ثم نهى - سبحانه - عن الغلول ونزه النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } وقوله { يَغُلَّ } من الغلول وهو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها . يقال : غل فلان شيئاً من المغنم يغل غلولا إذا أخذه خفية . ويقال : أغل الجازر أو السالخ إذا أبقى فى الجلد شيئا من اللحم على طريق الخفية .
وأصله من الغلل وهو دخول الماء فى خلل الشجر خفية . والغل : الحقد الكامن فى الصدر وسميت هذه الخيانة غلولا ، لأنها تجرى فى المال على خفاء من وجه لا يحل .
والمعنى : ما صح ولا استقام لنبى من الأنبياء أن يخون فى المغنم ، لأن الخيانة تتنافى مع مقام النبوة الذى هو أشرف المقامات { وَمَن يَغْلُلْ } أى ومن يرتكب شيئاً من ذلك ، { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأت بما غله يوم القيامة حاملا إياه ليكون فضيحة له يوم الحشر ، ليؤخذ بإثم غلوله وخيانته .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه أبو داود والترمذى عن ابن عباس قال : " نزلت هذه الآية " { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } فى قطيفة حمراء فقدت يوم بدر . فقال بعض الناس : لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ، وأكثروا فى ذلك فأنزل الله الآية " .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً أن المنافقين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء فُقِد ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } .
قال ابن كثير - بعد أن ساق هاتين الروايتين - وهذا تنزيه له صلى الله عليه وسلم من جميع وجوه الخيانة فى أداء الأمانة وقسمة الغنيمة وغير ذلك .
وفى ورود هذه الآية الكريمة فى سياق الحديث عن غزوة أحد ، حكمة عظيمة ، وتأديب من الله للمؤمنين ، وتحذير لهم من الغلول ، ذلك أن الرماة الذين تركوا أماكنهم مخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعهم لذلك خشيتهم من أن ينفرد المقاتلون بالغنائم ، ففعلوا ما فعلوا ، ولقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة :
" أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم " .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم فى كثير من الأحاديث عن الغلول ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق - أى ثياب - فيقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيام على رقبته صامت - أى ذهب وفضة - فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك " .
هذا ، وجمهور العلماء على أن الغال يأتى بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والنسة تؤيد ذلك . ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها .
ومن العلماء من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيراً بما غل عما لزمه من الإثم مجازا .
قال الفخر الرازى : " واعلم أن هذا التأويل - المجازى - يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر فى علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه . وهنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب إثباته " .
ومن المفسرين الذين حمولا الإتيان على ظاهره الإمام القرطبى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذباً بحماه وثقله ومرعوباً بصوته ، وموبخاً بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد .
وقال بعد إيراده للحديث السابق الذى رواه مسلم عن أبى هريرة : قيل الخبر محمول على شهرة الأمر . أى يأتى يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة .
قلت : وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه ، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل - كما فى كتب الأصول - وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ولا عطر بعد عروس " .
ثم نبه - سبحانه - على العقوبة التى ستحل بالخائن ، بعد أن بين ما سيناله من فضيحة وخزى فقال : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
أى : ثم تعطى كل نفس يوم القيامة جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيا تاماً ، وهم لا يظلمون شيئاً ، لأن الحاكم بينهم هو ربك الذى لا يظلم أحداً .
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وقوله { وَمَن يَغْلُلْ } وجاء العطف بثم المفيدة للتراخى ، للإشعار بالتفاوت الشديد بين حمله ما غل وبين جزائه وسوء عاقبته يوم القيامة .
وقال - سبحانه - { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ } . . . بصيغة العموم ، ولم يقل ثم يوفى الغال مثلا - لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم ، الاعلام والإخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين بأن كل إنسان سيجازى على عمله سواء أكان خيرا أو شراً . فيندرج الغال تحت هذا العموم أيضاً فكأنه قد ذكر مرتين .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل به ؟ قلت : جىء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أبلغ وأثبت ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب .
ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية ؛ ليمد من هذا المحور خيوطا في التوجيه للأمانة ، والنهي عن الغلول ، والتذكير بالحساب ، وتوفية النفوس دون إجحاف :
( وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
ولقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل ، خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله [ ص ] من الغنائم ! كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت ؛ ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه [ ص ] في هذا المجال .
فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا . . أي أن يحتجزوا شيئا من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض ، أو يخونوا إجمالا في شيء :
ما كان له . فهو ليس من شأنه أصلا ولا من طبعه ولا من خلقه . فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل . وليس نفيا لحله أو جوازه . فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتى أن يقع منها الغلول ابتداء . . وفي قراءة : " يغل " على بناء الفعل لغير الفاعل . أي لا يجوز أن يخان . ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئا . . فيكون نهيا عن خيانة النبي في شيء . وهو يتمشى مع عجز الآية . وهي قراءة الحسن البصري .
ثم يهدد الذين يغلون ، ويخفون شيئا من المال العام أو من الغنائم ، ذلك التهديد المخيف :
( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
روى الإمام أحمد . حدثنا سفيان عن الزهري ، سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله [ ص ] رجلا من الأزد يقال له ابن اللتيبة . على الصدقة . فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي . فقام رسول الله [ ص ] على المنبر فقال : " ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي . أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده ، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ، وإن بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر " . . ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه . ثم قال : " اللهم هل بلغت ؟ " - ثلاثا - . . [ وأخرجه الشيخان ] وروى الإمام أحمد بإسناده ، عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله [ ص ] يوما فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره . ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت . فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " . . [ وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان ] . .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة الكندي . قال : قال رسول الله [ ص ] :
" يا أيها الناس . من عمل لنا منكم عملا ، فكتمنا منه مخيطا فما فوقه ، فهو غل يأتي به يوم القيامة " . . قال : فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال : يا رسول الله ، أقبل مني عملك . قال : " وما ذاك ؟ " قال : سمعتك تقول : كذاوكذا . قال : " وأنا أقول ذلك الآن . من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره . فما أوتي منه أخذه ؛ وما نهي عنه انتهى " . . [ ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع ] . .
وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة ؛ حتى أتت بالعجب العجاب ؛ وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره ، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية . وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة ، لا يراه أحد ، فيأتي به إلى أميره ، لا تحدثه نفسه بشيء منه ، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب ، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة ! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا . وكانت الآخرة في حسه واقعا ، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه ، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها . وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه . فالآخرة كانت حقيقة يعيشها ، لا وعدا بعيدا ! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت ، وهم لا يظلمون . .
روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما آتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ! ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس . .
وقد حملت الغنائم إلى عمر - رضي الله عنه - بعد القادسية ، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن . . فنظر - رضي الله عنه - إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : " إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء " . .
وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير .
الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } [ آل عمران : 160 ] . الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده ، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه . وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم ، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات ، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم . والغلُول : تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة .
ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسباً لتعقيب آية النصر بآية الغلول ، فإنّ غزوة أحُد الَّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غُلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسِّرين من قضية غلولٍ وقعت يومَ بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أُحُد فضلاً على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حُنين الواقعِ بعد غزوة أحُد بخمس سنين .
وقرأ جمهور العشرة : يُغَلّ بضمّ التحتية وفتح الغين وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو وعاصم بفتح التحتية وضَمّ الغين .
والفعل مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش ، والغلول مصدر غير قياسي ، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقاً .
وصيغة { وما كان لنبي أن يُغلّ } صيغة جحود تفيد مبالغة النَّفي . وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبَوة } [ آل عمران : 79 ] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النَّهي . والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النَّبيء عن أن يَغلُو لأنّ الغلول في غنائم النَّبيء صلى الله عليه وسلم غلول للنَّبيء ، إذ قسمة الغنائم إليه ، وأمَّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النَّبيء لا يَغُلّ أنَّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغُلول إلى النَّبيء مجاز عقلي لملابسة جيش النَّبيء نبيئَهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف . والتقدير : ما كَان لجيش نَبيء أن يَغُلّ .
ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سَماجة .
ومعنى و { من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أنَّه يأتي به مشهَّراً مفضوحاً بالسرقة .
ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ : أنّ مَزْيَداً رجلاً من الأعراب سرق نافجة مسك فقيل له : كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ؟ فقال : إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل .
وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب . وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على مَن حكاه قالوا : لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتَّفق المسلمون على المصحف الَّذي كُتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود : إنّ الله قال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإنِّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفه فليفعل . ولا أثق بصحَّة هذا الخبر لأنّ ابْن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول .
وقوله : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } تنبيه على العقوبة بعد التفضيح ، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النَّهي ، وجيء ب ( ثمّ ) للدّلالة على طول مهلة التفضيح ، ومن جملة النُّفوس الَّتي توفَّى ما كسبت نفس من يغلل ، فقد دخل في العموم .
وجملة { وهم لا يظلمون } حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي { توفى كل نفس ما كسبت } .
والآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش ، وهو من الكبائر لأنَّه مِثل السرقة ، وأصحّ ما في الغلول حديث « الموطأ » : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من خيبر قاصداً وادي القُرى وكان له عبد أسود يدعى مِدْعَما ، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله ، فقال النَّاس : هنيئاً له الجنَّةُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلاّ والَّذي نفسي بيده إن الشَّملة التي أخذها يومَ خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً "
ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه مَا غَلَّه ويؤدّب بالاجتهاد ، ولا قطع فيه باتِّفاق ، هذا قول الجمهور ، وقال الأوزاعي ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل ، وجماعة : يحرق متاع الغالّ كُلّه عدَا سِلاحَه وسرجه ، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال ، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي ، عن عمر بن الخطاب : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه " وهو حديث ضعيف ، قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عنه فقال : « إنَّما رواه صالح بن محمد ، وهو منكر الحديث . على أنَّه لو صَحّ لوجَبَ تأويله لأنّ قواعد الشَّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء .