156- يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا في شأن إخوانهم - إذا أبعدوا في الأرض لطلب العيش فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا - : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فقد جعل الله ذلك القول والظن حسرة في قلوبهم ، والله هو الذي يحيي ويميت ، وبيده مقادير كل شيء ، وهو مطلع على ما تعملون من خير أو شر ، ومجازيكم عليه .
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
قوله { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } الخ كلام مستأنف قصد به تحذير المؤمنين من التشبه بالكافرين ومن الاستماع إلى أقوالهم الذميمة .
والمراد بالذين كفروا المنافقون كعبد الله بن أبى بن سلول وأشباهه من المنافقين الذين سبق للقرآن أن حكى عنهم أنهم قالوا : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } وإنما ذكرهم بصفة الكفر للتصريح بمباينة حالهم لحال المؤمنين وللتنفير عن مماثلتهم ومسايرتهم . وقيل المراد بهم جميع الكفار .
والمراد بإخوانهم : إخوانهم فى الكفر والنفاق والمذهب أو فى النسب وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } أى سافروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا . وأصل الضرب : إيقاع شىء على شىء ثم استعمل فى السير ، لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل ، ثم صار حقيقة فيه .
وقوله : { غُزًّى } جمع غاز كراكع وركع ، وصائم وصوم ، ونائم ونوم .
والمعنى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا بفزع وجزع من أجل إخوانهم الذين فقدوهم بسبب سفرهم للتجارة أو بسبب غزوهم فى سبيل الله .
قالوا على سبيل التفجع : لو كان هؤلاء الذين ماتوا فى السفر أو الغزو مقيمين معنا ، أو ملازمين بيوتهم ، ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا فيها لبقوا أحياء ولما ماتوا أو قتلوا .
وقولهم هذا يدل على جبنهم وعجزهم ، كما يدل على ضعف عقولهم وعدم إيمانهم بقضاء الله وقدره ، إذ لو كانوا مؤمنين بقضاء الله وقدره لعلموا أن كل شىء عنده بمقدار ، وأن العاقل هو الذى يعمل ما يجب عليه بجد وإخلاص ثم يترك بعد ذلك النتائج لله يسيرها كيف يشاء .
وقولهم هذا بجانب ذلك يدل على سوء نيتهم ، وخبث طويتهم ، لأنهم قصدوا به تثبيط عزائم المجاهدين عن الجهاد ، وعن السعى فى الأرض من أجل طلب الرزق الذى أحله الله .
والنهى فى قوله - تعالى { لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } يشعر بالتفاوت الشديد بين المقامين : مقام الإيمان ومقام الكفران ، وأنه لا يليق بالمؤمن أن ينحدر إلى المنحدر الدون وهو التشبه بالكافرين ، بعد أن رفعه الله بالإيمان إلى أعلى عليين ، وفى هذا تقبيح للمنهى عنه بأبلغ وجه وبأدق تصوير .
واللام فى قوله { لإِخْوَانِهِمْ } يرى صاحب الكشاف أنها للتعليل فقد قال : قوله : { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أى لأجل إخوانهم ، كقوله - تعالى - { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } ويجوز أن تكون اللام للدلالة على موضع الخطاب ، ويكون المعنى : لا تكونوا أيها المؤمنون كهؤلاء الذين كفروا وقالوا لإخوانهم الأحياء : لو كان أولئك الذين فقدناهم ملازمين لبيوتهم ولم يضربوا فى الأرض ولم يغزوا لما أصابهم ما أصابهم من الموت أو القتل .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل إن قوله { قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } يدل على الماضى ، وقوله { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما ؟
أولها : أن قوله { قَالُواْ } تقديره : يقولون ، فكأنه قيل : لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لإخوانهم كذا وكذا .
وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضى للتأكيد وللإشعار بأن جدهم فى تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، وصار بسبب ذلك الجد ينظر لى هذا المستقبل كالكائن الواقع .
وثانيها : أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية . والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا فى الأرض ، فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، فمن أخبر عنهم بعد ذلك فلا بد أن يقول : قالوا .
وثالثها : قال " قطرب " كلمة " إذ " و " وإذا يجوز إقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وهو حسن لأنا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول ، فلأن يجوز إثباتها بالقرآن العظيم أولى " .
وقوله { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } معطوف على { ضَرَبُواْ فِي الأرض } من عطف الخاص بعد العام ، اعتناء به لأن الغزو هو المقصود فى هذا المقام وما قبله توطئة له .
قالوا : على أنه قد يوجد الغزو بدون الضرب فى الأرض بناء على أن المراد بالضرب فى الأرض السفر البعيد ، فيكون على هذا بين الضرب فى الأرض وبين الغزو خصوص وعموم من وجه .
وإنما لم يقل أو غزوا : للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة ، أو لا نقضاء ذلك ، أى كانوا غزاة فيما مضى .
وقوله { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فى محل نصب مقول القول .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على أقوالهم من عواقب سيئة فقال : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } .
والحسرة - كما يقول الراغب - هى غم الإنسان على ما فاته ، والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذى حمله على ما ارتكبه ، أو انحسرت قواه - أى انسلخت - من فرط الغم ، وأدركه إعياء عن تدارك ما فرط " .
فالحسرة هى الهم المضنى الذى يلقى على النفس الحزن المستمر والألم الشديد ، واللام فى قوله { لِيَجْعَلَ } هى التى تسمى بلام العاقبة ، وهى متعلقة بقالوا أى قالوا ما قالوا لغرض من أغراضهم التى يتوهمون من ورائها منفعتهم ومضرة المؤمنين فكان عاقبة قولهم ومصيره إلى الحسرة والندامة لأن المؤمنين الصادقين لن يلتفتوا إلى هذا القول . بل سيمضون فى طريق الجهاد الذى كتبه الله عليهم وسيكون النصر الذى وعدهم الله إياه حليفهم وبذلك يزداد الكافرون المنافقون حسرة على حسرتهم .
ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويكون المعنى : أن الله - تعالى - طبع الكفار على هذه الأخلاق السيئة بسبب كفرهم وضلالهم لأجل أن يجعل الحسرة فى قلوبهم والغم فى نفوسهم والضلال بهذه الأقوال والأفعال فى عقولهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قتل ما متعلق ليجعل ؟ قلت : قالوا . أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة فى قلوبهم على أن اللام مثلها فى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } أو لا تكونوا بمعنى : لا تكونوا مثلهم فى النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة فى قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم . فإن قلت : ما معنى إسناد الفعلى إلى الله ؟ قلت : معناه أن الله - تعالى - عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة فى قلوبهم ويضيق صدورهم عقوبة لهم . كما قال - تعالى - { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دل عليه النهى ، أى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثهلم حسرة فى قلوبهم ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغمهم ويغيظهم " .
والجعل هنا بمعنى التصيير ، وقوله { حَسْرَةً } مفعول ثان له ، وقوله ، { فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بيجعل .
وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها ، لإرادة التمكن ، والإيذان بعدم الزوال .
وقوله { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } رد على قولهم الباطل أثر بيان سوء عاقبته وحض للمؤمنين على الجهاد فى سبيل الله وترغيب لهم فى العمل الصالح ، أى أن الأرواح كلها بيد الله يقبضها متى شاء ، ويرسلها متى شاء فالقعود فى البيوت لا يطيل الآجال كما أن الخروج للجهاد فى سبيل الله أو للسعى فى طلب الرزق لا ينقصها وما دام الأمر كذلك فعلى العاقل أن يسارع إلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وأن يسعى فى الأرض ذات الطول والعرض ليأكل من رزق الله وأن يباشر الأسباب التى شرعها الله بدون عجز أو كسل وليعلم أن الله مطلع على أعمال الناس وأقوالهم وسيجازيهم عليها يوم القيامة بما يستحقون من خير أو شر .
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة ، وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر ، مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء . ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت . والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) . .
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة ، أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة ، والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام ؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات . . وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد ، مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم ، واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة - نتيجة لخروجهم - ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة . ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ، ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه .
إن قول الكافرين : ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . . ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها ، للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها : سراؤها وضراؤها . . إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله ، متعرف إلى مشيئة الله ، مطمئن إلى قدر الله . إنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ، ولا يتلقى السراء بالزهو ، ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك ؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا ، أو ليستجلب كذا ، بعد وقوع الأمر وانتهائه ! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة ، كله قبل الإقدام والحركة ؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير - في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه - فكل ما يقع من النتائج ، فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم ؛ موقنا أنه وقع وفقا لقدر الله وتدبيره وحكمته ؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع ؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله ! . . توازن بين العمل والتسليم ، وبين الإيجابية والتوكل ، يستقيم عليه الخطو ، ويستريح عليه الضمير . . فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة ، فهو أبدا مستطار ، أبدا في قلق ! أبدا في " لو " و " لولا " و " يا ليت " و " وا أسفاه " !
والله - في تربيته للجماعة المسلمة ، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها - يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا . أولئك الذين تصيبهم الحسرات ، كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق ، أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد :
( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) . .
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ، ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري . فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية ، بسبب انقطاعهم عن الله ، وعن قدره الجاري في الحياة .
( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) . .
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا ، أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا . . إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل ، يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج ! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ، ونداء المضجع ، وقدر الله ، وسنته في الموت والحياة ، ما تحسروا . ولتلقوا الابتلاء صابرين ، ولفاءوا إلى الله راضين :
فبيده إعطاء الحياة ، وبيده استرداد ما أعطى ، في الموعد المضروب والأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم ، أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة . وعنده الجزاء ، وعنده العروض ، عن خبرة وعن علم وعن بصر :
نهى الله تعالى المؤمنين عن الكون مثل الكفار والمنافقين في هذا المعتقد الفاسد ، الذي هو أن من سافر في تجارة ونحوها ومن قاتل فقتل لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، وهو نحو منه ، وقوله تعالى : { لإخوانهم } هي أخوة نسب ، لأن قتلى -أحد- كانوا من الأنصار ، أكثرهم من الخزرج ، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلى أربعة ، وصرح بهذه المقالة فيما ذكر السدي ومجاهد وغيرهما ، عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه ، وقيل : بل قالها جميع المنافقين ، ودخلت { إذا } في هذه الآية وهي حرف استقبال ، من حيث { الذين } اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان ، ويطرد النهي للمؤمنين فيها ، فوضعت { إذا } لتدل على اطراد الأمر في مستقبل الزمان ، وهذه فائدة وضع المستقبل موضع الماضي ، كما قال تعالى : { والله يدعو إلى دار السلام }{[3645]} إلى نحوها من الآيات وكما قالت :
وفينا نبي يعلم ما في غد{[3646]} . . .
كما أن فائدة وضعهم الماضي موضع المستقبل للدلالة على ثبوت الأمر ، لأن صيغة الماضي متحققة الوقوع ، فمن ذلك قول الشاعر :
وَإنّي لآتيكم تَشَكُّرَ ما مَضَى . . . مِنَ الأَمْرِ واسْتيجَاب مَا كَانَ في غَدِ{[3647]}
أَصْبَحْتُ لا أَمْلِكُ السلاحَ وَلاَ . . . أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إنْ نَفَرَا
و «الضرب في الأرض » : الإبعاد في السير ، ومنه ضرب الدهر ضربانه : إذا بعدت المدة ، وضرب الأرض : هو الذهاب فيها لحاجة الإنسان خاصة بسقوط «في » وقال السدي وغيره : في هذه الآية ، الضرب في الأرض : السير في التجارة ، وقال ابن إسحاق وغيره : بل هو السير في جميع طاعات الله ورسوله ، والضرب في الأرض يعم القولين ، و { غزى } : جمع غاز ، وزنه -فعل- بضم الفاء وشد العين المفتوحة كشاهد وشهد وقائل وقول ، وينشد بيت رؤبة : [ الرجز ]
فالآنَ قَدْ نَهْنَهَني تَنَهْنُهِي . . . وَقَوْلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ
( وقول ، الاده فلاده ) {[3648]} . . . يريد إن لم تتب الآن فلا تتوب أبداً ، وهو مثل معناه : إن لم تكن كذا فلا تكن كذا ، وقد روي ، وقولهم إلا ده فلاده ، قال سيبويه وغيره : لا يدخل { غزى } الجر ولا الرفع ، وقرأته عامة القراء بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري ، «غزى » مخففة الزاي ، ووجهه إما أن يريد غزاة ، فحذف الهاء إخلاداً إلى لغة من يقول «غزّى » بالتشديد ، وهذ الحرف كثير في كلامهم ، قول الشاعر يمدح الكسائيّ{[3649]} : [ الطويل ]
أَبى الذَّمُّ أَخْلاَقَ الكِسَائيّ وانتمى . . . بهِ الْمَجْدُ أخْلاق الأُبُوِّ السوابقِ
يريد الأبوة جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوة جمع ابن وقد قالوا : ابن وبنو ، وتحتمل قراءتهما أن تكون تخفيفاً للزاي من «غزى » ، ونظيره قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
{ وكذبوا بآياتنا كذاباً }{[3650]} في قول من قال : إنه تخفيف ، وقد قيل : إنه مصدر جرى على غير المصدر ، وقرأ الحسن «وما قتّلوا » مشددة التاء ، وقوله تعالى : { ليجعل الله ذلك } قال مجاهد : معناه يحزنهم قوله ولا ينفعهم .
قال القاضي : فالإشارة في ذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل الله ذلك حسرة ، لأن الذي يتقين أن كل موت وقتل فبأجل سابق ، يجد برد اليأس والتسليم لله تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت ، يتحسر ويتلهف ، وعلى هذا التأويل مشى المتأولون ، وهو أظهر ما في الآية ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى انتهاء المؤمنين ومخالفتهم الكافرين في هذا المعتقد ، فيكون خلافهم لهم حسرة في قلوبهم ، وقال قوم : الإشارة بذلك إلى نفس نهي الله تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد لأنهم إذا رأوا أن الله تعالى قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم ، ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله «والحسرة » : التلهف على الشيء والغم به ، ثم أخبر تعالى خبراً جزماً أنه الذي { يحيى ويميت } بقضاء حتم ، لا كما يعتقد هؤلاء ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : «والله بما يعملون » بالياء ، فهذا وعيد للمنافقين ، وقرأ الباقون «تعملون » بالتاء على مخاطبة المؤمنين ، فهذا توكيد للنهي في قوله { لا تكونوا } ووعيد لمن خالفه ووعد لمن امتثله .
تحذير من العود إلى مخالجة عقائد المشركين ، وبيان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضاً . والكلام استئناف . والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطّف بهم جميعاً بعد تقريع فريق منهم الَّذين تولّوا يوم التقى الجمعان . واللام في قولهم : { لإخوانهم } ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلّة كقوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } لأنّ الإخوان ليسوا متكلّماً معهم بل هم الَّذين ماتوا وقُتلوا ، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب ، أي من الخزرج المؤمنين ، لأنّ الشهداء من المؤمنين .
و ( إذ ) هنا ظرف للماضي بدليل فعليّ ( قالوا وضَربوا ) ، وقد حذف فعل دلّ عليه قوله : { ما ماتوا } تقديره : فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو .
والضرب في الأرض هو السفر ، فالضرب مستعمل في السير لأنّ أصل الضّرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به ، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل ، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللَّه } [ المزمل : 20 ] ، وعلى مطلق السفر كما هنا ، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } [ النساء : 94 ] وقوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } [ النساء : 101 ] والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأنّ ذلك هو الَّذي يلومهم عليه الكفار ، وقيل : أريد بالضرب في الأرض التجارة .
وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار .
و { غُزًّى } جمع غاز . وفُعَّل قليل في جمع فَاعل الناقص . وهو مع ذلك فصيح . ونظيره عُفَّى في قول امرىء القيس :
لَهَا قُلُب عُفَّى الحِيَاضضِ أُجُونُ
وقوله : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } علّة ل ( قَالوا ) باعتبار ما يتضمّنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيهاً للنَّهي عن التشبيه بهم أي فإنَّكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحِقَكم أثره كما لحقهم ، فالإشارة بقوله : ( ذلك ) إلى القول الدال على الاعتقاد ، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه . وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : لا تكونوا كالَّذين قالوا فترتّب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم ، فيكون قوله : { ليجعل } على هذا الوجه من صلة ( الّذين ) ، ومن جملة الأحوال المشبّه بها ، فيعلم أنّ النّهي عن التّشبّه بهم فيها لما فيها من الضرّ .
والحَسرة : شدّة الأسف أي الحُزن ، وكانَ هذا حسرة عليهم لأنَّهم توهّموا أنّ مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم ، وأنَّهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهّفين على مافتهم . والمؤمن يبذل جهده فإذا خَابَ سَلَّم لْحكم القدر .
وقوله : { والله بما تعملون بصير } تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه .