82- وصار الذين تمنوا منذ وقت قريب منزلته من الدنيا يرددون عبارات التحسّر والندم بعد أن فكروا فيما أصابه ! ويقولون : إن الله يوسِّع الرزق على من يشاء من عباده المؤمنين وغير المؤمنين ، ويضيِّق على من يشاء منهم ، ويقولون شاكرين : لولا أن الله أحسن إلينا بالهداية إلى الإيمان والعصمة من الزلل لامتحننا بإجابة ما تمنيناه ، ولفعل بنا مثل ما فعل بقارون . إن الكافرين بنعمة الله لا يفلحون بالنجاة من عذابه .
ثم - بين - سبحانه - ما قاله الذين كانوا يتمنون أن يكونوا مثل قارون فقال - تعالى - : { وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } .
ولفظ " وى " اسم فعل بمعنى أعجب ، ويكون - أيضا - للتحسر والتندم ، وكان الرجل من العرب إذا أراد أن يظهر ندمه وحسرته على أمر فائت يقول : وى .
وقد يدخل هذا اللفظ على حرف " كأن " المشددة - كما فى الآية - وعلى المخففة .
قال الجمل ما ملخصه قوله : { وَيْكَأَنَّ الله } فى هذا اللفظ مذاهب : أحدها : أن ( وى ) كلمة برأسها ، وهى اسم فعل معناها أعجب ، أى : أنا ، ( والكاف ) للتعليل ، ( وأن ) وما فى حيزها مجرورة بها ، أى : أعجب لأن الله - تعالى - يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .
. . وقياس هذا القول أن يوقف على " وى " وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائى .
الثانى : أن كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب معناه وصارت للخبر واليقين ، وهذا - أيضا - يناسبه الوقف على ( وى ) .
الثالث : أن " ويك " كلمة برأسها ، والكاف حرف خطاب ، و " أن " معمولة لمحذوف . أى : أعمل أن الله يبسط . . . وهذا ياسب الوقف على ( ويك ) وقد فعله أبو عمرو .
الرابع : أن أصل الكلمة ويلك ، فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف - أيضا - كما فعل أبو عمرو .
الخامس : أن { وَيْكَأَنَّ } كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها : ألم تر . . . ولم يرسم فى القرآن إلا { وَيْكَأَنَّ } و { وَيْكَأَنَّهُ } متصلة فى الموضعين . . ووصل هذه الكلمة عند القراءة لا خلاف بينهم فيه .
والمعنى : وبعد أن خسف الله - تعالى - الأرض بقارون ومعه داره ، أصبح الذين تمنوا أن يكونوا مثله { بالأمس } أى : منذ زمان قريب ، عندما خرج عليهم فى زينته ، أصبحوا يقولون بعد أن رأوا هلاكه : { وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أى : صاروا يقولون ما أعجب قدرة الله - تعالى - فى إعطائه الزرق لمن يشاء من عباده وفى منعه عمن يشاء منهم ، وما أحكمها فى تصريف الأمور ، وما أشد غفلتنا عندما تمنينا أن نكون مثل قارون ، وما أكثر ندمنا على ذلك .
لولا أن الله - تعالى - قد منّ علينا ، بفضله وكرمه لخسف بنا الأرض كما خسفها بقارون وبداره .
{ وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أى : ما أعظم حكمة الله - تعالى - فى إهلاكه للقوم الكافرين ، وفى إمهاله لهم ثم يأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر .
و ( الأمس ) مستعمل في مطلق زمن مضى قريباً على طريقة المجاز المرسل . و ( مكان ) مستعمل مجازاً في الحالة المستقر فيها صاحبها ، وقد يعبر عن الحالة أيضاً بالمنزلة .
ومعنى { يقولون } أنهم يجهرون بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعاً إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده . وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى { ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء } الآية .
وكلمة { ويكأن } عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاث كلمات : ( وي ) وكاف الخطاب و ( أن ) . فأما ( وي ) فهي اسم فعل بمعنى : أعجب ، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيهاً عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة ، وأما ( أن ) فهي ( أن ) المفتوحة الهمزة أخت ( إن ) المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه فيقدر لها حرف جرّ ملتزم حذفه لكثرة استعماله وكان حذفه مع ( أن ) جائزاً فصار في هذا التركيب واجباً وهذا الحرف هو اللام أو ( من ) فالتقدير : أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء .
وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال : وي بمعنى أعجب ، ويقال ( ويك ) بمعناه أيضاً قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها *** قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
ويقال : { ويكأن } ، كما في هذه الآية وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي :
ويكأن من يكن له نشبٌ يُح *** بَبْ ومن يفتقر يعش عيش ضرّ
فخفّف ( أن ) وكتبوها متصلة لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام فلم يتحققوا أصل تركيبها وكان القياس أن تكتب ( ويك ) مفصولة عن ( أن ) وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد . وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين ( وي ) و ( كأن ) التي للتشبيه .
والمعنى : التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا والتشبيه مستعمل في الظن واليقين . والمعنى : أما تعجب كأن الله يبسط الرزق .
وذهب أبو عمرو بن العلاء والكسائي والليث وثعلب ونسبه في « الكشاف » إلى الكوفيين ( وأبو عمرو بصري ) أنها مركبة من أربع كلمات كلمة ( ويل ) وكاف الخطاب وفعل ( اعلم ) و ( أن ) . وأصله : ويلك أعلم أنه كذا ، فحذف لام الويل وحذف فعل ( اعلم ) فصار ( وَيْكَأنّه ) . وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة لأنها صارت رمزاً لمجموع كلماته فكانت مثل النحت .
ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على { ويكأنه } بتمامه والبعض يقف على ( وي ) والبعض يقف على ( ويك ) .
ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضاً بذلك وأعلنوه .
والبسط : مستعمل مجازاً في السعة والكثرة .
و { يقدر } مضارع قدر المتعدي ، وهو بمعنى : أعدى بمقدار ، وهو مجاز في القلة لأن التقدير يستلزم قلة المقدر لعسر تقدير الشيء الكثير قال تعالى { ومن قدر عليه رزقه فَليُنْفِق مما آتاه الله لا يكلِّف الله نفساً إلا ما ءاتاها } [ الطلاق : 7 ] .
وفائدة البيان بقوله { من عباده } الإيماء إلى أنه في بسطة الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيده فحقهم الرضى بما قسم لهم مولاهم .
ومعنى { لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا } : لولا أن منَّ الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا ، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به ، أو لولا أن منّ الله علينا بأن لم نكن من شيعة قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه ، أو لولا أن منّ الله علينا بثبات الإيمان .
وقرأ الجمهور { لَخُسِف بنا } على بناء فعل « خُسِف » للمجهول للعلم بالفاعل من قولهم : لولا أن منّ الله علينا . وقرأه يعقوب بفتح الخاء والسين ، أي لخسف الله الأرض بنا .
وجملة { ويكأنه لا يفلح الكافرون } تكرير للتعجيب ، أي قد تبين أن سبب هلاك قارون هو كفره برسول الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.