المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

108- لا تصل - أيها الرسول - في هذا المسجد أبدا ، وإن مسجداً أقيم ابتغاء وجه اللَّه وطلبا لمرضاته من أول أمره كمسجد قُباء لجدير بأن تؤدى فيه شعائر اللَّه ، وفي هذا المسجد رجال يحبون أن يُطهروا أجسادهم وقلوبهم بأداء العبادة الصحيحة فيه ، واللَّه يحب ويثيب الذين يتقربون إليه بالطهارة الجسمية والمعنوية .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

ثم نهى الله - تعالى - ورسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكداً فقال - سبحانه - : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } .

أى : لا تصل . أيها الرسول الكريم . في هذا المسجد في أى وقت من الأوقات لأنه لم يبين لعبادة الله ، وإنما بنى للشقاق والنفاق .

قال القرطبى : قوله - تعالى - { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } يعنى مسجد الضرار . لا تقم فيه للصلاة ، وقد يعبر عن الصلاة بالقيام . يقال : فلان يقوم الليل أى : يصلى ، ومنه الحديث الصحيح : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " .

وقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها هذا المسجد ، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار . .

وقوله : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } جملة مسوقة لمدح مسجد قباء وتشريفه .

أى : لمسجد بنى أساسه ، ووضعت قواعده لعى تقوى الله وإخلاص العبادة له منذ أول يوم بدئ في بنائه ، أحق أن تقوم للصلاة فيه من غيره .

قال الآلوسى ما ملخصه : واللام في قوله " لمسجد " إما للابتداء أو للقسم . أى : والله لمسجد ، وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ ، والجملة بعده صفته ، وقوله { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } خبر المبتدأ : " وأحق " أفعل تفضيل ، والمفضل عليه كل مسجد . أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير ، أو على زعمهم ، وقيل إنه بمعنى حقيق ، أى : ذلك المسجد بأن تصلى فيه . .

وقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } جملة مسوقة لتكريم رواد هذا المسجد ومديحهم .

أى : في هذا المسجد رجال أتقياء الظاهر والباطن ، إذهم يحبون الطهارة من كل رجس حسى ومعنوى ، ومن كان كذلك أحبه الله ورضى عنه .

/خ110

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

{ لا تقم فيه أبدا } للصلاة . { لمسجد أُسّس على التقوى } يعني مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه أوفق للقصة ، أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أبي سعيد رضي الله عنه : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة " . { من أول يوم } من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله :

لمن الديار بقُنة الحجر *** أقوين من حجَجِ ومن دهرِ

{ أحق أن تقوم فيه } أولى بأن تصلي فيه . { فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا } من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله سبحانه وتعالى ، وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها . { والله يحب المطّهّرين } يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه . قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال عليه الصلاة والسلام : " أمؤمنون أنتم " فسكتوا . . فأعادها فقال عمر : إنهم مؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أترضون بالقضاء ؟ قالوا : نعم . قال عليه الصلاة والسلام : " أتصبرون على البلاء " قالوا : نعم ، قال : " أتشكرون في الرخاء " ؟ قالوا : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم : " أنتم مؤمنون ورب الكعبة " . فجلس ثم قال : " يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط " ؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت { لا تقم فيه أبداً } كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وهذا النهي إنما هو لأن البانين لمسجد الضرار قد كانوا خادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجداً للضرورات والسيل الحائل بيننا وبين قومنا فنريد أن تصلي لنا فهو وتدعو بالبركة ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشي معهم إلى ذلك ، واستدعى قميصه لينهض فنزلت الآية { لا تقم فيه أبداً } وقوله : { لمسجد } قيل إن اللام لام قسم ، وقيل هي لام الابتداء كما تقول : لزيد أحسن الناس فعلاً ، وهي مقتضية تأكيداً ، وقال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المراد «بالمسجد الذي أسس على التقوى » هو مسجد قباء .

وروي عن عمر وأبي سعيد وزيد بن ثابت أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، ويليق القول الأول بالقصة ، إلا أن القول الثاني روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نظر مع الحديث ، وأسند الطبري في ذلك عن أبي سعيد الخدري أنه قال : اختلف رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف فقال الخدري : هو مسجد الرسول وقال الآخر : هو مسجد قباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا ، وفي الآخر خير كثير{[5898]} إلى كثير من الآثار في هذا عن أبي بن كعب وسهل بن سعد .

قال القاضي أبو محمد : ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان في بقعته نخل وقبور مشركين ومربد{[5899]} ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة ، وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، الأولى بالسميط{[5900]} وهي لبنة أمام لبنة ، والثانية بالصعيدة{[5901]} ، وهي لبنة ونصف في عرض الحائط ، والثالثة بالأنثى والذكر ، وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان ، وكان في طوله سبعون ذراعاً وكان عمده النخل ، وكان عريشاً يكف المطر ، وعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيانه ورفعه فقال : لا بل يكون عريشاً كعريش أخي موسى كان إذا قام ضرب رأسه في سقفه .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل فيه اللبن على صدره ، ويقال إن أول من وضع في أساسه حجراً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وضع أبو بكر حجراً ، ثم وضع عمر حجراً ، ثم وضع عثمان حجراً ، ثم رمى الناس بالحجارة فتفاءل بذلك بعض الصحابة في أنها الخلافة فصدق فأله ، قوله : { من أول يوم } قيل معناه منذ أول يوم ، وقيل معناه من تأسيس أول يوم ، وإنما دعا إلى هذا الاختلاف أن من أصول النحويين أن «من » لا ُتَجُّر بها الأزمان ، وإنما ُتَجُّر الأزمان بمنذ ، تقول ما رأيته منذ يومين أو سنة أو يوم ، ولا تقول من شهر ولا من سنة ولا من يوم ، فإذا وقعت «من » من الكلام وهي تلي زمناً{[5902]} فيقدر مضمر يليق أن تجره «من » كقول الشاعر : [ زهير بن أبي سلمى ]

لمن الديار كقنة الحجر*** أقوين من حجج ومن دهر{[5903]}

ومن شهر رواية ، فقدروه من مر حجج ومن مر دهر ، ولما كان «أول يوم » يوماً وهو اسم زمان احتاجوا فيه إلى تقدير من تأسيس{[5904]} ، ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير وأن تكون «من » تجر لفظة «أول » لأنها بمعنى البدأة كأنه قال من مبتدأ الأيام ، وهي هاهنا تقوم المر في البيت المتقدم ، وهي كما تقول جئت من قبلك ومن بعدك وأنت لا تدل بهاتين اللفظتين إلا على الزمن ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو ، ومعنى { أن تقوم فيه } أي بصلاتك وعبادتك ، وقرأ جمهور الناس «أن تقوم فيهِ فيهِ رجال » بكسر الهاء ، وقرأ عبد الله بن زيد «أن تقوم فيه فيهُ » بضم الهاء الثانية على الأصل ويحسنه تجنب تكرار لفظ واحد ، وقال قتادة وغيره : الضمير عائد على مسجد الرسول ، و «الرجال » جماعة الأنصار .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : «يا معشر الأنصار إني رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون ؟ » فقالوا : يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء .

قال القاضي أبو محمد : يريد الاستنجاء بالماء ، ففعلنا نحن ذلك فلما جاء الإسلام لم ندعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فلا تدعوه أبداً »{[5905]} ، وقال عبد الله بن سلا م{[5906]} وغيره ما معناه : إن الضمير عائد على مسجد قباء والمراد بنو عمرو بن عوف .

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما قال المقالة المتقدمة لبني عمرو بن عوف والأول أكثر واختلف أهل العلم في الأفضل بين الاستنجاء بالماء أو بالحجارة فقيل هذا وقيل هذا ، ورأت فرقة من أهل العلم الجمع بينهما فينقي بالحجارة ثم يتبع بالماء ، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض علماء القيروان كانوا يتخذون في متوضياتهم أحجاراً في تراب ينقون بها ، ثم يستنجون بالماء أخذاً بهذا القول .

قال القاضي أبو محمد : وإنما يتصور الخلاف في البلاد التي يمكن فيها أن تنقي الحجارة ، وابن حبيب لا يجيز الاستنجاء بالحجارة حيث يوجد الماء ، وهو قول شذ فيه ، وقرأ جمهور الناس «يتطهروا » وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش «يطهروا » بالإدغام ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «المتطهرين » بالتاء ، وأسند الطبري عن عطاء أنه قال : أحدث قوم من أهل قباء الاستنجاء بالماء فنزلت الآية فيهم .


[5898]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري. (الدر المنثور، وفيض القدير).
[5899]:- المربد: موقف الإبل ومحبسها، وبه سمى مربد البصرة، كان سوقا للإبل، وكان الشعراء يجتمعون فيه.
[5900]:- السميط: بفتح السين المشددة وكسر الميم، وقد تشدد السين مع الضم وتشدد الميم مع الفتح هو: الآجر القائم بعضه فوق بعض، وقد يسمى المسموط، والسمط. (المعجم الوسيط).
[5901]:- طريقة ثانية في البناء يكون عرض الجدار فيها مساويا للبنة ونصف لبنة، أما الطريقة الأولى فيكون عرض الجدار فيها لبنة واحدة، وقد وضح ذلك ابن عطية، أما الطريقة الثالثة فهي قائمة على وضع لبنتين ثم فوقهما لبنتان أخريان بالعرض.
[5902]:- هكذا في جميع النسخ التي بين يدي، والمفروض أن تكون العبارة: "فإذا وقعت (من) في الكلام يليها زمن".
[5903]:- البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو مطلع قصيدة يمدح بها هرم بن سنان، والقُنّة: قمة الشيء أو ما أشرف منه على الأرض، والحجر: منازل ثمود عند وادي القرى بناحية الشام، وأقوين: أقفرن وخلون، والحجج: السنون.
[5904]:- يعني: "من تأسيس أول".
[5905]:-هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (3- 422) عن عويم بن ساعدة الأنصاري، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: (إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء)***الخ.
[5906]:- هو عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل إنه من نسل يوسف بن يعقوب عليهما السلام، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان اسمه "الحصين" فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وفيه نزلت الآية الكريمة {وشهد شاهد من بني إسرائيل}، والآية الكريمة: {ومن عنده علم الكتاب}، وقد شهد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح بيت المقدس والجابية، ولما كانت الفتنة بين علي رضي الله عنه ومعاوية اتخذ سيفا من خشب واعتزلها، وأقام بالمدينة إلى أن مات بها سنة 43هـ ، له (25) حديثا. (تهذيب التهذيب- الأعلام)
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

جملة : { لا تقم فيه أبداً } هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمْنا . والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام .

ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يُمْناً وبَركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غُنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم ، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين . فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه . وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى . وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بنَ ياسر ووحشياً مولى المُطعم بن عدي ومالكَ بن الدخشم ومعنَ بن عدي فقال : « انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه » ، ففعلوا . وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السَّقف ، والجذوعِ التي تجعل له أعمدة .

وقوله : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادةٍ في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعَوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قُباء ، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه ، وهذا أدب نفساني عظيم .

وفيه أيضاً دفع مكيدةِ المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع ، فقوله : { أحقُّ } وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقاً بصلاته فيه أصلاً .

ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمُجازاتهم ظاهراً في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقاً بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه ، فيعرف من وصفه بأنه { أسس على التقوى } أن هذا أسس على ضدها .

وثبت في « صحيح مسلم » وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال : « هو مسجدكم هذا » . يعني المسجد النبوي بالمدينة . وثبت في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء . وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدهم ، لقوله : { فيه رجالٌ } .

ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى : { لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم } المسجد الذي هذه صفته لا مسجداً واحداً معيناً ، فيكون هذا الوصف كلياً انحصر في فَردين المسجدِ النبوي ومسجدِ قُباء ، فأيهما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجدِ الضرار كانَ ذلك أحق وأجدر ، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مَسجدهم ، ومن مطاعنهم أيضاً ، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين . وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبَه .

ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام . وذلك ما انتزعه السهيلي في « الروض الأنف » في فصل تأسيس مسجدِ قباء إذ قال : « وفي قوله سبحانه : { من أول يوم } ( وقد علم أنه ليس أولَ الأيام كلها ولا أضافَه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه ) من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عَام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل » .

وجملة : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسجد قباء . وجاء الضمير مفرداً مراعاة للفظ ( مَسجد ) الذي هو جنس ، كالإفراد في قوله تعالى : { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] . وفيه تعريض بأن أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك .

وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدارقطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فقال : " يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطُهور فما طُهوركم ؟ قالوا : إنَّ أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء . قال : هو ذلك فعليكموه " ، فهذا يعم الأنصار كلهم . ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضاً من الأنصار ، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار .

وأطلقت المحبة في قوله : { يحبون } كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئاً ممكناً يعمله لا محالة . فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقرباً إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها ، بحيث صارت الطهارة خُلقاً لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم .

وجملة : { والله يحب المطهرين } تذييل . وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقاً يحبه الله تعالى . وكفى بذلك تنويهاً بزكاء أنفسهم .