ثم حكى - سبحانه - ما اعتراها من حزن عندما أحست بقرب الولادة فقال : { فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } .
وقوله : { فَأَجَآءَهَا } أى : فألجأها ، يقال : أجأته إلى كذا ، بمعنى : ألجأته واضطرته إليه . ويقال : جاء فلان . وأجاءه غيره ، إذا حمله على المجىء ، ومنه قول الشاعر :
وجارٍ سارَ معتمداً علينا . . . أجاءته المخافة والرجاء
قال صاحب الكشاف : " أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه . . " .
والمخاض : وجع الولادة . يقال : مخضت المرأة - بكسر الخاء - تمخض - بفتحها - إذا دنا وقت ولادتها مأخوذ من المخض ، وهو الحركة الشديدة ، وسمى بذلك لشدة تحرك الجنين فى بطن الأم عند قرب خروجه .
وجذع النخلة : ساقها الذى تقوم عليه .
أى : وبعد أن حملت مريم بعيسى ، وابتعدت به - وهو محمول فى بطنها - عن قومها ، وحان وقت ولادتها . ألجأها المخاض إلى جذع النخلة لنتكىء عليه عند الولادة . . .
فاعتراها فى تلك الساعة ما اعتراها من هم وحزن وقالت : { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } الحمل والمخاض الذى حل بى { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أى : وكنت شيئاً منسياً متروكاً ، لا يهتم به أحد ، وكل شىء نُسى وترك ولم يطلب فهو نَسْىٌ ونسِيُّ .
قال القرطبى : " والنِّسْىُ فى كلام العرب : الشىء الحقير الذى من شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد ، والحبل للمسافر ، وقرىء : { نَسْياً } بكسر النون وهما لغتان مثل : الوِتر والوَتر . . . " .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وإنما قالت ذلك مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم ، استحياء من الناس ، وخوفاً من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس فى المعصية بسبب كلامهم فى شأنها .
وتمنى الموت لمثل ذلك لا كراهة فيه - لأنه يتعلق بأمر دينى - نعم يكره أن يتمنى المرء الموت لأمر دنيوى كمرض أو فقر . . . ففى صحيح مسلم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : الله أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى " .
{ فأجاءها المخاض } فألجأها المخاض ، وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتي في أعطى وقرئ المخاض بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج . { إلى جذع النخلة } لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء ، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها . { قالت يا ليتني مت قبل هذا } استحياء من الناس ومخافة لومهم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر { مت } من مات يموت وكنت نسيا ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه لقلته { منسيا } منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع .
و { أجاءها } معناه ، فاضطرها وهو تعدية جاء بالهمزة وقرأ شبل بن عزرة{[7928]} ورويت عن عاصم «فاجأها » من المفاجأة وفي مصحف أبي بن كعب «فلما أجاءها المخاض » .
وجار سار معتمداً إليكم . . . أجاءته المخافة والرجاء{[7928]}
وقرأ الجمهور «المَخاض » بفتح الميم ، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه بكسرها وهو «الطلق وشدة الولادة وأوجاعها » ، روي أنها بلغت الى موضع كان فيه «جذع نخلة » بالٍيابس في أصله مذود بقرة على جرية ماء فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه ، { يا ليتني مت } ولم يجر علي هذا القدر ، وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعاصم{[7930]} وأبو عمرو وجماعة «مُت » بضم الميم ، وقرأ الأعرج وطلحة ويحيى والأعمش «مِت » بكسرها واختلف عن نافع ، وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك وهذا مباح ، وعلى هذا الحد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من الصالحين ونهي النبي عليه السلام عن تمني الموت إنما هو لضر نزل بالبدن{[7931]} وقد أباحه عليه السلام في قوله : «يأتي على الناس زمان يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه »{[7932]} .
قال القاضي أبو محمد : لأنه زمن فتن يذهب بالدين ، { وكنت نسياً } أي شيئاً متروكاً محتقراً ، و «النسي » في كلام العرب الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده ، كالوتد والحبل للمسافر ونحوه ، ويقال «نِسي » بكسر النون و «نَسي » بفتحها ، وقرأ الجمهور بالكسر ، وقرأ حمزة وحده بالفتح ، واختلف عن عاصم ، وكقراءة حمزة ، قرأ طلحة ويحيى والأعمش ، وقرأ محمد بن كعب القرظي بالهمز «نِسئاً » بكسر النون ، وقرأ نوف البكالي «نَسأً » بفتح النون ، وحكاها أبو الفتح والداني عن محمد بن كعب ، وقرأ بكر بن حبيب «نَسّاً » بشد السين وفتح النون دون همز ، وقال الشنفرى : [ الطويل ]
كأنَّ لها في الأرض نسّاً تقصه . . . إذا ما غذت وإن تحدثك تبلت{[7933]}
وحكى الطبري في قصصها أنها لما حملت بعيسى حملت أيضاً أختها بيحيى ، فجاءتها أختها زائرة فقالت «يا مريم أشعرت أني حملت ؟ » قالت لها مريم «أشعرت أنت أني حملت ؟ » قالت له «وإني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك » وذلك أنه روي أنها أحست جنينها يخر برأسه الى ناحية بطن مريم ، قال السدي فذلك قوله تعالى { مصدقاً بكلمة من الله }{[7934]} [ آل عمران : 39 ] وفي هذا كله ضعف فتأمله . وكذلك ذكر الطبري من قصصها أنها خرجت فارّة مع رجل من بني اسرائيل يقال له يوسف النجار كان يخدم معها المسجد وطول في ذلك فاختصرته لضعفه ، وهذه القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملاً على عرف البشر واستحيت من ذلك ومرت بسببه وهي حامل وهو قول الجمهور المتأولين ، وروي عن ابن عباس أنه قال ليس إلا أن حملت فوضعت في ساعة واحدة والله أعلم . وظاهر قوله { فأجاءها المخاض } يقتضي أنها كانت على عرف النساء ، وتظاهرت الروايات بأنها ولدته لثمانية أشهر ولذلك قيل لا يعيش ابن ثمانية أشهر حفظاً لخاصية عيسى عليه السلام وقيل ولدته لسبعة وقيل لستة .