أما النوع الثاني من الناس وهم الأخيار الصادقون فقد عبر عنهم القرآن بقوله- تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد }
{ مَن يَشْرِي } أي : يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته ، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله - تعالى - وحافظ على فرائضه ، وجاهد في سبيله ، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته ، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة ، وكان هو بمنزلة البائع ، وكان قبول الله - تعالى - منه ذلك وإثابتهخ عليه في معنى الشراء .
وقوله : { ابتغآء مَرْضَاتِ الله } الابتغاء الطلب الشديد للشيء ، والرغبة القوية في الحصول عليه ، وهو في الآية مفعول لأجله .
أي : ومن الناس نوع آخر قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله طلباً لرضوانه ، وأملا في مثوبته وغفرانه .
فهذالنوع التقي المخلص من الناس ، يقابل النوع المنافق المفسد الذي سبق الحديث عنه .
قال بعضهم : وكان مقتضى هذه المقابلة أن يوصف هذا الفريق الثاني بالعمل الصالح مع عدم التعويض والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله وموافقة لسانه لما في قلبه . والآية قد تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به ، فإن من يبيع نفسه لله لا يبغى ثمناً لها سوى مرضاته لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق مع الإِخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين ولا يقابل الناس بوجهين . ويكون هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه " .
وقال أحد العلماء : ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا . ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين المصدر الميمي وغيره والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما ، أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعاً قائماً متحققاً في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجرداً فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجرداً من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا . أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الموجود المتحقق ، وعلى ذلك { ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله } أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلباً موثقاً رضا الله - سبحانه - حقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه - سبحانه - حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله - : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } أي ، رفيق رحيم بهم ، ومن مظاهر ذلك أنه لم يبكلفهم بما هو فوق طاقتهم ، وإنما كلفهم بما تطيقه نفوسهم ، وأنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه ، وأنه كافأهم بالنعيم المقيم على العمل القليل ، وأنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين ، إلى غير ذلك من مظاهر رأفته التي لا تحصى .
هذا ، وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية منها أنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وذلك لأنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر أذنوا له ، فنخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية . فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له : ربح البيع يا صهيب ، فقال لهم وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما رآه : " ربح البيع ، ربح البيع " مرتين .
وهناك روايات أنها نزلت في وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين .
والذي نراه - كما سبق أن بينا - أن الآية الكريمة تتناول كل من أطاع الله - تعالى - وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمته ، ويدخل في ذلك دخولا أولياً من نزلت فيهم الآية ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء .
وبذلك نرى أن الآيات قد بينت لنا نوعين من الناس : أحدهما خاسر ، والآخر رابح ، لكي نتبع طريق الرابحين ، ونهجر طريق الخاسرين ( وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير ) .
. . . ذلك نموذج من الناس . يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس :
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . والله رؤوف بالعباد ) . .
ويشري هنا معناها يبيع . فهو يبيع نفسه كلها لله ؛ ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية ، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله . ليس له فيها شيء ، وليس له من ورائها شيء . بيعة كاملة لا تردد فها ولا تلفت ولا تحصيل ثمن ، ولا استبقاء بقية لغير الله . . والتعبير يحتمل معنى آخر يؤدي إلى نفس الغاية . .
يحتمل أن يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا ، ليعتقها ويقدمها خالصة لله ، لا يتعلق بها حق آخر إلا حق مولاه . فهو يضحي كل أعراض الحياة الدنيا ويخلص بنفسه مجردة لله . وقد ذكرت الروايات سببا لنزول هذه الآية يتفق مع هذا التأويل الأخير :
قال ابن كثير في التفسير : قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة : نزلت في صهيب بن سنان الرومي . وذلك أنه لما أسلم بمكة ، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر لماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ؛ فتخلص منهم ، وأعطاهم ماله ؛ فأنزل الله فيه هذه الآية ؛ فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة ، فقالوا له : ربح البيع . فقال : وأنتم . فلا أخسر الله تجارتكم . وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . . ويروى أن رسول الله [ ص ] قال له : " ربح البيع صهيب " . . قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن مردويه ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، عن صهيب ، قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي [ ص ] قالت لي قريش : يا صهيب . قدمت إلينا ولا مال لك ؛ وتخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك أبدا . فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني ؟ قالوا : نعم ! فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي [ ص ] فقال " : ربح صهيب . . ربح صهيب " . . مرتين . .
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث ، أو أنها كانت تنطبق عليه ، فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد . وهي ترسم صورة نفس ، وتحدد ملامح نموذج من الناس ؛ ترى نظائره في البشرية هنا وهناك
والصورة الأولى تنطبق على كل منافق مراء ذلق اللسان ؛ فظ القلب ، شرير الطبع ، شديد الخصومة ، مفسود الفطرة . . والصورة الثانية تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان ، متجرد لله ، مرخص لأعراض الحياة . . وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس ؛ ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز ؛ وتقيمهما أمام الأنظار يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان . ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول ، وطلاوة الدهان ؛ وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة ، والنبرة المتصنعة ، والنفاق والرياء والزواق ! كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان .
وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ، ذَكَر صفات المؤمنين الحميدة ، فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
قال ابن عباس ، وأنس ، وسعيد بن المسيب ، وأبو عثمان النّهدي ، وعكرمة ، وجماعة : نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي ، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ، منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر ، فَعَل . فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة . فقالوا{[3715]} : رَبح البيع . فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم ، وما ذاك ؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ربِح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب " .
قال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن رُسْتَة ، حدثنا سليمان ابن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضَبَعي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، عن صهيب قال : لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش : يا صهيبُ ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك ، وتخرج أنت ومالك ! والله لا يكون ذلك أبدًا . فقلت لهم : أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي تُخَلُّون عني ؟ قالوا : نعم . فدفعتُ إليهم مالي ، فخلَّوا عني ، فخرجت حتى قدمتُ المدينة . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " رَبح صهيبُ ، ربح صهيب " مرتين{[3716]} .
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نَفَر من قريش ، فنزل عَنْ راحلته ، وانتثل ما في كنانته . ثم قال{[3717]} يا معشر قريش ، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي كُلّ سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شَيْء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلَّيتم سبيلي ؟ قالوا : نعم . فلما قَدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ربح البيع ، ربح البيع " . قال : ونزلت : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 111 ] . ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين ، أنكر عليه بعضُ الناس ، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ، وتلوا هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ }
يعني جل ثناؤه : ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله : إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنّ لَهُمُ الجَنّةَ وقد دللنا على أن معنى شرى باع في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فإنه يعني أن هذا الشاري يشري إذا اشترى طلب مرضاة الله . ونصب «ابتغاء » بقوله «يشري » ، فكأنه قال : ومن الناس من يشري من أجل ابتغاء مرضاة الله ، ثم ترك «من أجل » وعمل فيه الفعل . وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل على يشري كأنه قال : لابتغاء مرضاة الله ، فلما نزع اللام عمل الفعل . قال : ومثله : حَذَر المَوتِ وقال الشاعر وهو حاتم :
وأغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَريم ادّخارَهُ *** وأُعْرضُ عَنْ قَوْل اللّئِيم تَكَرّما
وقال : لما أذهب اللام أعمل فيه الفعل .
وقال بعضهم : أيما مصدر وضع موضع الشرط وموضع «أن » فتحسن فيها الباء واللام ، فتقول : أتيتك من خوف الشرّ ، ولخوف الشرّ ، وبأن خفت الشرّ فالصفة غير معلومة ، فحذفت وأقيم المصدر مُقامها . قال : ولو كانت الصفة حرفا واحدا بعينه لم يجز حذفها كما غير جائز لمن قال : فعلت هذا لك ولفلان ، أن يسقط اللام .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها ، فقال بعضهم : نزلت في المهاجرين والأنصار ، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ قال : المهاجرون والأنصار .
وقال بعضهم : نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ قال : نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذرّ الغفاريّ جندب بن السكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ ، فانفلت منهم ، فقدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع مهاجرا عرضوا له ، وكانوا بمر الظهران ، فانفلت أيضا حتى قدم على النبيّ عليه الصلاة والسلام . وأما صهيب فأخذه أهله ، فافتدى منهم بماله ، ثم خرج مهاجرا فأدركه منقذ بن عمير بن جدعان ، فخرج له مما بقي من ماله ، وخلى سبيله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ الآية ، قال : كان رجل من أهل مكة أسلم ، فأراد أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة ، فمنعوه وحبسوه ، فقال لهم : أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء فخلوا عنى فألحق بهذا الرجل فأبوا . ثم إن بعضهم قال لهم : خذوا منه ما كان له من شيء وخلوا عنه ففعلوا ، فأعطاهم داره وماله ، ثم خرج فأنزل الله عز وجل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ الآية فلما دنا من المدينة تلقاه عمر في رجال ، فقال له عمر : ربح البيع ، قال : وبيعك فلا يخسر ، قال : وما ذاك ؟ قال : أنزل فيك كذا وكذا .
وقال آخرون : بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيله أو أمر بمعروف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله ، قال : حدثنا أبو عون ، عن محمد ، قال : حمل هشام بن عامر على الصفّ حتى خرقه ، فقالوا : ألقى بيده ، فقال أبو هريرة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة ، قال : بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن ، وتقدم رجل من بجيلة ، فقاتل ، فقتل ، فأكثر الناس فيه يقولون : ألقى بيده إلى التهلكة . قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : كذبوا ، أليس الله عز وجل يقول : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ واللّه رَءُوفٌ بالعِبادِ ؟ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، قال : حمل هشام بن عامر على الصفّ حتى شقه ، فقال أبو هريرة : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حزام بن أبي حزم ، قال : سمعت الحسن قرأ : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ أتدرون فيم أنزلت ؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافر فقال له : قل لا إله إلا الله ، فإذا قلتها عصمت دمك ومالك إلا بحقهما . فأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرينّ نفسي لله . فتقدّم فقاتل حتى قتل .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زياد بن أبي مسلم ، عن أبي الخليل ، قال : سمع عمر إنسانا قرأ هذه الآية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ الله قال : استرجع عمر فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل .
والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل ، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ، من أن يكون عنى بها الاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر . وذلك أن الله جل ثناؤه وصف صفة فريقين : أحدهما منافق يقول بلسانه خلاف ما في نفسه وإذا اقتدر على معصية الله ركبها وإذا لم يقتدر رامها وإذا نهي أخذته العزّة بالإثم بما هو به آثم ، والاَخر منهما بائع نفسه طالب من الله رضا الله . فكان الظاهر من التأويل أن الفريق الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه ، إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر طلب رضا الله . فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية .
وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صهيب ، فإن ذلك غير مستنكر ، إذ كان غير مدفوع جواز نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب ، والمعنّي بها كل من شمله ظاهرها .
فالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز ذكره وصف شاريا نفسه ابتغاء مرضاته ، فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها أو استقتل وإن لم يقتل ، فمعنيّ بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ، في جهاد عدوّ المسلمين كان ذلك منه أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِباد .
قد دللنا فيما مضى على معنى الرأفة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وأنها رقة الرحمة فمعنى ذلك : والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادّه في أمره من أهل الشرك والفسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم ، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا ، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 207 )
وقوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه } الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر ، والظاهر من هذا التقسيم( {[1937]} ) أن تكون الآيات قبل هذه على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية ، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع( {[1938]} ) قال : هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع ، ومن قال تلك في الأخنس قال : هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان .
وقال عكرمة وغيره : هذه في طائفة من المهاجرين ، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعته قريش لترده ، فنثر كنانته ، وقال لهم : تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلاً ، والله لأرمينَّكم ما بقي لي سهم ، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، فقالوا له : لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك ونتركك ، فدلهم على ماله وتركوه ، فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال له : «ربح البيع أبا يحيى » ، فنزلت فيه هذه الآية( {[1939]} ) ، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم ، و { يشري } معناه يبيع ، ومنه { وشروه بثمن بخس }( {[1940]} ) [ يوسف : 20 ] ، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري : [ مجزوء الكامل ]
وَشَريْتُ برداً لَيْتَنِي . . . مِنْ بَعْدِ برْدٍ كُنْتَ هَامَه( {[1941]} )
يعطى بها ثمناً فَيَمْنَعُها . . . وَيَقُولُ صَاحِبُهُ أَلاَ تَشْرِي( {[1942]} )
ومن هذا تسمى الشراة( {[1943]} ) كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى ، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى ، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب ، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها ، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع .
وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري المنكر ، ولذلك قال علي وابن عباس : اقتتل الرجلان ، أي قال المغير للمفسد : اتق الله ، فأبى المفسد وأخذته العزة ، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا .
وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شباباً من القرأة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغيرهما فيقرؤون بين يديه ومعه ، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول : اقتتل الرجلان ، حين قرأ هذه الآية ، فسأله عما قال ، ففسر له هذا التفسير ، فقال له عمر : «لله تلادك( {[1944]} ) يا ابن عباس » .
وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، ليس كما قالوا ، بل هذا قول الله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه } الآية( {[1945]} ) .
و { ابتغاء } مفعول من أجله ، ووقف حمزة على { مرضاة } بالتاء والباقون بالهاء . قال أبو علي : «وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
بل جوز تيهاء كظهر الحجفت( {[1946]} ) . . . وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد .
وقوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى : { فحسبه جهنم } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية .
هذا قسيم { ومن الناس من يعجبك قوله } [ البقرة : 204 ] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس ، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به .
و ( يشري ) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] . واستعمل ( يشري ) هنا في البذل مجازاً ، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكاً في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان ، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان .
و { مرضاة الله } رضاه فهو مصدر رَضيَ على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعاً كالمَدْعاة والمَسْعاة ، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النَّمرَى بن النمر بن قاسط الملقب بالرومي ؛ لأنه كان أسَرَه الرومُ في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب فكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأولين فلما هاجر النبي خرج صهيب مهاجراً فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانته وكان رامياً وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأَيْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيءٌ فقالوا : لا نتركك تخرج من عندنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك وتخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله ، فلما قدم على النبي قال له حين رآه رَبِحَ البيعُ أيا يحْيى وتلا عليه هذه الآية ، وقيل إن كفار مكة عذَّبوا صهيباً لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجراً ، وقيل : غير ذلك ، والأظهر أنها عامة ، وأن صهيباً أو غيره ملاحظ في أول من تشمله .
وقوله { والله رؤوف بالعباد } تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة .
والظاهر أن التعريف في قوله ( العباد ) تعريف استغراق ، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته ، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون ؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق ، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله .
ويجوز أن يكون ( أَلْ ) عوضاً عن المضاف إليه كقوله { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] ، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } في [ سورة الحجر : 42 ] .
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق ( مَنْ ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله ، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل ، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له ، وإن كان ما صْدَق ( مَنْ ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم ، والجملة تذييل على كل حال ، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به ، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به .
وفي هذه الآية وهي قوله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } [ البقرة : 204 ] إلى قوله { رؤوف بالعباد } معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان ، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري :
وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ *** وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء
وقد شمل هذا الحالَ قول النبي صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحرا » بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية .
وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب ، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة ، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبىء خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به .