ثم حكى القرآن جملة من الدعوات الخاشعات ، التي توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى الله - تعالى - فقال : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } :
مسلمين من الإِسلام ، وهو الخضوع والإِذعان ، وقد كانا خاضعين لله مذعنين في كل حال ، وإنما طلبا الثبات والدوام على ذلك ، والإِسلام الذي هو الخضوع لله بحق إنما يتحقق بعقيدة التوحيد ، وتحرى ما رسمه الشارع في العبادات والمعاملات ، والإِخلاص في أداء ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه .
وقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } معناه : واجعل يا ربنا من ذريتنا أمة مخلصة وجهها إليك ، مذعنة لأوامرك ونواهيك .
ومن ( من ) للتبعيض ، أو للتعيين كقوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } وإنما خص الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ؛ ولأن صلاح الذرية مرغوب فيه طبعاً ، والدعاء لهم بالصلاح مرغب فيه شرعاً ، وقد حكى القرآن من دعاء الصالحين قوله - تعالى - :
{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أي : علمنا شرائع ديننا وأعمال حجنا ، كالطواف والسعي والوقوف . أو متعبداتنا التي تقام فيها شرائعنا ، كمنى ، وعرفات ، وتحوهما .
والمناسك : جمع منسك - بفتح السين وكسرها - بمعنى الفعل وبمعنى الموضع من النسك - مثلثة النون وبضمها وضم السين - وهو غاية العبادة والطاعة ، وشاعت تسمية أعمال الحج بالمناسك كالطواف والسعي وغيرهما .
{ وَتُبْ عَلَيْنَآ } تسند التوبة إلى العبد فيقال : تاب فلان إلى الله ومعناها الندم على ما لابس من الذنب ، والإِقلاع عنه ، والعزم على عدم العود إليه ، ورد المظالم إن استطاع ، أو نية ردها إن لم يستطع وتسند إلى الله فيقال : تاب الله على فلان ، ومعناها حينئذ توفيقه إلى التوبة ، أو قبولها منه . فمعنى { وَتُبْ عَلَيْنَآ } وفقنا للتوبة أو تقبلها منا .
والتوبة تكون من الكبائر والصغائر ، وتكون من ترك ما هو أولى أو من تقصير يؤدي إلى خطأ في الاجتهاد ، وعلى أحد هذين الوجهين ، تحمل التوبة التي يسأل الأنبياء والمرسلون ربهم قبولها أو التوفيق لها .
{ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } التواب : كثير القبول لتوبة المنيبين إليه ، وقبول توبتهم يقتضي عدم مؤاخذتهم بما يأتونه من سيئات ، ثم بعد تخلصهم من عقوبة الخطيئة أو المعاتبة عليها ينتظرون من رحمة الله أن تحفهم بإحسان .
وإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قد طلبا قبول توبتهما صراحة في قولهما { وَتُبْ عَلَيْنَآ } ولوحا إلى طلب الرحمة بذكر اسمه الرحيم ، إذ الرحمة صفة من أثرها الإِحسان ، فكأنهما قالا : تب علينا وارحمنا ، وهذا من أكمل آداب الدعاء وأرجاها للقبول عند الله تعالى .
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
قال ابن جرير : يعنيان بذلك ، واجعلنا مستسلمين{[2813]} لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك معك في الطاعة أحدًا سواك ، ولا في العبادة غيرك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن رجاء بن حيان الحِصْني القرشي ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عبد الكريم : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال : مخلصين لك ، { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال : مخلصة .
وقال أيضا : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا المقدمي ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ } قال : كانا مسلمين ، ولكنهما سألاه الثبات .
وقال عكرمة : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال الله : قد فعلت . { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } قال الله : قد فعلت .
وقال السدي : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } يعنيان العرب .
قال ابن جرير : والصواب أنه يعمُّ العرب وغيرهم ؛ لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ، وقد قال الله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ]
قلت : وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي ؛ فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم ، والسياق إنما هو في العرب ؛ ولهذا قال بعده : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية ، والمراد بذلك محمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود ، لقوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] ، وغير ذلك من الأدلة القاطعة .
وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، كما أخبر الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين ، في قوله : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [ الفرقان : 74 ] . وهذا القدر مرغوب فيه شرعًا ، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له ؛ ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم ، عليه السلام : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } قال : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } وهو قوله : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] . وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " {[2814]} " وأرنا مناسكنا " قال ابن جُريج ، عن عطاء { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } أخرجها لنا ، عَلِّمْنَاها{[2815]} .
وقال مجاهد { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } مذابحنا . ورُوى عن عطاء أيضًا ، وقتادة نحو ذلك .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خُصيف ، عن مجاهد ، قال : قال إبراهيم : " أرنا مناسكنا " فأتاه جبرائيل ، فأتى به البيت ، فقال : ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا ، قال : هذا من شعائر الله . ثم انطلق به إلى المروة ، فقال : وهذا من شعائر الله ؟ . ثم انطلق به نحو{[2816]} مِنًى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كَبِّر وارمه . فكبر ورماه . ثم انطلق{[2817]} إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما جاز به{[2818]} جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه . فكبر ورماه . فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يُدْخِل في الحج شيئًا فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام . فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات . قال : قد عرفت ما أريتك ؟ قالها : ثلاث مرار . قال : نعم .
وروي عن أبي مِجْلز وقتادة نحو ذلك . وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي العاصم الغنوي ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس ، قال : إن إبراهيم لما أريَ أوامر المناسك ، عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه إبراهيم ، ثم انطلق به جبريل حتى أتى{[2819]} به منى ، فقال : مُنَاخ الناس هذا . فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة الوسطى ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم أتى به الجمرة القصوى ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، فأتى به جَمْعًا . فقال : هذا المشعر . ثم أتى به عرفة . فقال : هذه عرفة . فقال له جبريل : أعرفت ؟{[2820]} .
{ رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ }
وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان : { رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } يعنيان بذلك : واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك ، لا نُشْرِك معك في الطاعة أحدا سواك ، ولا في العبادة غيرك . وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الإسلام الخضوع لله بالطاعة .
وأما قوله : { وَمِنْ ذَرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ } فإنهما خَصّا بذلك بعض الذرية لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه أن من ذرّيته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره ، فخصا بالدعوة بعض ذرّيتهما . وقد قيل إنهما عنيا بذلك العرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَمِنْ ذُرّيَتِنَا أمّةً مُسْلِمَةً لَكَ } يعنيان العرب . وهذا قول يدلّ ظاهر الكتاب على خلافه لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته والمستجيبين لأمره ، وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب ، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة من الفريقين فلا وجه لقول من قال : عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد . وأما الأمة في هذا الموضع ، فإنه يعني بها الجماعة من الناس ، من قول الله : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أمّةٌ يهْدُونَ بالحقّ } .
القول في تأويل قوله تعالى : وأرِنا مَناسِكَنا .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : { وأرنا مَناسِكَنا } بمعنى رؤية العين ، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها . وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة ، وكان بعض من يوجّه تأويل ذلك إلى هذا التأويل يسكن الراء من «أرْنا » ، غير أنه يُشِمّها كسرة .
واختلف قائل هذه المقالة وقراء هذه القراءة في تأويل قوله : مَناسِكَنا فقال بعضهم : هي مناسك الحجّ ومعالمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وأرِنا مَناسِكَنا فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، والإفاضة من عرفات ، والإفاضة من جمع ، ورمي الجمار ، حتى أكمل الله الدين أو دينه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { وأرِنا مَناسِكَنا } قال : أرنا نُسكنا وحَجّنا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت أمره الله أن ينادي فقال : { وأَذّنْ فِي النّاسِ بالحَجّ } فنادى بين أخشبي مكة : يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تحجوا بيته . قال : فوقرت في قلب كل مؤمن ، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة : لبيك لبيك فأجابوه بالتلبية : لبيك اللهمّ لبيك وأتاه من أتاه . فأمره الله أن يخرج إلى عرفات ونَعَتَها فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان ، فرماه بسبع حَصَيَاتٍ يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا ، فصدّه فرماه وكبر ، فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر . فلما رأى أنه لا يُطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى ذا المجاز ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز فلذلك سمي ذا المجاز . ثم انطلق حتى وقع بعرفات ، فلما نظر إليها عرف النعت ، قال : قد عرفتُ فسميت عرفات . فوقف إبراهيم بعرفات . حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت المزدلفة . فوقف بجمع . ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أوّل مرّة فرماه بسبع حصيات سبع مرّات ، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحجّ وأمرِه . وذلك قوله : { وأرنَا مَناسِكَنا } .
وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة : المناسك المذابح . فكان تأويل هذه الآية على قول من قال ذلك : وأرنا كيف نَنْسُكُ لك يا ربنا نسائكنا فنذبحها لك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { وأرِنا مَناسِكَنا } قال : ذَبْحَنا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : مذابحنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : { وأرِنا مَنَاسِكَنَا } قال : أرنا مذابحنا .
وقال آخرون : { وأرْنا مَناسِكَنا } بتسكين الراء . وزعموا أن معنى ذلك : وعلّمنا ودُلّنا عليها ، لا أن معناها أرناها بالأبصار . وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يَعْفر أخي الأسود بن يعفر :
أرينِي جَوَادا ماتَ هُزْلاً لأَنّنِي أرَى ما تَرَينَ أوْ بَخِيلاً مُخلّدا
يعني بقوله أريني : دليني عليه وعرّفيني مكانه ، ولم يَعْنِ به رؤية العين . وهذه قراءة رُويت عن بعض المتقدّمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : { أرِنا مَناسِكَنا }أخرجها لنا ، علمناها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال ابن المسيب : قال عليّ بن أبي طالب : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت ، قال : فعلت أي ربّ فأرنا مناسكنا ، أبرزها لنا ، علمناها فبعث الله جبريل فحجّ به .
والقول واحد ، فمن كسر الراء جعل علامة الجزم سقوط الياء التي في قول القائل أرنيه أرنه ، وأقرّ الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم . ومن سكن الراء من «أرْنا » توهم أن إعراب الحرف في الراء فسكنها في الجزم كما فعلوا ذلك في لم يكن ولم يَكُ . وسواء كان ذلك من رؤية العين ، أو من رؤية القلب . ولا معنى لفَرْقِ من فَرَق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب .
وأما المناسك فإنها جمع «مَنْسِك » ، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه ، ويتقرّب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح إما بذبح ذبيحة له ، وإما بصلاة أو طواف أو سعي ، وغير ذلك من الأعمال الصالحة ولذلك قيل لمشاعر الحجّ مناسكه ، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس ، ويتردّدون إليها .
وأصل المَنْسِك في كلام العرب : الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه ، يقال : لفلان منسك ، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شرّ ولذلك سميت المناسك مناسك ، لأنها تُعتاد ويتردّد إليها بالحجّ والعمرة ، وبالأعمال التي يتقرّب بها إلى الله . وقد قيل : إن معنى النسك : عبادة الله ، وأن الناسك إنما سمي ناسكا بعبادة ربه ، فتأوّل قائل هذه المقالة قوله : وأرِنا مَناسِكَنا وعَلّمْنا عبادتك كيف نعبدك ، وأين نعبدك ، وما يرضيك عنا فنفعله . وهذا القول وإن كان مذهبا يحتمله الكلام ، فإن الغالب على معنى المناسك ما وصفنا قبل من أنها مناسك الحجّ التي ذكرنا معناها . وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما ، وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذرّيتهما المسلمين ، فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما صارا كالمخبرين عن أنفسهم بذلك . وإنما قلنا إن ذلك كذلك لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قَبْلُ في أوّل الآية ، وتأخره بعد في الآية الأخرى .
فأما الذي في أول الآية فقولهما : { رَبّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ } . ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا : { وأرِنا مَناسِكَنا } .
وأما التي في الآية التي بعدها : { رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } فجعلا المسألة لذريتهما خاصة . وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود : «وأَرِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ » ، يعني بذلك : وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنّكَ أنْتَ التّوابُ الرّحِيمُ } .
أما التوبة فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب ، فتوبة العبد إلى ربه : أوبته مما يكرهه الله منه بالندم عليه والإقلاع عنه ، والعزم على ترك العود فيه . وتوبة الربّ على عبده : عوده عليه بالعفو له عن جُرْمه والصفح له عن عقوبة ذنبه ، مغفرةً له منه ، وتفضلاً عليه .
فإن قال لنا قائل : وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة ؟ قيل : إنه ليس أحد من خلق الله إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة . فجائز أن يكون ما كان من قيلهما ما قالا من ذلك ، وإنما خَصّا به الحال التي كانا عليها من رفع قواعد البيت ، لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما ، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدي بها بعدهما ، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تَنَصّل من الذنوب إلى الله . وجائز أن يكونا عنيا بقولهما : وتب علينا وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا ، الذين أعلمتنا أمرهم من ظلمهم وشركهم ، حتى ينيبوا إلى طاعتك . فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما ، والمعنيّ به ذريتهما ، كما يقال : أكرمني فلان في ولدي وأهلي ، وبرّني فلان : إذا برّ ولده .
وأما قوله : إِنّكَ أنْتَ التواب الرّحِيمُ فإنه يعني به : إنك أنت العائد على عبادك بالفضل والمتفضل عليهم بالعفو والغفران ، الرحيم بهم ، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكتك ، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك .
فائدة تكرير النداء بقوله : { ربنا } إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات ، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي : { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] .
والمراد بمسلميْن لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد ، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد ، ووجه تسمية ذلك إسلاماً سيأتي عند قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ، وأما قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد ، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوماً وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق ، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال ، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان ، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان .
ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنُسي هذا الاسم بعد إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماماً للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً } في سورة آل عمران ( 67 ) .
ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه ، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله : { إذ قال له ربه أسلم } [ البقرة : 131 ] الآية .
وقوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يتعين أن يكون { من ذريتنا } و { مسلمة } معمولين لفعل { واجعلنا } بطريق العطف ، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما ، و ( من ) في قوله : { ومن ذريتنا } للتبعيض ، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعاً بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمماً كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة ، وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] .
ومن هنا ابتدىء التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك ، والتمهيد لشرف الدين المحمدي .
والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان ، ويقال أمة محمد مثلاً للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي بزنة فُعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة ، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها ، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليا قبائل العرب ، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية ، وأما قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } [ الأنعام : 38 ] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه .
وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وأما من أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة .
وقوله : { وأرنا مناسكنا } سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمراً مجملاً ، ففعل { أرنا } هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في « المفردات » والزمخشري في « المفصل » وتعدت بالهمز إلى مفعولين . وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازاً في العلم بجعل العلم اليقيني شبيهاً برؤية البصر ، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولاً ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماماً للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعاً مثلاً ثم يقول : أراني فلان الهلال طالعاً ، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها ، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد رُوي قولُ الفِنْد الزِّمّاني :
عَسَى أن يُرجِعَ الأيّا *** مُ قَوْماً كالذي كانوا
أَرِيني جَواداً مات هُزْلاً لعلَّني*** أَرى ما ترين أو بخيلاً مُخَلَّدا
فإن جملة مات هزلاً ليست خبراً عن جواداً إذ المبتدأ لايكون نكرة ، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالاً لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة .
وقرأ ابن كثير ويعقوب { وأرْنا } بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفاً أيضاً ، وجملة { إنك أنت التواب الرحيم } تعليل لجمل الدعاء .
والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نَسكاً من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقرباً ، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ] .