المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

72- إنا عرضنا التكاليف على السماوات والأرض والجبال فأبين حملها وخفْن منها ، وحملها الإنسان إنه كان شديد الظلم لنفسه ، جهولا بما يطيق حمله .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

ثم بين - سبحانه - ضخامة التبعة التى حملها الإِنسان فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان . . } .

وأرجح الأقوال وأجمعها فى المراد بالأمانة هنا : أنها التكاليف والفرائض الشرعية التى كلف الله - تعالى - بها عباده ، من إخلاص فى العبادة ، ومن أداء للطاعات ، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه .

وسمى - سبحانه - ما كلفنا به أمانة ، لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا - سبحانه - بها ، وائتمننا عليها ، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها ، وأداءها بدون إخلال بشئ منها .

والمراد بالإِنسان : آدم - عليه السلام - أو جنس الإِنسان .

والمراد بحمله إياها : تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهى مع ثقلتها وضخامتها .

وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهات ، فمنهم من يرى أن الكلام على حقيقته ، وأن الله - تعالى - قد عرض هذه التكاليف الشرعية المعبر عنها بالأمانة ، على السماوات والأرض والجبال { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } لثقلها وضخامتها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أى : وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدى بهن إلى عذاب الله وسخطه بسبب التقصير فى أداء ما كلفن بأدائه .

{ وَحَمَلَهَا الإنسان } أى : وقبل الإِنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه ، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها ، وأشفقن منها .

{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى : إنه كان مفرطا فى ظلمه لنفسه ، ومبالغة فى الجهل ، لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعا بأداء ما كلفهم الله - تعالى - بأدائه . وإنما منهم من أداها على وجهها - وهم الأقلون - ، ومنهم من لم يؤدها وإنما عصى ما أمره به ربه ، وخان الأمانة التى التزم بأدائها .

فالضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود على بعض أفراد جنس الإِنسان ، وهم الذين لم يؤدوا حقوق هذه الأمانة التى التزموا بحملها .

قال الآلوسى : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى : بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله ويكفى فى صدق الحكم على الجنس بشئ ، وجوده فى بعض أفراده ، فضلا عن وجوده فى غالبها . .

وقال بعض العلماء : ورجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلى معروف فى اللغة التى نزل بها القرآن .

وقد جاء فعلا فى آية من كتاب الله ، وهى قوله - تعالى - : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ . . . }

لأن الضمير فى قوله : { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلى ، كما هو ظاهر .

وهذه المسألة هى المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندى درهم ونصفه . أى : ونصف درهم آخر .

وأصحاب هذا الاتجاه يقولون : لا مانع إطلاقا من أن يخلق الله - تعالى - إدراكا ونطقا للسموات والأرض والجبال ، ولكن هذا الإِدراك والنطق لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .

ومما يشهد لذلك قوله - تعالى - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } قال الجمل : وكان هذا العرض عليهن - أى على السماوات والأرض والجبال تخييرا لا إلزاما ، ولو ألزمهن لم يمتنعن عن حملها . والجمادات كلها خاضعة لله - تعالى - مطيعة لأمره ، ساجدة له .

قال بعض أهل العلم : ركب الله - تعالى - فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة ، حتى عقلن الخطاب ، وأجبن بما أجبن .

ويرى بعضهم أن العرض فى الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل ، أو من قبيل المجاز .

قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : لما بين - تعالى - فى هذه السورة من الأكحام ما بين ، أم بالتزام أوامره ، والأمانة تعم جميع وظائف الدين ، على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور . .

ويصح أن يكون عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة .

وقال القفال وغيره : العرض فى هذه الآية ضرب مثل ، أى : أن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها ، لو كانت بحيث يجوز تكليفها ، لثقل عليها تقلد الشرائع ، لما فيها من الثواب والعقاب .

أى : أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد حمله الإِنسان وهو ظلوم جهول لو عقل . وهذا كقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله . . . } وقال قوم : إن الآية من المجاز : أى : أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأينا أنها لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ، فَعُبِّر عن هذا بعرض الأمانة . كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد : قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه . .

وقيل : { عَرَضْنَا } يعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة . ورجحت الأمانة بثقلها عليها . . .

ويبدو لنا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول ، لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه ، فلا داعى لصرفه عن ذلك .

ومما لا شك أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها أن تخلق فى السماوات والأرض ولاجبال إدراكا وتمييزا ونطقا لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

63

ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان ، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه . وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال . والتي أخذها على عاتقه ، وتعهد بحملها وحده ، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات ، وقصور العلم ، وقصر العمر ، وحواجز الزمان والمكان ، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد :

( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ؛ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) . .

إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة ، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا . هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة ، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها ؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة .

هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا . وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها ؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا . .

وهذه الأرض تدور دورتها ، وتخرج زرعها ، وتقوت أبناءها ، وتواري موتاها ، وتتفجر ينابيعها . وفق سنة الله بلا إرادة منها .

وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب ، وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . . وهذه الجبال . وهذه الوهاد . . كلها . . كلها . . تمضي لشأنها ، بإذن ربها ، وتعرف بارئها ، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . . لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . أمانة المحاولة الخاصة .

( وحملها الإنسان ) . .

الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده . ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه ، ومقاومة انحرافاته ونزغاته ، ومجاهدة ميوله وشهواته . . وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق !

إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم ، القليل القوة ، الضعيف الحول ، المحدود العمر ؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع . .

وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة . ومن ثم ( كان ظلوما )لنفسه( جهولا )لطاقته . هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله . فأما حين ينهض بالتبعة . حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه ، والاهتداء المباشر لناموسه ، والطاعة الكاملة لإرادة ربه . المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال . . الخلائق التي تعرف مباشرة ، وتهتدي مباشرة ، وتطيع مباشرة ، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل . ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء . . حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد . فإنه يصل حقا إلى مقام كريم ، ومكان بين خلق الله فريد .

إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة . . هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله . وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى ، وهو يسجد الملائكة لآدم . وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول : ( ولقد كرمنا بني آدم ) . . فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله . ولينهض بالأمانة التي اختارها ؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها . . . !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

{ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء ، والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين . { إنه كان ظلوما } حيث لم يف بها ولم يراع حقها . { جهولا } بكنه عاقبتها ، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب . وقيل المراد ب{ الأمانة } الطاعة التي تعم الطبيعية والاختيارية ، وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره ، وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته ، فيكون الإباء عنه إتيانا بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة والخيانة والتقصير . وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال لها : إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ، ونارا لمن عصاني ، فقلن نحن مسخرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبغي ثوابا ولا عقابا ، ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله ، وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته ، ولعل المراد ب { الأمانة } العقل أو التكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن ، وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحد ، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

اختلف الناس في { الأمانة } فقال ابن مسعود هي أمانات المال كالودائع ونحوها ، وروي عنه أنه في كل الفرائض وأشدها أمانة المال ، وذهبت فرقة ، هي الجمهور ، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا ، فالشرع كله أمانة ، قال أبيّ بن كعب من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها ، وقال أبو الدرداء غسل الجنابة أمانة ، ومعنى الآية { إنا عرضنا } على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر والنواهي وتقتضي الثواب إن أحسنت والعقاب إن أساءت فأبت هذه المخلوقات وأشفقت ، ويحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها ، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها من الملائكة ، ويروى أنها قالت «رب ذرني مسخرة لما شئت أتيت طائعة فيه ولا تكلني إلى نظري وعملي ولا أريد ثواباً » ، وحمل الإنسان الأمانة أي التزم القيام بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول بقدر ما دخل فيه ، وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير ، وقال الحسن { حملها } معناه خان فيها والآية في الكافر والمنافق .

قال الفقيه الإمام القاضي : والعصاة على قدرهم ، وقال ابن عباس والضحاك وغيره { الإنسان } آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة ، وروي أن الله تعالى قال له : «يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فتحملها أنت بما فيها . قال : وما فيها ؟ قال : إن أحسنت أجرت وإن أسأت عوقبت » ، قال نعم قد حملتها ، قال ابن عباس فما بقي له قدر ما بين الأولى إلى العصر حتى عصى ربه ، وقال ابن عباس وابن مسعود { الإنسان } ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه وكان قد تحمل الأمانة لأبيه أن يحفظ الأهل بعده ، وكان آدم سافر إلى مكة في حديث طويل ذكره الطبري وغيره ، وقال بعضهم { الإنسان } النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة ، وقال الزجاج معنى الآية { إنا عرضنا الأمانة } في نواهينا وأوامرنا على هذه المخلوقات فقمن بأمرنا وأطعن فيما كلفناها وتأبين من حمل المذمة في معصيتنا ، وحمل الإنسان المذمة فيما كلفناه من أوامرنا وشرعنا .

قال الفقيه الإمام القاضي : و { الإنسان } على تأويله الكافر والعاصي ، وتستقيم هذه الآية مع قوله تعالى : { أتينا طائعين }{[9589]} [ فصلت : 11 ] فعلى التأويل الأول الذي حكيناه عن الجمهور يكون قوله تعالى : { أتينا طائعين } [ فصت : 11 ] إجابة لأمر أمرت به ، وتكون هذه الآية إباية وإشفاقاً من أمر عرض عليها وخيرت فيه ، وروي أن الله تعالى عرض الأمانة على هذه المخلوقات فأبت ، فلما عرضها الله تعالى على آدم قال : أنا أحملها بين أذني وعاتقي ، فقال الله تعالى له : إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجاباً فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .

قال الفقيه الإمام القاضي : وفي هذا المعنى أشياء تركتها اختصاراً لعدم صحتها ، وقال قوم : إن الآية من المجاز ، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال رأينا أنها لا تطيقها وأنها لو تكلمت لأبتها وأشفقت فعبر عن هذا المعنى بقوله { إنا عرضنا } الآية ، وهذا كما تقول عرضت الحمل على البعير فأباه وأنت تريد بذلك قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه .


[9589]:من الآية(11) من سورة (فصلت).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

استئناف ابتدائي أفاد الإنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإِنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملاتهم بعضهم

مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقها فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعراً لهم بمصيرهم ومبيناً سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض .

وموقع هذه الآية عقب ما قبلها ، وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطاً بمضمون ما قبلها ، ويصلح عوناً لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها ، ولو بتقليل الاحتمال ، والمصير إلى المآل .

والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع .

وافتتاح الآية بمادة العَرض ، وصَوغها في صيغة الماضي ، وجعل متعلقها السماوات والأرض والجبال والإنسان يُومِئ إلى أن متعلق هذا العَرض كان في صعيد واحد فيقتضي أنه عرْض أَزَلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية وإيداعها فُصُولها المقوّمة لمواهيها وخصائصها ومميزاتها الملائكة لوفائها بما خلقت لأجله كما حمل قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية .

واختتام الآية بالعلّة من قوله : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات } [ الأحزاب : 73 ] إلى نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال المنافقين والمشركين من بين نوع الإِنسان في رعي الأمانة وإضاعتها .

فحقيق بنا أن نقول : إن هذا العَرض كان في مبدإ تكوين العالم ونوعِ الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإِنسان علم أن المراد بالإِنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لمَا كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباطٌ بتعذيب المنافقين والمشركين ، ولَمَا كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانةَ حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى .

فتعريف { الإنسان } تعريف الجنس ، أي نوع الإِنسان .

والعرض : حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أوة يقبله ومنه عَرْضُ الحوض على الناقة ، أي عرضه عليها أن تشرب منه ، وعرضُ المجنَّدين على الأمير لقبول من تأهل منهم . وفي حديث ابن عمر : « عُرِضَتُ على رسول الله وأنا ابن أربع فردني وعُرِضتُ عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني » . وتقدم عند قوله تعالى : { أولئك يعرضون على ربهم } في سورة هود [ 18 ] ، وقوله : { وعرضوا على ربك صفاً } في سورة الكهف [ 48 ] .

فقوله : { عرضنا } هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الأشياء ، وعدم وضعه في بقية الشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء ، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال ووضعها في الإِنسان بحالة من يعرض شيئاً على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية ، أو تمثيل لتعلق علم الله على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية ، أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال الإِناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحيةِ الإِنسان لذلك ، فشبهت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال بحمل الأمانة لقابلية الإِنسان ذلك بعرض شيء على اشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها .

وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات . فتخصيص { السماوات والأرض } بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات ، وعطف الجبالر على { الأرض } وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } [ الحشر : 21 ] .

وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإِباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنّى لها أن نختار وترفض ، وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد منه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال : الطبيعة عمياء ، أي لا اختيار لها ، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسراً .

ولذلك فأفعال { عَرضنا ، أبَيْن ، يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها } أجزاء للمركب التمثيلي . وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إبداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض ، ويشبه عدم مُصَحح مَواهي السماوات والأرض والجبال لإِيداع الأمانة فيها بالإِباء ، ويشبه الإِيداع بالتحميل والحمل ، ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإِشفاق ، ويشبه التلاؤم ومُصحِّح القبول لإِيداع وصف الأمانة في الإِنسان بالحمل للثقْل .

ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ . وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل .

وقد عُدّت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها تردداً دلّ على الحيرة في تقويم معناها . ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العَرض على السماوات والأرض والجبال ، وإلى معرفة معنى الأمانة ، ومعرفة معنى الإِباء والإِشفاق .

فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل . وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف ، وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولاً وبعضها متداخل في بعض ، ولنبتدئ بالإٍِلمام بها ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها .

فقيل : الأمانة الطاعة ، وقيل : الصلاة ، وقيل : مجموع الصلاة والصوم والاغتسال ، وقيل : جميع الفرائض ، وقيل : الانقياد إلى الدين ، وقيل : حفظ الفرج ، وقيل : الأمانة التوحيد ، أو دلائل الوحداينة ، أو تجليات الله بأسمائه ، وقيل : ما يؤتمن عليه ، ومنه الوفاء بالعهد ، ومنه انتفاء الغش في العمل ، وقيل : الأمانة العقل ، وقيل : الخلافة ، أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإِنسان كما قال تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] الاية .

وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف : صنف الطاعات والشرائع ، وصنف العقائد ، وصنف ضد الخيانة ، وصنف العقل ، وصنف خلافة الأرض .

ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإِنسان فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفِتَر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول .

ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإِنسان وفطرته .

فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإِيمان ، اي توحيد الله ، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } وتقدم في سورة الأعراف [ 172 ] . فالمعنى : أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة مُلازِمة لها ، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإِدراك لمن قامت به ، ويناسب هذا المحمل قولُه : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } [ الأحزاب : 73 ] ، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمان بوحدانية الله .

ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة تودع عند من يحتفظ بها .

والمعنى : أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره ، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها . وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به . فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً ، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره . وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان .

ومناسبة قوله : { ليعذب الله المنافقين } [ الأحزاب : 73 ] الاية لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول .

ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه ، وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث : « إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة » أي إذا انقرضت الأمانة كان انقرائها علامة على اختلال الفطرة ، فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال .

والذي بَيَّن هذا المعنى قولُ حذيفة : « حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرجال ثم عَلِموا من القرآن ثم علموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومةَ فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت{[331]} ، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل{[332]} كجمر دَحرَجْتَه على رِجْلك فنفط فتراه منتبرً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً ، ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وما أجلده ، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من غيمان » أي من أمانة لأن الإِيمان من الأمانة لأنه عهد الله .

ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل ، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها ، وحينئذٍ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل .

والقول في حَمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] ثم قوله : { وعلم آدم السماء كلها } [ البقرة : 31 ] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها ، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها .

وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرين الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية .

والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ على ما عُهد به ورعْيهُ والحذارُ من الإِخلال به سهواً أو تقصيراً فيسمى تفريطاً وإضاعة ، أو عمداص فيسمى خيانة وخيساً لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبيء صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار } [ الأحزاب : 15 ] وقال : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] . وهذا المحمل يتضمن أيضاً أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هو العقل لأن قبول الأخلاق فرع عنه .

وجملة { إنه كان ظلوماً جهولاً } محلها اعتراض بين جملة { وحملها الإنسان } والمتعلق بفعلها وهو { ليعذب الله المنافقين } [ الأحزاب : 73 ] الخ . ومعناها استئناف بياني لأن السامع خبرَ أن الإِنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإِنسان بما حُمِّله وتحمّله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإِنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله .

فمعنى { كان ظلوماً جهولاً } أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً : بعضُه عن عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم ، وبعضه عن تفريط في الأخذ باسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولاً ، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل .

والظلم : الاعتداء على حق الغير واريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة ، وهو حق الوفاء بالأمانة .

والجهل : انتفاء العلم بما يتعين علمه ، والمراد به هنا انتفاء علم الإِنسان بمواقع الصواب فيما تحمل به ، فقوله : { إنه كان ظلوماً جهولاً } مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه إذ التقدير : وحملها الإِنسان فلم يف بها إنه كان ظلوماً جهولاً ، فكأنه قيل : فكان ظلوماً جهولاً ، أي ظلوماً ، اي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه اجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيّاً كان ، وجهولاً في عدم تقديره قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعية بها ، ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإِنسان لم يحمل الأمانة باختياره بل فُطَر على تحملها .

ويجوز أن يراد { ظلوماً جهولاً } في فطرته ، اي في طبع الظلم ، والجهل فهو معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين ، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس الأمانة التي حملها .

ولك أن تجعل ضمير { إنه } عائداً على الإِنسان وتجعل عمومه مخصوصاً بالإِنسان الكافر تخصيصاً بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر .

أو تجعل في ضمير { إنه } استخداماً بأن يعود إلى الإنسان مراداً به الكافر وقد أطلق لفظ الإِنسان في مواضع كثيرة من القرآن مراداً به الكافرُ كما في قوله تعالى : { ويقول الإِنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً } [ مريم : 66 ] الآية قوله : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } [ الانفطار : 6 ] الآيات .

وفي ذكر فعل { كان } إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهما الغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة .

فصيغتا المبلاغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإِنسان والحكم الذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذير والترهيب . وهذا الإِجمال يبينه قوله عقبه : { ليعذب الله المنافقين } إلى قوله { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } [ الأحزاب : 73 ] فقد جاء تفصيله بذكر فريقين : أحدهما : مضيع للأمانة والآخر مراعٍ لها .

ولذلك أثنى الله على الذين وَفّوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة { وكان عهد الله مسئولاً } [ الأحزاب : 15 ] وقال فيها : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] وقال : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صاق الوعد } [ مريم : 54 ]

وقال في ضد ذلك : { وما يضل به إلا الفاسقين ، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } إلى قوله : { أولئك هم الخاسرون } [ البقرة : 26 ، 27 ] .


[331]: الوكت: الشية في الشيء من غير لونه.
[332]: المجل: نفاخة في الجلد مرتفعة يكون ما تحتها فارغا مثل ما يع في أكف العملة بالفؤوس من ارتفاعات في الجلد.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: إن الله عرض طاعته وفرائضه على السموات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت، وإن ضيعت عوقبت، فأبت حملها شفقا منها أن لا تقوم بالواجب عليها، وحملها آدم "إنّهُ كانَ ظَلُوما "لنفسه "جَهُولاً" بالذي فيه الحظّ له...

وقال آخرون: بل عنى بالأمانة في هذا الموضع: أمانات الناس...

وقال آخرون: بل ذلك إنما عنى به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وخيانة قابيل أباه في قتله أخاه...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع: جميع معاني الأمانات في الدين، وأمانات الناس، وذلك أن الله لم يخصّ بقوله: "عَرَضنا الأمانَةَ" بعضَ معاني الأمانات لما وصفنا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

التكلف والاشتغال في ماهية هذه الأمانة المذكورة المعروضة على من ذكر فضل، لا يجب أن يتكلف تفسيرها أنها كذا، لأنها مبهمة، لا تعلم إلا بالخبر الوارد عن الله تعالى أنها كذا، وأن يجعل ذلك من المكتوم، لا يشتغل بتفسيره، والله أعلم بذلك.

قال أبو معاذ: الإباء في كلام العرب على وجهين: أحدهما: هذا، وهو العجز، والآخر ما قال فيه، وهو قوله: {إلا إبليس أبى} [البقرة: 34] وعصى وترك الأمر.

{كان ظلوما} لنفسه في ركوبه المعصية.

{جهولا} بعاقبة ما تحمل، والوجه فيه ما ذكرنا بدءا أنه لا تفسر الأمانة أنها ما هي؟ وكيف كان ذلك العرض على ما ذكر من السماوات والأرض والجبال وإبائهن وإشفاقهن.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ}: أي خان فيها، وهم مراتب: فالكفار خانوا في الأصل الأمانة -وهي المعرفة – فكفروا، ومَنْ دُونَهم خانوا بالمعاصي، وبعضهم أَشَدُّ وبعضهم أهون، وكلُّ احتقب من الوِزْرِ مقدارَه.

{وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ}: قَبِلَها ثم ما رعوها حقَّ رعايتها.

{إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} بصعوبة حَمْلِ الأمانة في الحال، والعقوبة التي عليها في المآل.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... وذهبت فرقة، هي الجمهور، إلى أنه كل شيء يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، فالشرع كله أمانة.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ: وَفِيهَا اخْتِلَاطُ كَثِيرٍ من الْقَوْلِ...

تَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ؛ فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَخَفِيَ فِي الْقَلْبِ، لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عن قُلُوبِ النَّاسِ).

ثَانِيهِمَا: قِسْمُ الْعَمَلِ: وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا أَمَانَةٌ تَخْتَصُّ بِتَأْكِيدِ الِاسْمِ فِيهَا، وَالْمَعْنَى مَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَخْفَاهُ أَحَقُّهُ بِالْحِفْظِ، وَأَخْفَاهُ أَلْزَمُهُ بِالرِّعَايَةِ وَأَوْلَاهُ.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول، ورتب على الطاعة ما رتب، بيّن أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم، فقال: {إنّا عرضنا الأمانة}، تعظيماً الأمر التكليف.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

... {إنه} على ضعف قوته وقلة حيلته {كان} أي في جبلته إلا من عصم الله {ظلوماً} يضع الشيء في غير محله كالذي في الظلام {جهولاً} أي فجهله يغلب على حلمه فيوقعه في الظلم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

والمَعنى أنَّ تلك الأمانةَ في عظمِ الشَّأنِ بحيثُ لو كُلِّفت هاتيكَ الأجرامُ العظامُ التي هي مَثَلٌ في القُوَّةِ والشِّدَّةِ مراعاتَها وكانتْ ذاتَ شُعورٍ وإدراكٍ لأَبيْن قبولَها وأشفقنَ منها،ولكنْ صرفُ الكلامِ عن سَنَنِه بتصويرِ المفروضِ بصورةِ المحققِ رَوْماً لزيادةِ تحقيقِ المعنى المقصودِ بالتَّمثيلِ وتوضيحِه.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان، تنبيهاً على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها، وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد، وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه. وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال. والتي أخذها على عاتقه، وتعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد:

(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؛ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)..

إن السماوات والأرض والجبال -التي اختارها القرآن ليحدث عنها- هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.

هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا..

وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها. وفق سنة الله بلا إرادة منها.

وهذا القمر. وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب. وهذا الهواء وهذا الماء.. وهذه الجبال. وهذه الوهاد.. كلها.. كلها.. تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة.. لقد أشفقت من أمانة التبعة. أمانة الإرادة. أمانة المعرفة الذاتية. أمانة المحاولة الخاصة.

(وحملها الإنسان)..

الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره. ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره. ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده. ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته.. وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد. مدرك. يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق!

إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع..

وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة. ومن ثم (كان ظلوما) لنفسه (جهولا) لطاقته. هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله. فأما حين ينهض بالتبعة. حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه. المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال.. الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل. ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.. حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك مريد. فإنه يصل حقا إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد.

إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة.. هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله. وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهو يسجد الملائكة لآدم. وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: (ولقد كرمنا بني آدم).. فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله. ولينهض بالأمانة التي اختارها؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها...!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف ابتدائي أفاد الإنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإِنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملاتهم بعضهم مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقها فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعراً لهم بمصيرهم ومبيناً سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض.

وموقع هذه الآية عقب ما قبلها، وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطاً بمضمون ما قبلها، ويصلح عوناً لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها، ولو بتقليل الاحتمال، والمصير إلى المآل.

والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع.

وافتتاح الآية بمادة العَرض، وصَوغها في صيغة الماضي، وجعل متعلقها السماوات والأرض والجبال والإنسان يُومِئ إلى أن متعلق هذا العَرض كان في صعيد واحد فيقتضي أنه عرْض أَزَلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية وإيداعها فُصُولها المقوّمة لمواهيها وخصائصها ومميزاتها الملائكة لوفائها بما خلقت لأجله كما حمل قوله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم} [الأعراف: 172] الآية.

واختتام الآية بالعلّة من قوله: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات} [الأحزاب: 73] إلى نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال المنافقين والمشركين من بين نوع الإِنسان في رعي الأمانة وإضاعتها.

فحقيق بنا أن نقول: إن هذا العَرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوعِ الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإِنسان علم أن المراد بالإِنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لمَا كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباطٌ بتعذيب المنافقين والمشركين، ولَمَا كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانةَ حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى.

فتعريف {الإنسان} تعريف الجنس، أي نوع الإِنسان.

والعرض: حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أو يقبله ومنه عَرْضُ الحوض على الناقة، أي عرضه عليها أن تشرب منه، وعرضُ المجنَّدين على الأمير لقبول من تأهل منهم. وفي حديث ابن عمر: « عُرِضَتُ على رسول الله وأنا ابن أربع فردني وعُرِضتُ عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني». وتقدم عند قوله تعالى: {أولئك يعرضون على ربهم} في سورة هود [18]، وقوله: {وعرضوا على ربك صفاً} في سورة الكهف [48].

فقوله: {عرضنا} هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الأشياء، وعدم وضعه في بقية الأشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال ووضعها في الإِنسان بحالة من يعرض شيئاً على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال الإِناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحيةِ الإِنسان لذلك، فشبهت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال بحمل الأمانة لقابلية الإِنسان ذلك بعرض شيء على اشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها.

وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص {السماوات والأرض} بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف الجبال على {الأرض} وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} [الحشر: 21].

وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإِباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنّى لها أن نختار وترفض، وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد منه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال: الطبيعة عمياء، أي لا اختيار لها، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسراً.

ولذلك فأفعال {عَرضنا، أبَيْن، يحملنها، وأشفقن منها، وحملها} أجزاء للمركب التمثيلي. وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إبداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مُصَحح مَواهي السماوات والأرض والجبال لإِيداع الأمانة فيها بالإِباء، ويشبه الإِيداع بالتحميل والحمل، ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإِشفاق، ويشبه التلاؤم ومُصحِّح القبول لإِيداع وصف الأمانة في الإِنسان بالحمل للثقْل.

ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ. وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل.

وقد عُدّت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها تردداً دلّ على الحيرة في تقويم معناها. ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العَرض على السماوات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإِباء والإِشفاق.

فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل. وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف، وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولاً وبعضها متداخل في بعض، ولنبتدئ بالإٍِلمام بها ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها.

فقيل: الأمانة الطاعة، وقيل: الصلاة، وقيل: مجموع الصلاة والصوم والاغتسال، وقيل: جميع الفرائض، وقيل: الانقياد إلى الدين، وقيل: حفظ الفرج، وقيل: الأمانة التوحيد، أو دلائل الوحدانية، أو تجليات الله بأسمائه، وقيل: ما يؤتمن عليه، ومنه الوفاء بالعهد، ومنه انتفاء الغش في العمل، وقيل: الأمانة العقل، وقيل: الخلافة، أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإِنسان كما قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] الآية.

وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف: صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد، وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض.

ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإِنسان فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفِتَر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول.

ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإِنسان وفطرته.

فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإِيمان، اي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} وتقدم في سورة الأعراف [172]. فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة مُلازِمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإِدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قولُه: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} [الأحزاب: 73]، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمان بوحدانية الله.

ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة تودع عند من يحتفظ بها.

والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها. وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به. فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره. وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان.

ومناسبة قوله: {ليعذب الله المنافقين} [الأحزاب: 73] الآية لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول.

ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه، وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث: « إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة» أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال.

والذي بَيَّن هذا المعنى قولُ حذيفة: « حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرجال ثم عَلِموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومةَ فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجمر دَحرَجْتَه على رِجْلك فنفط فتراه منتبرً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من غيمان» أي من أمانة لأن الإِيمان من الأمانة لأنه عهد الله.

ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها، وحينئذٍ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل.

والقول في حَمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] ثم قوله: {وعلم آدم السماء كلها} [البقرة: 31] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها.

وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرين الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية.

والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ على ما عُهد به ورعْيهُ والحذارُ من الإِخلال به سهواً أو تقصيراً فيسمى تفريطاً وإضاعة، أو عمدا فيسمى خيانة وخيساً لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبيء صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار} [الأحزاب: 15] وقال: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23]. وهذا المحمل يتضمن أيضاً أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هو العقل لأن قبول الأخلاق فرع عنه.

وجملة {إنه كان ظلوماً جهولاً} محلها اعتراض بين جملة {وحملها الإنسان} والمتعلق بفعلها وهو {ليعذب الله المنافقين} [الأحزاب: 73] الخ. ومعناها استئناف بياني لأن السامع خبرَ أن الإِنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإِنسان بما حُمِّله وتحمّله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإِنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله.

فمعنى {كان ظلوماً جهولاً} أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً: بعضُه عن عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولاً، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل.

والظلم: الاعتداء على حق الغير واريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة.

والجهل: انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا انتفاء علم الإِنسان بمواقع الصواب فيما تحمل به، فقوله: {إنه كان ظلوماً جهولاً} مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه إذ التقدير: وحملها الإِنسان فلم يف بها إنه كان ظلوماً جهولاً، فكأنه قيل: فكان ظلوماً جهولاً، أي ظلوماً، اي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه اجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيّاً كان، وجهولاً في عدم تقديره قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعية بها، ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإِنسان لم يحمل الأمانة باختياره بل فُطَر على تحملها.

ويجوز أن يراد {ظلوماً جهولاً} في فطرته، اي في طبع الظلم، والجهل فهو معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس الأمانة التي حملها.

ولك أن تجعل ضمير {إنه} عائداً على الإِنسان وتجعل عمومه مخصوصاً بالإِنسان الكافر تخصيصاً بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر.

أو تجعل في ضمير {إنه} استخداماً بأن يعود إلى الإنسان مراداً به الكافر وقد أطلق لفظ الإِنسان في مواضع كثيرة من القرآن مراداً به الكافرُ كما في قوله تعالى: {ويقول الإِنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66] الآية قوله: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: 6] الآيات.

وفي ذكر فعل {كان} إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهما الغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة.

فصيغتا المبالغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإِنسان والحكم الذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذير والترهيب. وهذا الإِجمال يبينه قوله عقبه: {ليعذب الله المنافقين} إلى قوله {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} [الأحزاب: 73] فقد جاء تفصيله بذكر فريقين: أحدهما: مضيع للأمانة والآخر مراعٍ لها.

ولذلك أثنى الله على الذين وَفّوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة {وكان عهد الله مسئولاً} [الأحزاب: 15] وقال فيها: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] وقال: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد} [مريم: 54]

وقال في ضد ذلك: {وما يضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} إلى قوله: {أولئك هم الخاسرون} [البقرة: 26، 27].

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكبارا منها، كما كان ذلك من الشيطان، حيث تقول الآية (24) من سورة البقرة: (أبى واستكبر)، بل إنّ إباءها كان مقترناً بالإشفاق، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع. إلاّ أنّ الإنسان، اُعجوبة عالم الخلقة، قد تقدّم (وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولا). وعلى أي حال، فيجب الاعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر، هو أعجوبة عالم الخلقة، حيث استطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته.