قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } الآية .
لمَّا وصف الكفار بقلة الإصغاء ، وترك التدبُّر ؛ أتبعه بالوعيد ، فقال : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } . " يَوْمَ " منصوب على الظرف ، وفي ناصبه أوجه :
أحدها : أنَّه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا } .
الثاني : أنَّه منصوبٌ ب " يتعَارَفُون " .
الثالث : أنَّه منصوبٌ بمقدرٍ ، أي : اذكر يوم .
وقرأ الأعمش{[18467]} ، وحفص عن عاصم : " يَحْشُرهُم " بياء الغيبة ، والضمير لله تعالى لتقدم اسمه في قوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ } [ يونس : 44 ] .
قوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا } تقدَّم الكلامُ على " كأن " هذه ، وهي المخفَّفة من الثَّقيلة ، والتقدير : كأنَّهُم لم يلبثُوا ؛ فخفَّفَ ، كقوله : وكأن قد ، ولكن اختلفُوا في محلِّ هذه الجملة على أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف ، وهو " يوم " ، قاله ابن عطية .
قال أبو حيان : " لا يصحُّ ؛ لأن يوم يَحْشُرهُم معرفةٌ والجمل نكرات ، ولا تنعتُ المعرفةُ بالنَّكرة ، لا يقال : إنَّ الجمل التي يُضاف إليها أسماءُ الزَّمان نكرةٌ على الإطلاق ؛ لأنَّها إنْ كانت في التقدير تنحَلُّ إلى معرفة ، فإنَّ ما أضيف إليها يتعرَّفُ ، وإن كانت تنحَلُّ إلى نكرة ، كان ما أضيف إليها نكرةً ، تقول : " مَرَرْتُ في يوم قدم زيدٌ الماضي " ، فتصِفُ " يوم " بالمعرفة ، و " جئت ليلة قدم زيدٌ المباركة علينا " ، وأيضاً : فكأنْ لمْ يلبثُوا ، لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى ، لأنَّ ذلك من وصف المحشورين ، لا من وصف يوم حشرهم . وقد تكلَّف بعضهم تقدير رابطٍ يربطهُ ، فقدره : " كأنْ لَمْ يلبثُوا قبله " ، فحذف " قبله " ، أي : قبل اليوم ، وحذفُ مثل هذا الرَّابط لا يجوز " .
قال شهاب الدِّين : قوله : " بعضهم " ، وهو مكِّي بن أبي طالب ؛ فإنَّه قال : " الكافُ وما بعدها من " كأن " صفةٌ لليوم ، وفي الكلام حذفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ ، تقديره : كأن لم يَلْبثُوا قبله ؛ فحذف " قبله " ، فصارت الهاءُ متَّصلةً ب " يَلْبثُوا " ، فحذفتْ لطُولِ الاسم كما تحذفُ من الصِّلات " ، ونقل هذا التقدير أيضاً : أبو البقاء ، ولمْ يُسَمِّ قائله ، فقال : " وقيل " ، فذكره .
والوجه الثاني : أن تكون الجملةُ في محلِّ نصب على الحال ، من مفعول " يَحْشُرهُم " أي : يَحْشُرهم مُشبهين بمن لم يلبث إلاَّ ساعةً ، هذا تقديرُ الزمخشري ، وممَّن جوَّز أيضاً الحاليَّة : ابنُ عطيَّة ، ومكِّيٌّ ، وأبو البقاءِ ، وجعله بعضهم هو الظَّاهر .
الوجه الثالث : أن تكون الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف ، والتقدير : يَحْشُرهم حَشْراً ، كأنْ لمْ يلبثُوا ، ذكر ذلك ابن عطيَّة ، وأبو البقاء ، ومكِّي ، وقدَّر مكِّي ، وأبو البقاء : العائد محذوفاً ، كما قدَّراه حال جعلهما الجملة صفة لليَوْمِ ، وقد تقدَّم ما في ذلك .
الرابع : قال ابنُ عطيَّة{[18468]} : " ويَصِحُّ أن يكون قوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا } كلاماً مجملاً " ولم يُبَيِّنْ الفعل الذي يتضمَّنهُ { كَأَن لَّمْ يلبثوا } ، قال أبو حيَّان{[18469]} : " ولعَلَّهُ أراد ما قاله الحوفيُّ ؛ مِنْ أنَّ الكافَ في موضع نصبٍ ، بما تضمَّنتهُ من معنى الكلام ، وهو السُّرْعَة " . انتهى .
قال : " فيكونُ التقدير : ويوم يَحْشُرهم يُسْرعون كأنْ لَمْ يَلْبَثُوا " ، فيكون " يسرعون " : حالاً من مفعول " يَحْشُرهُم " ، ويكون " كأن لمْ يَلْبَثُوا " : حالاً من فاعل " يُسْرعون " ، ويجُوز أن تكون " كَأنْ لَمْ " : مفسِّرة ل " يُسْرعون " المقدَّرة .
قال الضحَّاك : كَأنْ لَمْ يَلْبثُوا في الدنيا ، إلاَّ ساعة من النَّهار{[18470]} ، وقال ابن عبَّاس : كأن لم يلبثوا في قبورهم ، إلاَّ قدر ساعة من النَّهار{[18471]} ، قال القاضي : الأولُ أولَى ، لوجهين :
أحدهما : أنَّ حال المؤمنين كحالِ الكافرين : في أنَّهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقتِ الحشر ؛ فيجبُ أن يحمل ذلك على أمْر يختصُّ به الكُفار ؛ وهو أنَّهم لمَّا لم ينتفعُوا بعُمْرِهم استقلُّوه ، والمؤمِنُ لمَّا انتفع بعمره ؛ فكأنَّه لا يستقلُّه .
الثاني : أنَّه قال : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } والتَّعارف إنَّما يضاف إلى حال الحياةِ ، لا إلى حال المَوْت ، وفي سبب هذا الاستقلال وجوهٌ :
الأول : قال أبو مسلم : إنَّهم لمَّا ضيَّعُوا أعمارهم في طلب الدنيا ، والحِرْص على لذَّاتها ؛ لم ينتفعُوا بعمرهم ألبتَّة ، فكان وجودُ ذلك العمر كالعدم كما تقدَّم ؛ فلهذا استقلوه ، ونظيره قوله - تعالى - : { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ } [ البقرة : 96 ] .
الثاني : قال الأصمُّ : إنَّهم لمَّا شاهدُوا أهوال الآخرة وعظمها ، عظم خوفُهُم ، فنسُوا أمور الدُّنيا ، والإنسان إذا عظم خوفهُ ، نسي الأمور الظَّاهرة .
الثالث : قلَّ عندهم مقامهم في الدُّنيا ، في جنب مقامهم في الآخرة .
الرابع : قلَّ عندهم في الدنيا ؛ لطولِ وقوفهم في الحَشْرِ .
قوله : " يتعَارفُونَ " فيه أوجهٌ :
أحدها : أنَّ الجملة في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل " يَلْبَثُوا " .
قال الحوفيُّ : " يتعارفُونَ " : فعلٌ مستقبلٌ في موضع الحال من الضَّمير في " يَلْبَثُوا " ، وهو العامل ، كأنَّه قال : متعارفين ، والمعنى : اجتمعوا متعارفين .
والثاني : أنها حالٌ من مفعول " يَحْشُرهم " أي : يَحْشُرهم متعارفين ، والعاملُ فعلُ الحشر ، وعلى هذا فمنْ جوَّز تعدُّدَ الحالِ ، جوَّز أن تكون " كأنْ لَمْ " : حالاً أولى ، وهذه حالٌ ثانيةٌ ، ومن منع ذلك ، جعل " كأنْ لَمْ " على ما تقدم من غير الحاليَّة .
قال أبُو البقاء : " وهي حالٌ مقدرة ؛ لأنَّ التعارف لا يكُونُ حال الحَشْرِ " .
والثالث : أنَّها مستأنفةٌ ؛ أخبر - تعالى - عنهم بذلك .
قال الزمخشري{[18472]} : " فإن قلت : كأنْ لمْ يلبثُوا إلاَّ ساعة " ، و " يتَعارفُونَ " كيف موقعهما ؟ .
قلت : أمَّا الأولى : فحالٌ منهم ، أي : يَحْشُرهم مُشبهين بمنء لَمْ يَلْبَثْ إلاَّ ساعة .
وأمَّا الثانية : فإمَّا أن تتعلَّق بالظرف - يعني فتكون حالاً - ، وإمَّا أن تكون مُبينة لقوله : { كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً } ؛ لأنَّ التَّعارفَ لا يَبْقَى مع طُولِ العهدِ ، وينقلب تَنَاكُراً " .
الأول : يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدُّنْيَا .
الثاني : يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ، ثم تنقطع المعرفةُ إذا عاينُوا العذابَ ، وتبرَّأ بعضهم من بعض .
فإن قيل : كيف توافق هذه الأشياء قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] .
أحدهما : أنَّهم يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضاً ؛ فيقول كل فريق للآخر : أنت أضللتني يوم كذا ، وزيَّنتَ لي الفعل القبيح الفُلاني ، فهو تعارفُ توبيخٍ ، وتباعدٍ ، وتقاطع ، لا تعارف عطفٍ ، وشفقة .
وأما قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] فهو سؤال رحمة ، وعطف .
والثاني : أنَّ تحمل هاتين الآيتين على حالتين ؛ وهو أنَّهم يتعارفُون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة ؛ فلذلك لا يسأل حميمٌ حميماً .
قوله : " قَدْ خَسِرَ " فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها مستأنفةٌ ، أخبر - تعالى - بأنَّ المكذِّبينَ بلقائِهِ خاسرون لا محالة ؛ ولذلك أتى بحرفِ التَّحقيق ، ويكون هذا شهادة عليهم من الله بالخُسْرَان ، والمعنى : أنَّه من باع آخرته بدنياه ، فقد خسر ؛ لأنَّه أعطى الشَّريف الباقي ، في أخْذِ الخسيسِ الفانِي .
والثاني : أن يكون في محلِّ نصبٍ بإضمار قولٍ ، أي : قائلين قد خَسِر الذين . ثُمَّ لكَ في هذا القول المقدَّر وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من مفعول " يَحْشُرهُم " أي : يحشرهم قائلين ذلك .
والثاني : أنَّه حالٌ من فاعل " يتعَارفُونَ " ، وقد ذهب إلى الاستئناف والحاليَّة من فاعل " يَتَعارفُونَ " : الزمخشريُّ ؛ فإنَّه قال : " هو استئنافٌ فيه معنى التَّعجُّب ، كأنَّه قيل : " ما أحْشرهُمْ " ، ثم قال : " قَدْ خَسِرَ " على إرادة القولِ ، أي : يَتَعَارفُونَ بينهم قائلين ذلك " ، وذهب إلى أنَّها حالٌ من مفعُول " يَحْشُرهُم " : ابنُ عطيَّة .
قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } يجوزُ فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون معطوفةً على قوله : " قَدْ خَسِرَ " ، فيكون حكمه حكمَهُ .
والثاني : أن تكون معطوفةً على صلةِ " الذينَ " ، وهي كالتَّوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً ؛ لأنَّ من كذَّب بلقاء الله ، غيرُ مُهْتَدٍ ، والمراد بالخسران : خُسْران النفس ولا شيء أعظم منه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.