { به } على ربط القلوب فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب ، وبين أن الرابط الجأش تثبت قدمه عند مكافحة الهول .
قال القاضي أبو محمد : ونزول الماء كان في الزمن قبل تغشية النعاس ولم يترتب ذلك في الآية إذ القصد فيها تعديد النعم فقط ، وحكى أبو الفتح أن الشعبي قرأ «وينزل عليكم من السماء ماء » ساكنة الألف { ليطهركم به } قال : وهي بمعنى الذي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف{[5245]} وقرأ ابن المسيب «ليطْهركم به » بسكون الطاء .
لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، فقَرَنَها ، في قَرَن زمانها ، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية ، وهذا من أبدع التخلص ، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب .
ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولاً فيه لقوله : { ومَا النصر } [ الأنفال : 10 ] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر ، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفاً للنصر .
والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشياً أي غاماً ومغطياً ، فالنوم يغطي العَقل .
والنعاسُ النوم غير الثقيل ، وهو مثل السِّنة .
وقرأ نافع ، وأبو جعفرُ : { يُغْشِيكم } ، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب { النعاسَ } والتقدير : إذ يغشيكم الله النعاسَ ، والنعاس مفعول ثاني ليغشي بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابنُ كثير ، وأبو عمرو : بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف ، وبرفع النعاس ، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل ، وقرأه الباقون : بضم التحتية وفَتح الغين وتشديد الشين ونصب النعاس ، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان .
فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف ، ولا يكون عامّاً سائرَ الجيش ، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم .
وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله { أمنة منه } .
و ( الأمنة ) الأمن ، وتقدم في آل عمران ، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب ( النعاس ) ، وعلى الحال على قراءة من رفع ( النعاس ) .
وإنما كان ( النعاس ) أمناً لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة ، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً ، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب .
وصيغة المضارع في { يُغشيكم } لاستحضار الحالة .
و ( مِنْ ) في قوله : { منه } للابتداء المجازي ، وهو وصف ل ( أمنة ) لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القُدس ، فهو لطْف وسكينة ورحمة ربَانية ، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله ، على قراءة من نصبوا ( النعاس ) ، تنبيهاً على أنه إسناد مخصوص ، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها ، وعلى قراءة من رفعوا ( النعاس ) يكون وصف الأمنة بأنها منه سارياً إلى الغَشي فيعلم أنه غشي خاص قُدسي ، وليس مثل سائِر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يومَ بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أُحُد لطائفة من الجيش قال تعالى : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم } وتقدم في سورة آل عمران ( 154 ) ، وفي صحيح البخاري عن أبي طلحة قال : « كنتُ فيمن تَغَشّاه النعاس يومَ أُحُد حتى سَقط سيفي من يدي مراراً » .
وذكر الله مِنةٌ أخرى جاءت في وقت الحاجة : وهي أنه أنزل عليهم المَطر يوم بَدر ، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت احتياجهم إلى الماء ، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أُفُقِهم ، قال أهل السير : كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر ، وكان طريقهم دَهْساء أي رملاً ليناً ، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة ، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أَمكن لهم ، واستوحلتْ الأرض للمشركين فصار السير فيها متعباً ، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيراً من ماء المطر ، وتطهروا وشربوا ، فذلك قوله تعالى : { ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان } .
و ( الرجز ) القَذَر ، والمراد الوسخ الحِسي وهو النجس ، والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحَدَث . والمراد الجنابة ، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال : { ويذهب عنكم رجز الشيطان } ، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائِم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعاً في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح ، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان .
وتقدير المجرور في قوله : { عنكم رجز الشيطان } للرعاية على الفاصلة ، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم .
وقوله : { وليربط على قلوبكم } أي يؤمنّكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشاً وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل ، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل ، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر .
و ( الربط ) حقيقته شد الوثاق على الشي وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم : فُلان رابط الجأش وله رباطة جَأش .