ثم نهى - سبحانه - عن الغلول ونزه النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } وقوله { يَغُلَّ } من الغلول وهو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها . يقال : غل فلان شيئاً من المغنم يغل غلولا إذا أخذه خفية . ويقال : أغل الجازر أو السالخ إذا أبقى فى الجلد شيئا من اللحم على طريق الخفية .
وأصله من الغلل وهو دخول الماء فى خلل الشجر خفية . والغل : الحقد الكامن فى الصدر وسميت هذه الخيانة غلولا ، لأنها تجرى فى المال على خفاء من وجه لا يحل .
والمعنى : ما صح ولا استقام لنبى من الأنبياء أن يخون فى المغنم ، لأن الخيانة تتنافى مع مقام النبوة الذى هو أشرف المقامات { وَمَن يَغْلُلْ } أى ومن يرتكب شيئاً من ذلك ، { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأت بما غله يوم القيامة حاملا إياه ليكون فضيحة له يوم الحشر ، ليؤخذ بإثم غلوله وخيانته .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه أبو داود والترمذى عن ابن عباس قال : " نزلت هذه الآية " { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } فى قطيفة حمراء فقدت يوم بدر . فقال بعض الناس : لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ، وأكثروا فى ذلك فأنزل الله الآية " .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً أن المنافقين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء فُقِد ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } .
قال ابن كثير - بعد أن ساق هاتين الروايتين - وهذا تنزيه له صلى الله عليه وسلم من جميع وجوه الخيانة فى أداء الأمانة وقسمة الغنيمة وغير ذلك .
وفى ورود هذه الآية الكريمة فى سياق الحديث عن غزوة أحد ، حكمة عظيمة ، وتأديب من الله للمؤمنين ، وتحذير لهم من الغلول ، ذلك أن الرماة الذين تركوا أماكنهم مخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعهم لذلك خشيتهم من أن ينفرد المقاتلون بالغنائم ، ففعلوا ما فعلوا ، ولقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة :
" أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم " .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم فى كثير من الأحاديث عن الغلول ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق - أى ثياب - فيقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيام على رقبته صامت - أى ذهب وفضة - فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك " .
هذا ، وجمهور العلماء على أن الغال يأتى بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والنسة تؤيد ذلك . ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها .
ومن العلماء من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيراً بما غل عما لزمه من الإثم مجازا .
قال الفخر الرازى : " واعلم أن هذا التأويل - المجازى - يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر فى علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه . وهنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب إثباته " .
ومن المفسرين الذين حمولا الإتيان على ظاهره الإمام القرطبى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذباً بحماه وثقله ومرعوباً بصوته ، وموبخاً بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد .
وقال بعد إيراده للحديث السابق الذى رواه مسلم عن أبى هريرة : قيل الخبر محمول على شهرة الأمر . أى يأتى يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة .
قلت : وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه ، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل - كما فى كتب الأصول - وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ولا عطر بعد عروس " .
ثم نبه - سبحانه - على العقوبة التى ستحل بالخائن ، بعد أن بين ما سيناله من فضيحة وخزى فقال : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
أى : ثم تعطى كل نفس يوم القيامة جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيا تاماً ، وهم لا يظلمون شيئاً ، لأن الحاكم بينهم هو ربك الذى لا يظلم أحداً .
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وقوله { وَمَن يَغْلُلْ } وجاء العطف بثم المفيدة للتراخى ، للإشعار بالتفاوت الشديد بين حمله ما غل وبين جزائه وسوء عاقبته يوم القيامة .
وقال - سبحانه - { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ } . . . بصيغة العموم ، ولم يقل ثم يوفى الغال مثلا - لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم ، الاعلام والإخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين بأن كل إنسان سيجازى على عمله سواء أكان خيرا أو شراً . فيندرج الغال تحت هذا العموم أيضاً فكأنه قد ذكر مرتين .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل به ؟ قلت : جىء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أبلغ وأثبت ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب .
{ وما كان لنبي أن يغل } وما صح لنبي أن يخون في الغنائم فإن النبوة تنافي الخيانة ، يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه في خفية والمراد منه : إما براءة الرسول صلى الله عليه وسلم عما اتهم به إذ روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، أو ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم . وإما المبالغة في النهي للرسول صلى الله عليه وسلم على ما روي أنه بعث طلائع ، فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت . فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة ثانية . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب { أن يغل } على البناء للمفعول والمعنى : وما صح له أن يوجد غالا أو أن ينسب إلى الغلول . { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة يأت بالذي غله يحمله على عنقه كما جاء في الحديث أو بما احتمل من وباله وإثمه . { ثم توفى كل نفس ما كسبت } يعني تعطي جزاء ما كسبت وافيا ، وكان اللائق بما قبله أن يقال ثم يوفى ما كسبت لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه ، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى . { وهم لا يظلمون } فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد في عقاب عاصيهم .
تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } [ آل عمران : 145 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالاً : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب{[3670]} : [ الطويل ]
جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ . . . جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ
وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغِل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة ، غل يغُل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }{[3671]} { وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }{[3672]} { وما كان لنفس أن تموت }{[3673]} { وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم }{[3674]} { وما كان الله ليطلعكم على الغيب }{[3675]} ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل » بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغَل » بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة - التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية{[3676]} .
قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خشيتم أن نغل{[3677]} ؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً ، { وما كان لنبي أن يغل } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً{[3678]} ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه{[3679]} ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه .
قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة - أحد - لما نزل عليه : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يُغِل » بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل » أن يوجد غالاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارس : معنى «يُغَل » بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ . . . تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ{[3680]}
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون{[3681]} : أي يدخلون في الحيا{[3682]} وقوله تعالى : { ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك{[3683]} ، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة »
وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله{[3684]} ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي{[3685]} وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس{[3686]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدوا الخياط والمخيط »{[3687]} ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :< شراك أو شراكان من نار>{[3688]} ، وقال في مدعم{[3689]} ، < إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً > .
قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام{[3690]} ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحادرة{[3691]} : [ الكامل ]
أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ . . . رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ
وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }{[3692]} .
الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } [ آل عمران : 160 ] . الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده ، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه . وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم ، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات ، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم . والغلُول : تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة .
ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسباً لتعقيب آية النصر بآية الغلول ، فإنّ غزوة أحُد الَّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غُلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسِّرين من قضية غلولٍ وقعت يومَ بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أُحُد فضلاً على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حُنين الواقعِ بعد غزوة أحُد بخمس سنين .
وقرأ جمهور العشرة : يُغَلّ بضمّ التحتية وفتح الغين وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو وعاصم بفتح التحتية وضَمّ الغين .
والفعل مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش ، والغلول مصدر غير قياسي ، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقاً .
وصيغة { وما كان لنبي أن يُغلّ } صيغة جحود تفيد مبالغة النَّفي . وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبَوة } [ آل عمران : 79 ] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النَّهي . والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النَّبيء عن أن يَغلُو لأنّ الغلول في غنائم النَّبيء صلى الله عليه وسلم غلول للنَّبيء ، إذ قسمة الغنائم إليه ، وأمَّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النَّبيء لا يَغُلّ أنَّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغُلول إلى النَّبيء مجاز عقلي لملابسة جيش النَّبيء نبيئَهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف . والتقدير : ما كَان لجيش نَبيء أن يَغُلّ .
ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سَماجة .
ومعنى و { من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أنَّه يأتي به مشهَّراً مفضوحاً بالسرقة .
ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ : أنّ مَزْيَداً رجلاً من الأعراب سرق نافجة مسك فقيل له : كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ؟ فقال : إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل .
وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب . وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على مَن حكاه قالوا : لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتَّفق المسلمون على المصحف الَّذي كُتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود : إنّ الله قال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإنِّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفه فليفعل . ولا أثق بصحَّة هذا الخبر لأنّ ابْن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول .
وقوله : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } تنبيه على العقوبة بعد التفضيح ، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النَّهي ، وجيء ب ( ثمّ ) للدّلالة على طول مهلة التفضيح ، ومن جملة النُّفوس الَّتي توفَّى ما كسبت نفس من يغلل ، فقد دخل في العموم .
وجملة { وهم لا يظلمون } حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي { توفى كل نفس ما كسبت } .
والآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش ، وهو من الكبائر لأنَّه مِثل السرقة ، وأصحّ ما في الغلول حديث « الموطأ » : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من خيبر قاصداً وادي القُرى وكان له عبد أسود يدعى مِدْعَما ، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله ، فقال النَّاس : هنيئاً له الجنَّةُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلاّ والَّذي نفسي بيده إن الشَّملة التي أخذها يومَ خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً "
ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه مَا غَلَّه ويؤدّب بالاجتهاد ، ولا قطع فيه باتِّفاق ، هذا قول الجمهور ، وقال الأوزاعي ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل ، وجماعة : يحرق متاع الغالّ كُلّه عدَا سِلاحَه وسرجه ، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال ، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي ، عن عمر بن الخطاب : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه " وهو حديث ضعيف ، قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عنه فقال : « إنَّما رواه صالح بن محمد ، وهو منكر الحديث . على أنَّه لو صَحّ لوجَبَ تأويله لأنّ قواعد الشَّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء .