71- وإن ما ينزل بك من قومك قد نزل بمن سبقك من الأنبياء ، واقرأ - أيها الرسول - على الناس ، فيما ينزله عليك ربك من القرآن قصة نوح رسول الله لمَّا أحس كراهية قومه وعداءهم لرسالته ، فقال لهم : يا قوم إن كان وجودي فيكم لتبليغ الرسالة قد أصبح شديداً عليكم ، فإني مستمر مثابر على دعوتي متوكل على الله في أمري ، فاحزموا أمركم ومعكم شركاؤكم في التدبير ، ولا يكن في عدائكم لي أي خفاء ، ولا تمهلوني بما تريدون لي من سوء ، إن كنتم تقدرون على إيذائي ، فإن ربى يرعاني .
وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من الأدلة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين . . بعد كل ذلك تحدثت عن بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فبدأت بجانب من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وكيف أن الله - تعالى - أغرقهم بعد أن تمادوا في ضلالهم ، فقال - سبحانه - :
{ واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ . . . } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - سبحانه - لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفى الجواب عن الشبه والسؤالات ، شرع بعد ذلك في بيان بعض قصص الأنبياء - عليهم السلام - لوجوه :
أحدها : أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من أنواع الملالة ، فإذا انتقل الإِنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر ، انشرح صدره ، ووجد في نفسه رغبة جديدة .
وثانيها : ليكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، أسوة بمن سلف من الأنبياء ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة . . خف ذلك على قلبه ، لأن المصيبة إذا عمت خفت .
وثالثها : أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا في انكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف والوجل في نفوسهم . وحينئذ يقلوعون عن أنواع الإِيذاء والسفاهة . . . " .
ونوح - عليه السلام - : واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهي نسبة إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر في القرآن في ثلاثة وأربعين موضعا .
وكان قومه يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم نوحاً ليدلهم على طريق الرشاد .
وقد تكررت قصته مع قومه في سورة الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح . . بصورة أكثر تفضيلاً .
أما هنا في سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة ، لأن الغرض منها هنا ، إبراز جانب التحدي من نوع لقومه ، بعد أن مكث فيهم زمانا طويلاً ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة غيره .
والمعنى : واتل - يا محمد - على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب ، نبأ نوح - عليه السلام - مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما في هذا النبأ من عظات وعبر . وليعلموا أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين .
والمقصود من هذه التلاوة ، دعوة مشركي مكة وأمثالهم ، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم ، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذي جاءهم به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : { ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ . . } بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا ، ، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته ، ، وتطاول على أتباعه .
أى : قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا : يا قوم إن كان { كَبُرَ عَلَيْكُمْ } .
أى : شق وعظم عليكم { مَّقَامِي } فيكم ووجودي بين أظهركم عمرا طويلا { وَتَذْكِيرِي } إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، ، والتي تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه .
إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت ، وإليه وحده فوضت أمري ولن يصرفني عن الاستمرار في تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم .
وخاطبهم - عليه السلام - بقوله : { ياقوم } استمالة لقلوبهم ، وإشعار لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر .
وجملة { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } جواب الشرط . وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير : إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإني على الله وحده توكلت في تبليغ دعوته لكم .
وقوله : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } معطول على ما قبله .
والفعل { أجمعوا } بقطع الهمزة مأخذو من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضي فيه بدون تردد أو تقاعس .
والمراد بالأمر هنا : المكر والكيد والعداوة وما يشبه بذلك .
والمراد بشركائهم : أصنامهم التي عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة .
والمعنى : أن نوحا - عليه السلام - قد قال قولمه بصراحة ووضوح : يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامي فيكم ، وتذكيري بآيات الله الدالة على وحدانيته فأجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بي ، ثم ادعوا شركاءهم ليساعدوكم في ذلك فإنى ماض في طريقى الذي أمرنى الله به ، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم .
قال الآلوسى : " وقوله { وَشُرَكَآءَكُمْ } منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم . وقيل إنه منصوب بالعطف على قوله { أَمْرَكُمْ } بحذف المضاف أي فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم .
وقرأ نافع : فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جع وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال : جمعت شركائي ، كما يقال جمعت أمرى . . . "
وقوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه .
وكلمة { غُمَّةً } بمعنى الستر والخفاء . يقال : غم على فلان الأمر أى : خفى عليه واستتر .
ومنه الحديث الشريف : " صوموا لرؤيته - أى الهلال - وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من غيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما .
أى : أجمعوا ما تريدون جمعه لي من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم ، الذي أجمعتم على تنفيذه فيه شيء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذي يجعلكم مترددين في المضي فيه أو متقاعسين عن مجاهرتي بما تريدون فعله معى .
ومنهم من يرى أن كلمة { غُمَّةً } هنا بمعى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى : ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامى فيكم وتذكيرى إياكم بآيات الله .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذيبن الوجهين فقال : " فإن قلت : ما معنى الأمرين : أمرهم الذي يجمعونه وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة ؟
قلت : أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعني : فاجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه ، وابذلوا وسعكم في كيدي .
وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا .
وأما الثانى ففيه وجهان : أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم ، المكروهة عندهم . يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة عليكم . وحالكم عليكم غمة . أى : غما وهما . والغم والغمة كالكرب والكربة .
وثانيهما : أن يراد به ما أريد بالأمر الأول . والغمة السترة من غمة إذا ستره ، وفى الحديث " لا غمة في فرائض الله " أى لا تستر ولكن يجاهر بها .
يعنى : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم . ولكن مكشوفا مشهورا تجاهرونني به " .
وقوله : { ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } زيادة في تحديهم وإثارتهم .
والقضاء هنا بمعنى الأداء ، من قولهم : قضى المدين للدائن دينه ، إذا أداه إليه ، وقضى فلان الصلاة . أى أداها بعد مضي وقتها .
أى : ثم أدوا إلى ذلك الامر الذي تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال .
ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم ، أى : ثم احكموا على بما تريدون من أحكام ، ولا تتركوا لي مهلة في تنفيذها ، بل نفذوها على في الحال .
فأنت ترى في هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا - عليه السلام - كان في نهاية الشجاعة في مخاطبته لقومه ، بعد أن مكث فيهم مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده .
فهو - أولا - يصارحهم بأنه ماض في طريقه الذي أمره الله بالمضي فيه ، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق ، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده .
وهو - ثانيا - يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه .
وهو - ثالثا - يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء ، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد ، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا .
وهو - رابعا - يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار ، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم .
وهكذا نرى نوحا - عليه السلام - يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا . حتى إنه ليغريهم بنفسه ، ويفتح لهم الطريق لإِيذائه وإهلاكه - إن استطاعوا ذلك - .
وما لجأ - عليه السلام - إلى هذا التحدي الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله - تعالى - الذي تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوا إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره .
وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة في كل زمان تلك المواقف المشرفة لرسل الله - عليهم الصلاة والسلام - لكي يقتدوا بهم في شجاعتهم ، وفى اعتمادهم على الله وحده ، وفى ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته ، واشتد جبروته .
{ واتل عليهم نبأ نوح } خبره مع قومه . { إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبُر عليكم } عظم عليكم وشق . { مقامي } نفسي كقولك فعلت كذا لمكان فلان ، أو كوني وإقامتي بينكم مدة مديدة أو قيامي على الدعوة . { وتذكيري } إياكم . { بآيات الله فعلى الله توكلت } وثقت به . { فأجمِعوا أمركم } فاعزموا عليه . { وشركاءكم } أي مع شركائكم ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على الضمير المتصل ، وجاز من غير أن يؤكد للفصل وقيل إنه معطوف على { أمركم } بحذف المضاف أي وأمر شركائكم . وقيل إنه منصوب بفعل محذوف تقديره وادعوا شركاءكم وقد قرئ به ، وعن نافع { فاجمعوا } من الجمع ، والمعنى أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم ثقة بالله وقلة مبالاة بهم . { ثم لا يكن أمركم } في قصدي . { عليكم غُمّةً } مستورا واجعلوه ظاهرا مكشوفا ، من غمه إذا ستره أو ثم لا يكن حالكم عليكم غما إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري . { ثم اقضوا } أدوا . { إليّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي ، وقرئ " ثم أفضوا إلي " بالفاء أي انتهوا إلي بشركم أو ابرزوا إلي ، من أفضى إذا خرج إلى الفضاء . { ولا تُنظِرون } ولا تمهلوني .