البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

قرأ الأعمش وحفص : يحشرهم بالياء راجعاً الضمير غائباً عائداً على الله ، إذ تقدّم { أنّ الله لا يظلم الناس شيئاً } ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد ، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى : كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني : فقليل لبثهم ، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة ، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب .

قال ابن عباس : رأوا أنّ طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة .

قال ابن عطية : ويوم ظرف ، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره : واذكر .

ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ، ويصح نصبه بيتعارفون ، والكاف من قوله : كأن ، يصح أنْ تكون في موضع الصفة لليوم ، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، ويصح أن يكون قوله : كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى .

أما قوله : ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا ، ولعله أراد ما قاله الحوفي : من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى .

فيكون التقدير : ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا ، وأما قوله : والكاف من قوله كأن ، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم ، فلا يصح لأنّ يوم نحشرهم معرفة ، والجمل نكرات ، ولا تنعت المعرفة بالنكرة .

لا يقال : إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق ، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة ، فإنّ ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليها نكرة ، تقول : مررت في يوم قدم زيد الماضي ، فتصف يوم بالمعرفة ، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا .

وأيضاً فكأن لم يلبثوا إلا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى ، لأنّ ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم .

وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف بربط فقدره : كأن لم يلبثوا قبله ، فحذف قبله أي قبل اليوم ، وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز .

فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخراً ، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما ؟ ( قلت ) : أما الأولى فحال منهم أي : نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة .

وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني : فتكون حالاً ، وإما أن تكون مبينة لقوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة ، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً انتهى .

وقال الحوفي : يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل ، كأنه قال : متعارفين ، المعنى : اجتمعوا متعارفين .

ويجوز أن يكون حالاً من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى .

وأما قول ابن عطية : ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر ، كأنه قال : ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا ، فقد حكاه أبو البقاء فقال : وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشراً كأن لم يلبثوا قبله انتهى .

وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز .

وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالاً على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها ، وأن يكون جملة مستأنفة ، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم .

وقال الكلبي : يعرف بعضهم بعضاً كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ، وهو تعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني ، وليس تعارف شفقة وعطف ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة ، كما قال تعالى : { ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم } وقيل : يعرف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطأ والكفر .

وقال الضحاك : تعارف تعاطف المؤمنين ، والكافرون لا أنساب بينهم .

وقيل : القيامة مواطن ، ففي موطن يتعارفون وفي موطن لا يتعارفون ، والظاهر أن قوله : قد خسر الذين إلى آخره جملة مستأنفة ، أخبر تعالى بخسران المكذبين بلقائه .

قال الزمخشري : هو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم .

وقال أيضاً : وابتدأ به قد خسر على إرادة القول أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك .

قال ابن عطية : وقيل إنه إخبار المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم انتهى .

وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، وأن يكون كقول غيره : نحشرهم قائلين قد خسر ، فاحتمل هذا المقدر أن يكون معمولاً ليتعارفون ، وأن يكون معمولاً لنحشرهم ، ونبه على العلة الموجبة للخسران وهو التكذيب بلقاء الله .

وما كانوا مهتدين : الظاهر أنه معطوف على قوله : قد خسر ، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا : إنّ قوله قد خسر من كلامهم ، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا .

ويحتمل أن يكون معطوفاً على صلة الذين أي : كذبوا بلقاء الله ، وانتفت هدايتهم في الدنيا .

ويحتمل أن تكون الجملة كالتوكيل بجملة الصلة ، لأن من كذب بلقاء الله هو غير مهتد .

وقيل : وما كانوا مهتدين إلى غاية مصالح التجارة .

وقيل : للإيمان .

وقيل : في علم الله ، بل هم ممن حتم ضلالهم وقضى به .