الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّنَ ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (45)

قوله تعالى : " ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا " بمعنى كأنهم خففت ، أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم . " إلا ساعة من النهار " أي قدر ساعة : يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث ، دليله قولهم : " لبثنا يوما أو بعض يوم{[8500]} " [ الكهف : 19 ] . وقيل : إنما قصرت مدة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا ، لا مدة كونهم في القبر . ابن عباس : رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة . " يتعارفون بينهم " في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في " يحشرهم " . ويجوز أن يكون منقطعا ، فكأنه قال فهم يتعارفون . قال الكلبي : يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم ، وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر ، وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف . ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال : " ولا يسأل حميم حميما{[8501]} " [ المعارج : 10 ] . وقيل : يبقى تعارف التوبيخ ، وهو الصحيح لقوله تعالى : " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون " إلى قوله " وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا{[8502]} " [ سبأ : 31 - 33 ] وقوله : " كلما دخلت أمة لعنت أختها{[8503]} " [ الأعراف : 38 ] الآية ، وقوله : " ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا{[8504]} " [ الأحزاب : 67 ] الآية . فأما قوله : " ولا يسأل حميم حميما " وقوله : " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم{[8505]} " [ المؤمنون : 101 ] فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة ، والله أعلم . وقيل : القيامة مواطن . وقيل : معنى " يتعارفون " يتساءلون ، أي يتساءلون كم لبثتم ، كما قال : " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون{[8506]} " [ الصافات : 27 ] وهذا حسن . وقال الضحاك : ذلك تعارف تعاطف المؤمنين ، والكافرون لا تعاطف عليهم ، كما قال : " فلا أنساب بينهم " . والأول أظهر ، والله أعلم .

قوله تعالى : " قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله " أي بالعرض على الله . ثم قيل : يجوز أن يكون هذا إخبارا من الله عز وجل بعد أن دل على البعث والنشور ، أي خسروا ثواب الجنة . وقيل : خبروا في حال لقاء الله ؛ لأن الخسران إنما هو في تلك الحالة التي لا يرجى فيها إقالة ولا تنفع توبة . قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى يتعارفون بينهم ، يقولون هذا . " وما كانوا مهتدين " بريد في علم الله .


[8500]:راجع ج 10 ص 374.
[8501]:راجع ج 18 ص 284.
[8502]:راجع ج 14 ص.
[8503]:راجع ج 7 ص 204.
[8504]:راجع ج 14 ص.
[8505]:راجع ج 12 ص 151.
[8506]:راجع ج 15 ص 73