التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

قوله تعالى : { ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كفروا بلقاء الله وما كانوا مهتدين } { يوم } ، منصوب من وجهين . أحدهما : أن يكون منصوبا بتقدير أذكر .

ثانيهما : أن يكون منصوبا على الظرف . والكاف في قوله : { كأن } في موضع نصب على الحال من الضمير { هم } في قوله : { يحشرهم } وتقديره : يوم يحشرهم متشابهين .

وقيل : صفة لمصدر محذوف . وتقديره : يحشرهم حشرا مشابها لحشر يوم لم يلبثوا قبله{[1988]} .

وذلك تذكير من الله الموعود ، اليوم الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا لتقوم بعدها القيامة بأهوالها وويلات وفظائعها ، ويومئذ تتزلزل القلوب والأبدان ، وتتبدد العزائم والهمم والإرادات ، وتذوي المقامات والوجاهات والزعامات ، وتخنس الأصوات وكل النداءات ؛ فلا يسمع منها إلا همس المهلوع الخائر ، أو المستيئس الوجل .

وفي هذا اليوم المشهود المرعب يخرج الناس من أجداثهم سراعا كأنهم جراد منتشر ، ينطلقون مشدوهين مذعورين مهطعين صوب أرض المحشر حيث التلاقي والاحتشاد . وإذ ذاك تستصغر الخلائق الحياة الدنيا ، ويوقنون أن الدنيا بالغة الحقارة والهوان ؛ إذ يتقالون مدتها فيشعرون أنها ليست غير شيء يسير من الزمن العابر . وهو قوله عز وعلا : { ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } وذلك عقب خروجهم من القبور إلى المحشر ؛ إذ يجمعهم الله ؛ ليواجهوا الحساب ، وليروا من عرصات{[1989]} يوم القيامة ما يشيب لهوله الوالدان وتخور لفظاعته القلوب والنواصي ، فيوقن المشركون عندئذ أنهم لم يلبثوا في دنياهم أو خلال مكثهم في قبورهم غير ساعة من نهار ؛ وذلكم كقوله : { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } .

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبين للخاشعين وأولي الأبصار والنهي أن الدنيا سراب ؛ إذ تفضي بعد عمرانها وزخرفها إلى يباب ؛ فلا يدري بها المرء إلا وقد مرت مرور الظل والسحاب ؛ فقد روي أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما لي وللدنيا . ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) .

وهذه هي الدنيا بزخرفها وزينتها ومباهجها ولذائذها وبكل ما حوته من صخب وصراعات وضجيج ؛ ما تلبث أن تزول فتمضي مضي الغمام المتدافع أو السراب المتوج الخادع ، حتى إذا انتهض الإنسان من قبره ليقف مبهوتا أمام الميزان والحساب ؛ فيجد من بلايا القيامة وكوارثها وخطوبها والقواصم ما يجعله مستديم الدهش إلى أن يجد سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار –فإنه في هذا الموقف المخوف يستيقن المرء تفاهة الدنيا ودنو زوالها ، وبساطة مقامه فيها كأنما هي ساعة من النهار .

قوله : { يتعارفون بينهم } الجملة في موضع نصب على الحال من الضمير في قوله : { لم يلبثوا } ويجوز أن تكون في موضع رفع ، خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : وهم يتعارفون{[1990]} ؛ أي يعرف بعضهم بعضا إذا خرجوا من قبورهم ؛ فيعرف الأبناء الآباء ، ويعرف الأقارب أهليهم وأقاربهم . وكذا الأصدقاء والخلان يتعارفون فيما بينهم ؛ فيعرف بعضهم بعضا ، وذلك في يوم التلاقي والزحام ، وفي ساحة التعارف بعد الخروج من الأجداث إلى الحشر ، لكن كل واحد منهم مشغول بنفسه . وله من شأنه العصيب ما يشغله ويغنيه عن الاهتمام بمن سواه . وقيل : هذا التعارف توبيخ وافتضاح ؛ إذ يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر .

وهذا في حق أهل الفتنة . سواء فيهم المفتونون المخدوعون أو الفاتنون المضلون الذين فتنوهم عن دينهم وأضلوهم ضلالا . لكن بقية الناس من غير أهل الفتنة والافتتان لا جرم أن يتعارفوا فيما بينهم ؛ فيذكروا أيامهم وأحولهم في الدنيا ، ثم يمضي كل واحد منهم في سبيله ؛ لأن كل واحد منهم مشغول بهمه ، ومشدود بما يجده ويبصره من أهوال فظيعة يعز على اليراعة{[1991]} أن تخط وصفها . وهذا هو قول سبحانه { يوم يفر المرء من أخيه 34 وأمه وأبيه 35 وصاحبته وبنيه 36 لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } وذلك أن المواقف يوم القيامة تختلف ؛ فقد يكون في بعض المواقف ما ليس في مواقف أخرى .

قوله : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } أي هلك الذين كذبوا لبقاء الله وجحدوا ثوابه وعقابه فخسروا حظهم من الخير والفلاح { وما كانوا مهتدين } أي لم يحظوا بالتوفيق من الله مما أسلفوا من تكذيب بيوم الحساب ؛ فكانوا الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة{[1992]} .


[1988]:البيان لابن الأنباري جـ 1 ص 413، 414.
[1989]:عرصات: جمع عرصة بالفتح. ويراد بها هنا: البلية والشدة. انظر لسان العرب جـ 7 ص 53.
[1990]:البيان لابن الأنباري جـ 1 ص 414.
[1991]:الراعة: القلم يتخذ من القصب. انظر المعجم الوسيط جـ 2 ص 1064.
[1992]:تفسير الطبري جـ 11 ص 84 وفتح القدير جـ 2 ص 448.