45- وأنذرهم - أيها الرسول - يوم نجمعهم للحساب ، فيتحققون مجيء اليوم الآخر بعد أن كانوا يكذبون به ، ويتذكرون حياتهم في الدنيا ، كأنها ساعة من النهار لم تتسع لما كان ينبغي من عمل الخير ، ويعرف بعضهم بعضا ، يتلاومون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال . قد خسر المكذبون باليوم الآخر ، فلم يقدموا في دنياهم عملا صالحاً ، ولم يظفروا بنعيم الآخرة بكفرهم .
وبعد أن بينت السورة الكريمة أحوال أولئك المشركين في الدنيا ، ومواقفهم من الدعوة الإِسلامية ، أتبعت ذلك بالحديث عن أحوالهم يوم الحشر ، ومن استعجالهم للعذاب ، وعن رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، فقال - تعالى - :
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً . . . } .
قوله - سبحانه - : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } بيان لأحوالهم السيئة عند جمعهم لحساب يوم القيامة .
إذ الحشر - كما يقول الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها .
والمراد به هنا : إخراج الناس من قبورهم وجمعهم في الموقف لحسابهم على أعمالهم الدنيوية .
المقصود بالساعة هنا : المدة القليلة من الزمان ، فقد جرت العادة أن يضرب بها المثل في الوقت القصير .
والمعنى : واذكر يا أيها الرسول الكريم ، وذكرهؤلاء المشركين الذين عموا وصموا عن الحق ، يوم يجمعهم الله - في الآخرة للحساب والعقاب ، فيشتد كريهم ، وينسون تلك الملذات والشهوات . . التي استمتعوا بها في الدنيا ، حتى لكأنهم لم يلبثوا فيها وفى قبورهم ، إلا ساعة من النهار أى : إلا مدة قصيرة من النهار ، يتعارفون بينهم ، أى : لا تتسع تلك المدة إلا للتعارف فيما بينهم .
وقوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا } جملة حالية من ضمير الجمع في يحشرهم .
وخصت الساعة بكونها من النهار ، لأنها أعرف لهم من ساعات الليل .
والمقصود بالتشبيه : بيان أن هذه السنوات الطويلة التي قضاها هؤلاء المشركون في الدنيا يتمتعون بلهوها ولعبها ، ويستبعدون معها أن هناك بعثا وحسابا . . قد زالت عن ذاكرتهم في يوم القيامة ، حتى لكأنهم لم يمكثوا فيها سوا وقت قصير لا يتسع لأكثر من التعارف القليل مع الأقارب والجيران والأصدقاء ، حتى لكأن ذلك النعيم الذي تقلبوا فيه دهراً طويلا لم يروه من قبل . . .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في سورة الأحقاف : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } وقوله - سبحانه ، في سورة الروم { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } فإن قيل : إن هناك بعض الآيات ذكرت أنهم عندما يسألون يحسبون بأنهم لبثوا في الدنيا يوما أو بعض يوم ، أو عشية أو ضحاها كما في قوله - تعالى - : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرض عَدَدَ سِنِينَ . قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وكما في قوله - تعالى - { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } فكيف نجمع بين هذه الآيات التي اختلفت إجابتهم فيها ؟
فالجواب : أن أهل الموقف يختلفون في تقدير الزمن الذي لبثوه في الدنيا على حسب اختلاف أحوالهم ، وعلى حسب أهوال كل موقف ، فإن في يوم القيامة مواقف متعددة بعضها أشد من بعض .
وقوله { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } جملة حالية أيضا من ضمير الجمع في يحشرهم .
قال القرطبي : " وهذا التعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر ، وليس تعارف شفقة ورحمة وعطف . . . والصحيح أنه لا ينقطع هذا التعارف التوبيخي عند مشاهدة أهوال القيامة ، لقوله - تعالى -
{ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول } فأما قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } وأشباهه فمعناه : لا يسأله سؤال رحمة وشفقة . .
وقوله : { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم الله عليهم في آخرتهم بعد أن ضيعوا دنياهم .
والمراد بلقاء الله : مطلق الحساب والجزاء الكائن في يوم القيامة .
أى : أن هؤلاء الأشقياء الذين أعرضوا عن الحق وأنكروا الحشر ، قد خسروا سعادتهم الأبدية ، وحق عليهم العذاب المهين ، بسبب كفرهم وطغيانهم ، وعدم اهتدائهم إلى طريق النجاة .
{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور لهول ما يرون ، والجملة التشبيهية في موضع الحال أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة ، أو صفة ليوم والعائد محذوف تقديره : كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف ، أي : حشراً كأن لم يلبثوا قبله . { يتعارفون بينهم } يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا ، وهذا أول ما نشروا ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم وهي حال أخرى مقدرة ، أو بيان لقوله : { كأن لم يلبثوا } أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون يوم يحشرهم . { قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله } استئناف للشهادة على خسرانهم والتعجب منه ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في يتعارفون على إرادة القول . { وما كانوا مُهتدين } لطرق استعمال ما منحوا من المعاون في تحصيل المعارف فاستكسبوا بها جهالات أدت بهم إلى الردى والعذاب الدائم .
وقوله تعالى : { ويوم نحشرهم } الآية ، وعيد بالحشر وخزيهم فيه وتعاونهم في التلاوم بعضهم لبعض ، و { يوم } ظرف ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره واذكر يوم ، ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار }{[6126]} ، ويصح نصبه ب { يتعارفون } ، والكاف من قوله { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } يصح أن تكون في معنى الصفة لليوم{[6127]} ، ويصح أن تكون في موضع نصب للمصدر ، كأنه قال ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، ويصح أن يكون قوله { كأن لم يلبثوا } في موضع الحال من الضمير في { نحشرهم } وخصص { النهار } بالذكر لأن ساعاته وقسمه معروفة بيّنه للجميع ، فكأن هؤلاء يتحققون قلة ما لبثوا ، إذ كل أمد طويل إذا انقضى فهو واليسير سواء ، وأما قوله { يتعارفون } فيحتمل أن يكون معادلة لقوله : { ويوم نحشرهم } كأنه أخبر أنهم يوم الحشر { يتعارفون } وهذا التعارف على جهة التلاوم والخزي من بعضهم لبعض . ويحتمل أن يكون في موضع الحال من الضمير في { نحشرهم } ويكون معنى التعارف كالذي قبله ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير في { يلبثوا } ويكون التعارف في الدنيا ، ويجيء معنى الآية ويوم نحشرهم للقيامة فتنقطع المعرفة بينهم والأسباب ويصير تعارفهم في الدنيا كساعة من النهار لا قدر لها ، وبنحو هذا المعنى فسر الطبري{[6128]} ، وقرأ السبعة وجمهور الناس «نحشرهم » ، بالنون ، وقرأ الأعمش فيما روي عنه ، «يحشرهم » بالياء ، وقوله { قد خسر الذين } إلى آخرها حكم على المكذبين بالخسار وفي اللفظ إغلاظ على المحشورين من إظهار لما هم عليه من الغرر مع الله تعالى ، وهذا على أن الكلام إخبار من الله تعالى وقيل : إنه من كلام المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم .
على : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم } [ يونس : 28 ] عطف القصة على القصة عَوْداً إلى غرض من الكلام بعد تفصيله وتفريعه وذم المسوق إليهم وتقريعهم فإنه لما جاء فيما مضى ذكر يوم الحشر إذ هو حين افتضاح ضلال المشركين ببراءة شركائهم منهم أتبع ذلك بالتقريع على عبادتهم الأصنام مع وضوح براهين الوحدانية لله تعالى . وإذ كان القرآن قد أبلغهم ما كان يعصمهم من ذلك الموقف الذليل لو اهتدوا به أتبع ذلك بالتنويه بالقرآن وإثبات أنه خارج عن طوق البشر وتسفيه الذين كذبوه وتفننوا في الإعراض عنه واستُوفي الغرض حقَّه عاد الكلام إلى ذكر يوم الحشر مرة أخرى إذ هو حين خيبة أولئك الذين كذبوا بالبعث وهم الذين أشركوا وظهر افتضاح شركهم في يوم الحشر فكان مثلَ رد العجز على الصدر .
وانتصب { يوم } على الظرفية لفعل { خسر } . والتقدير : وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم ، فارتباط الكلام هكذا : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون وقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله يوم نحشرهم . وتقديم الظرف على عامله للاهتمام لأن المقصود الأهم تذكيرهم بذلك اليوم وإثبات وقوعه مع تحذيرهم ووعيدهم بما يحصل لهم فيه .
ولذلك عدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } دون قد خسروا ، للإيماء إلى أن سبب خسرانهم هو تكذيبهم بلقاء الله وذلك التكذيب من آثار الشرك فارتبط بالجملة الأولى ، وهي جملة : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم إلى قوله : وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ يونس : 28 30 ] .
وقرأ الجمهور { نحشرهم } بنون العظمة ، وقرأه حفص عن عاصم بياء الغيبة ، فالضمير يعود إلى اسم الجلالة في قوله قبله : { إن الله لا يظلم الناس شيئاً } [ يونس : 44 ] وجملة : { كأنْ لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } إما معترضة بين جملة : { نحشرهم } وجملة { يتعارفون بينهم } ، وإما حال من الضمير المنصوب في { نحشرهم } .
و { كأن } مخففةُ ( كأنَّ ) المشددةِ النون التي هي إحدَى أخوات ( إنَّ ) ، وهي حرف تشبيه ، وإذا خففت يكون اسمها محذوفاً غالباً ، والتقدير هنا : كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من النهار . وقد دل على الاسم المحذوف ما تقدم من ضمائرهم .
والمعنى تشبيه المحشورين بعد أزمان مضت عليهم في القبور بأنفسهم لو لم يلبثوا في القبور إلا ساعةً من النهار .
و { من النهار } ( من ) فيه تبعيضية صفة ل { ساعة } وهو وصف غير مراد منه التقييد إذ لا فرق في الزمن القليل بين كونه من النهار أو من الليل وإنما هذا وصف خرج مخرج الغالب لأن النهار هو الزمن الذي تستحضره الأذهان في المتعارف ، مثل ذكر لفظ الرجل في الإخبار عن أحوال الإنسان كقوله تعالى : { وعلى الأعراف رجال } [ الأعراف : 46 ] . ومن هذا ما وقع في الحديث « وإنما أحِلَّت لي ساعة من نهار » ، والمقصود ساعة من الزمان وهي الساعة التي يقع فيها قتال أهل مكة من غير التفات إلى تقييد بكونه في النهار وإن كان صادف أنه في النهار .
والساعة : المقدار من الزمان ، والأكثر أن تطلق على الزمن القصير إلا بقرينة ، وتقدم عند قوله تعالى : { لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون } في سورة [ الأعراف : 34 ] .
ووجه الشبه بين حال زمن لبثهم في القبور وبين لبثِ ساعة من النهار وجوهٌ : هي التحقق والحصول ، بحيث لم يمنعهم طول الزمن من الحشر ، وأنهم حشروا بصفاتهم التي عاشوا عليها في الدنيا فكأنهم لم يفنوا . وهذا اعتبار بعظيم قدرة الله على إرجاعهم .
والمقصود من التشبيه التعريض بإبطال دعوى المشركين إحالتهم البعث بشبهة أن طول اللبث وتغير الأجساد ينافي إحياءها { يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاماً نخرة } [ النازعات : 10 ، 11 ] .
وجملة : { يتعارفون بينهم } حال من الضمير المنصوب في { نحشرهم } .
والتعارف : تفاعل من عَرف ، أي يعرف كل واحد منهم يومئذٍ من كان يعرفه في الدنيا ويعرفه الآخَر كذلك .
والمقصود من ذكر هذه الحال كالمقصود من ذكر حالة { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } لتصوير أنهم حشروا على الحالة التي كانوا عليها في الدنيا في أجسامهم وإدراكهم زيادة في بيان إبطال إحالتهم البعث بشبهة أنه ينافي تمزق الأجسام في القبور وانطفاء العقول بالموت .
فظهر خسرانهم يومئذٍ بأنهم نفوا البعث فلم يستعدوا ليومه بقبول ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، ثم انقطعت المعرفة وانقضت تلك الساعة.
يقول الله:"قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاء اللّهِ وَما كانُواّ مُهْتَدِينَ"، قد غبن الذين جحدوا ثواب الله وعقابه وحظوظهم من الخير وهلكوا.
"وما كَانُوا مُهْتَدِينَ" يقول: وما كانوا موفقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله لأنه أكسبهم ذلك ما لا قبَل لهم به من عذاب الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأصله: كأنهم استقلوا طول مقامهم في الدنيا وما أنعموا فيها لما عاينوا من أهوال ذلك اليوم وشدائده؛ واستقلوا لبثهم في الدنيا، ومقامهم في الآخرة والعذاب...
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) أي خسروا بما وعدوا في الآخرة من النعم الدائمة بترك اكتسابهم إياها إذ قد أُعطُوا ما يكتسبون به نعم الآخرة، فاكتسبوا ما به خسروا ذلك...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنَ لمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} فيه وجهان:
أحدهما: كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار لهول ما استقبلوا...
{يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: يعرف بعضهم بعضاً. قال الكلبي: يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم ثم تنقطع المعرفة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الأيامُ والشهور، والأعوام والدهور بعد مُضيها في حُكْمِ اللحظة لمن تفكَّرَ فيها، ومتى يكون لها أثر بعد تقضيها؟
والآتي من الوقت قريب، وكَأنَّ قَدْرَ الماضي من الدهر لم يُعْهَدْ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم وضلالهم، وكان فعل ذلك -ممن لا يرى حشراً ولا جزاء ولا نعيماً وراء نعيم هذه الدار- فعل فارغ السر مستطيل للزمان آمن من نوازل الحدثان، حسن تعقيبه بأنهم يرون يوم الحشر من الأهوال ما يستقصرون معه مدة لبثهم في الدنيا، فقد خسروا إذن دنياهم بالنزاع، وآخرتهم بالعذاب الذي لا يستطاع، وليس له انقطاع، فقال تعالى مهدداً لهؤلاء الكفار الذين يعاندون فلا يسمعون ولا يبصرون عاطفاً على {ويوم نحشرهم} الأولى: {ويوم يحشرهم} أي واستقصروا مدة لبثهم في الدنيا يوم الحشر لما يستقبلهم من الأهوال والزلازل الطوال، فكأنه قيل: إلى أي غاية؟ فقيل: {كأن} أي كأنهم {لم يلبثوا} في دنياهم، و الجملة في موضع الحال من ضمير {يحشرهم} البارز أي مشبهين بمن لم يلبثوا {إلا ساعة} أي حقيرة {من النهار} وقوله: {يتعارفون بينهم} حال ثانية، أي لم يفدهم تلك الساعة أكثر من أن عرف فيها بعضهم بعضاً ليزدادوا بذلك حسرة في ذلك اليوم بعدم القدرة على التناصر والتعاون والتظافر كما كانوا يفعلون في الدنيا.
ولما كانت حالهم هذه هي الخسارة التي ليس معها تجارة، فكان السامع متوقعاً للخبر عنها، قال متعجباً منهم موضع: ما أخسرهم} قد خسر: {أي حقاً {الذين كذبوا} أظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف مستهينين {بلقاء الله} أي الملك الأعلى بما أخذوا من الدنيا من الخسيس الفاني وتركوا مما كشف لهم عنه البعث من النعيم الشريف الباقي؛ ولما كان الذي وقع منه تكذيب مرة في الدهر قد يفيق بعد ذلك فيهتدي، قال عاطفاً على الصلة: {وما كانوا} أي جبلة وطبعاً {مهتدين} مشيراً إلى تسفيههم فيما يدعون البصر فيه من أمر المتجر والمعرفة بأنواع الهداية.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية للتذكير بمقدار ظلم المشركين لأنفسهم، وخسارتهم لها في الآخرة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكفرهم بالقرآن ووعيده لهم، وغرورهم بدنياهم الحقيرة، مصداقا للآية التي قبلها، قال:
{ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} أي واذكر أيها الرسول لهم أو أنذرهم يوم يحشرهم الله. وهذه قراءة حمزة عن عاصم، وقرأها الباقون (نحشرهم) بالنون، أي نجمعهم ببعثهم بعد موتهم ونسوقهم إلى مواقف الحساب والجزاء.
{كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة قليلة من النهار ريثما يعرف فيها بعضهم بعضا كأولي القربى والجيران ثم زالت، فإن الساعة يضرب بها المثل في قلة المدة. فالتشبيه بيان لحالهم في تذكرهم للدنيا، يعني إن هذه الحياة الدنيا التي غرتهم بمتاعها بالحقير الزائل قصيرة ستزول بعذابهم أو موتهم، وسيقدرون يوم القيامة قصيرها بساعة من النهار لا تسع أكثر من التعارف القليل، كما قال في آخر سورة الأحقاف {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} [الأحقاف]، وفي سورة الروم {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} [الروم: 55]، وفي معناها قوله تعالى في آخر النازعات عن الساعة {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 79]، وفي آيات أخرى أن أهل الموقف يختلفون في هذا التقدير، أي بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك اليوم، فإنه تعالى قال بعد آية سورة الروم {وقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ولَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56] وفي سورة المؤمنون {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 112 114]، وفي سورة طه يختلفون بين اليوم والعشر. وقيل: إن المعنى أنهم يتعارفون بينهم يوم يحشرون كأنهم لم يتفارقوا لقصر مدة الفراق. وثم أقوال أخرى في التشبيه يبطلها ما أوردنا من الآيات في شواهده.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ} أي خسروا السعادة الأبدية؛ إذ لم يستعدوا له بالإيمان وعمل الصالحات المزكية للنفس، المرقية للروح، بما تكون أهلا لكرامته ومثوبته، ورضوانه الأكبر في جناته، فآثروا عليها حياة الدنيا القصيرة الحقيرة، المنغصة بالأكدار، السريعة الزوال، التي يقدرونها يوم الحشر بساعة من نهار. والجملة بيان مستأنف منه تعالى لخسران الذين كذبوا بلقاء الله من أهل مكة وغيرهم، ولذلك ذكرهم بصفتهم المقتضية له- وهي التكذيب- وعطف عليه {ومَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] فيما اختاروه لأنفسهم من إيثار الخسيس الفاني على النفيس الخالد الباقي. أو هي معطوفة على جملة "قد خسر"، أي خسروا تجارتهم وأنفسهم، وما كانوا مهتدين إلى أسباب النجاة والربح من الأعمال الصالحة هي ثمرات الإيمان، كما قال {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [البقرة: 16]، وقد تقدم ذكر الذين لا يرجون لقاء الله تعالى في الآيات 7، 11، 15 من هذه السورة، وتقدم ذكر خسرانهم في سورة الأنعام [الآية: 31].
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى، عن سرعة انقضاء الدنيا، وأن الله تعالى إذا حشر الناس وجمعهم ليوم لا ريب فيه، كأنهم ما لبثوا إلا ساعة من نهار، وكأنه ما مر عليهم نعيم ولا بؤس، وهم يتعارفون بينهم، كحالهم في الدنيا، ففي هذا اليوم يربح المتقون، ويخسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين إلى الصراط المستقيم والدين القويم، حيث فاتهم النعيم، واستحقوا دخول النار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذه الجولة الخاطفة ننظر فإذا المحشورون مأخوذون بالمفاجأة، شاعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أسدل الستار. أو هذا مجرد تشبيه لهذه الحياة الدنيا، وللناس الذين دخلوا ثم خرجوا، كأن لم يفعلوا شيئاً سوى اللقاء والتعارف؟ إنه لتشبيه، ولكنه حق اليقين وإلا فهل ينتهي البشر في هذه الأرض من عملية التعارف؟ إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى. ثم يذهبون. وإلا فهل هؤلاء الأفراد الذين يتنازعون ويتعاركون ويقع من سوء التفاهم بينهم وبين بعضهم في كل ساعة ما يقع... هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي أن يكون؟ وهذه الشعوب المتناحرة، والدول المتخاصمة -لا تتخاصم على حق عام، ولا على منهج سليم، إنما تتعارك على الحطام والأعراض- هذه. هل عرف بعضها بعضاً؟ وهي ما تكاد تفرغ من خصام حتى تدخل في خصام. إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا. ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة.. ثم يرحلون! وفي ظل هذا المشهد تبدو الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة، وكذبوا بلقاء الله، وشغلوا عنه واستغرقوا في تلك الرحلة -بل تلك الومضة- فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم؛ ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما كانوا مهتدين)...