37- يا ربنا إني أسكنت بعض ذريتي في وادي مكة الذي لا ينبت زرعاً ، عند بيتك الذي حرَّمت التعرض له والتعاون بشأنه ، وجعلت ما حوله آمناً . ربنا فأكرمهم ليقيموا الصلاة بجوار هذا البيت ، فاجعل قلوباً خيرة من الناس تميل إليهم لزيارة بيتك ، وارزقهم من الثمرات بإرسالها إليهم مع الوافدين ، ليشكروا نعمتك بالصلاة والدعاء .
ثم حكى - سبحانه - دعاء آخر من تلك الأدعية التى تضرع بها إبراهيم إليه - تعالى - فقال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة . . }
و " من " فى قوله { مِنْ ذُرِّيَّتِي } للتبعيض .
والوادى : هو المكان المنخفض بين مرتفعات ، والمقصود به وادى مكة المكرمة .
والمعنى : يا ربنا إنى أسكنت بعض ذريتى وهو ابنى إسماعيل ومن سيولد له ، بواد غير ذى زرع قريبا من بيتك المحرم ، أى : الذى حرمت التعرض له بسوء توقيرا وتعظيما ، والذى جعلته مثابة للناس وأمنا ، وفضلته على غيره من الأماكن .
وقوله { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة } بيان للباعث الذى دفعه لإِسكان بعض ذريته فى هذا المكان الطيب .
أى : يا ربنا إنى أسكنتهم ، هذا المكان ليتفرغوا لإِقامة الصلاة فى جوار بيتك ، وليعمروه بذكرك وطاعتك . رضي الله عنه فاللام فى قوله { ليقيموا } للتعليل وهى متعلقة بأسكنت .
وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات ، لمزيد فضلها ، ولكمال العناية بشأنها .
قال القرطبى : " تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها ، لأن معنى { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة } أى : أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه .
وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو فى مسجد النبى - صلى الله عليه وسلم - ؟
فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة فى المسجد الحرام أفضل من الصلاة فى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمائة صلاة ، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من صلاة فى مسجدى هذا بمائة صلاة " .
وقد روى عن ابن عمر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - حديث ابن الزبير "
وقوله { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } دعاء جامع لمطالب الدين والدنيا ، لأن الناس يذهبون إلى البيت الحرام للتقرب إلى الله - تعالى - ، وليتبادلوا المنافع عن طريق التجارة وغيرها مع السكان المجاورين لهذا البيت المعمور .
والأفئدة : جمع فؤاد ، والمراد بها القلوب والنفوس .
والمراد بالناس فى قوله { مِّنَ الناس } المؤمنون منهم ، لأنهم هم الذين يذهبون إلى البيت الحرام ، ليشهدوا منافع لهم ، وليتقربوا إليه - سبحانه - بحج بيته .
وتهوى إليهم : أى تسرع إليهم ، يقال : هوى - بفتح الواو - يهوى - بكسرها - إذا أسرع فى السير ، ومنه قولهم : هوت الناقة تهوى هويا ، إذا عدت عدوا شديدا .
والأصل فيه أن يتعدى باللام ، وعدى هنا بإلى لتضمنه معنى تميل وتسرع .
أى : يا ربنا إنى تركت بعض ذريتى فى جوار بتيك ، فأسألك يا إلهى أن تجعل نفوس الناس وقلوبهم تحن إلى هذا المكان ، وتطير فرحا إليه ، وارزق من تركتهم وديعة فى جوار بيتك من الثمرات المختلفة ما يغنيهم لعلهم بهذا العطاء الجزيل يزدادون شكرا لك ، ومسارعة فى طاعتك وعبادتك .
وقال - سبحانه - { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } ولم يقل فاجعل الناس تهوى إليهم ، للإِشارة إلى أن سعى الناس إليهم يكون عن شوق ومحبة حتى لكأن المسرع إلى هذا الجوار الطيب هو القلب والروح وليس الجسد وحده .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " وقد أجاب الله - تعالى - دعوة إبراهيم - عليه السلام - فجعل البيت الحرام حرما آمنا تجيى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنه ، ثم فضله ثم وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلادء وأكثرها ثمارا ، وفى أى بلد من الشرق والغرب ، ترى الأعجوبة التى يريكها الله بواد غير ذى زرع - وهى اجتماع البواكير والفواكه المختلفة والأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية فى يوم واحد ، وليس ذلك من آياته عجيب ، معنا الله بسكنى حرمه ، ووفقنا لشكر نعمه وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم ، وزرقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم " .
هذا ، وقد ساق الإِمام الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية قصة إسكان إبراهيم لبعض ذريته فى هذا المكان فقال ما ملخصه : " وهذا الإِسكان إنما كان بعد أن حدث ما حدث بين إبراهيم وبين زوجه سارة ، وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها - لإِبراهيم عليه السلام - فتزوجها فولدت له إسماعيل . فدبت الغيرة فى قلب سارة ولم تصبر على بقائها معها فأخرج إبراهيم - عليه السلام - هاجر وابنها إلى أرض مكة ، فوضعهما عند البيت ، عند دوحه فوق زمزم فى أعلى المسجد ، وليس يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر ، فقالت له : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى الذى ليس فيه أنيس .
قالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها ، فقال له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذا لا يضيعنا ، ثم رجعت .
وانطلق إبراهيم - عليه السلام - حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت - وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية - ثم دعا بهذه الدعوات ، ورفع يديه فقال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ . . . } الآية .
ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما فى السقاء حتى إذا نفد ما فى السقاء ، عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه بتلبط - أى يتلوى ويتمرغ - من شدة العطش ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل فى الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادى تنظر هل ترى أحدا .
فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادى ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعى الإِنسان المجهود حتى جاوزت الوادى ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، ولذلك سعى الناس بينهما سبعا .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ! تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا صوتا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هى بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتغرف منه فى سقائها وهو يفور ، فشربت وأرضعت ولدها ، وقال لها الملك : لا تخافى الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله - تعالى - يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله - تعالى - لن يضيع أهله .
ثم إنه مرت بهما رفقة من جرهم ، فرأوا طائراً عائفا - أى يتردد على الماء ولا يمضى - فقالوا : لا طير إلا على الماء ، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء ، فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده ، فقالوا : أشركينا فى مائك نشركك فى ألباننا ، ففعلت ، فلما أدرك إسماعيل - عليه السلام - زوجوه امرأة منهم " .
ويمضي إبراهيم في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم ، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها :
( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ) . .
فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك ، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان .
فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم . .
وفي التعبير رقة ورفرفة ، تصور القلوب رفافة مجنحة ، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادى الجديب . إنه تعبير ندي يندي الجدب برقة القلوب . .
عن طريق تلك القلوب التي ترف عليهم من كل فج . . لماذا ؟ أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا ؟ نعم ! ولكن لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور :
وهكذا يبرز السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام . . إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة لله . ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض . . إنه شكر الله المنعم الوهاب .
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة واضحة في موقف قريش جيرة البيت المحرم . . فلا صلاة قائمة لله ، ولا شكر بعد استجابة الدعاء ، وهوي القلوب والثمرات !
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها ، وذلك قبل بناء البيت ، وهذا كان بعد بنائه ، تأكيدًا ورغبة إلى الله ، عز وجل ؛ ولهذا قال : { عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }
وقوله : { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ } قال ابن جرير : هو متعلق بقوله : " المحرم " أي : إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده .
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : لو قال : " أفئدة الناس " لازدحم عليه فارس والروم واليهود{[15977]} والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : { مِنَ النَّاسِ } فاختص به المسلمون .
وقوله : { وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ } أي : ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك وكما أنه { وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } فاجعل لهم ثمارا يأكلونها . وقد استجاب الله ذلك ، كما قال : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } [ القصص : 57 ] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته : أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة ، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها ، استجابة لخليله إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
وقال إبراهيم خليل الرحمن هذا القول حين أسكن إسماعيل وأمه هاجَرَ فيما ذُكِر مكة . كما :
حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسن بن محمد قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، كما قال : نبئت عن سعيد بن جبير ، أنه حدث عن ابن عباس ، قال : إنّ أوّل من سَعى بين الصّفا والمروة لأمّ إسماعيل وإن أوّل ما أحدث نساء العرب جرّ الذيول لمن أمّ إسماعيل . قال : لما فرّت من سارة ، أَرْخَتْ من ذيلها لتعفي أثرها ، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت ، فوضعهما ثم رجع ، فاتبعته ، فقالت : إلى أيّ شيء تكلنا ؟ إلى طعام تكلنا ؟ إلى شراب تكلنا ؟ فجعل لا يردّ عليها شيئا ، فقالت : آلله أمرك بهدا ؟ قال نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا . قال : فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كَدَاء ، أقبل على الوادي فدعا ، فقال : رَبّ إنّي أسْكَنْتُ منْ ذُريّتِي بَوادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ رَبّنا لِيُقِيمُوا الصّلاةَ فاجْعَلْ أفْئِدَةً منَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهمْ وَارْزُقْهُمْ منَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ قال : ومع الإنسانة شَنّة فيها ماء ، فنفِد الماء فعطشت وانقطع لبنها ، فعطش الصبيّ ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض ، فصعِدَت بالصفا ، فتسمعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع ، فانحدرت ، فلما أتت على الوادي سعت وما تريد السعي ، كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض ، فصَعِدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتا ، أو ترى أنيسا فسمعت صوتا ، فقالت كالإنسان الذي يكذّب سمعه : صه حتى استيقنت ، فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني ، فقد هلكتُ وهلك من معي فجاء المَلك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم ، فضرب بقدمه ففارت عينا ، فعجلت الإنسانة فجعلت في شَنّتها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللّهُ أُمّ إسْماعيلَ لَوْلا أنّها عَجِلَتْ لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنا مَعِينا » . وقال لها الملك : لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد ، فإنما هي عين لشرب ضِيفان الله . وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء ، فيبنيان لله بيتا هذا موضعه . قال : ومرّت رفقة من جُرهم تريد الشام ، فرأوا الطير على الجبل ، فقالوا : إن هذا الطير لعائف على ماء ، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء ؟ فقالوا : لا . فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة ، فأتوها فطلبوا إليها أن ينزلوا معها ، فأذنت لهم . قال : وأتى عليها ما يأتي على هؤلاء الناس من الموت ، فماتت ، وتزوّج إسماعيل امرأة منهم ، فجاء إبراهيم فسأل عن منزل إسماعيل حتى دُلّ عليه ، فلم يجده ، ووجد امرأة له فظة غليظة ، فقال لها : إذا جاء زوجك فقولي له : جاء ههنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك : إني لا أرضى لك عتَبَة بابك فحوّلها وانطلق فلما جاء إسماعيل أخبرته ، فقال : ذاك أبي وأنت عتبة بابي ، فطلقَها وتزوّج امرأة أخرى منهم . وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى منزل إسماعيل ، فلم يجده ، ووجد امرأة له سهلة طليقة ، فقال لها : أين انطلق زوجك ؟ فقالت : انطلق إلى الصيد ، قال : فما طعامكم ؟ قالت : اللحم والماء ، قال : اللهمّ بارك لهم في لحمهم ومائهم اللهمّ بارك لهم في لحمهم ومائهم ثلاثا . وقال لها : إذا جاء زوجك فأخبريه ، قولي : جاء ههنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك : قد رضيت لك عتبة بابك ، فأثْبِتْها فلما جاء إسماعيل أخبرته . قال : ثم جاء الثالثة ، فرفعا القواعد من البيت .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثني يحيى بن عباد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء نبيّ الله إبراهيم بإسماعيل وهاجر ، فوضعهما بمكة في موضع زمزم فلما مضى نادته هاجر : يا إبراهيم إنما أسألك ثلاث مرات : من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها ضَرْع ولا زرع ولا أنيس ولا زاد ولا ماء ؟ قال : ربي أمرني ، قالت : فإنه لن يضيّعنا . قال : فلما قفا إبراهيم قال : رَبّنا إنّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ يعني من الحزن وَما يَخْفَى على اللّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السّماءِ . فلما ظمىء إسماعيل جعل يَدْحَض الأرض بعقبه ، فذهبت هاجر حتى علت الصفا ، والوادي يومئذٍ لاخ يعني عميق فصعدت الصفا ، فأشرفت لتنظر هل ترى شيئا فلم تر شيئا ، فانحدرت فبلغت الوادي ، فسعت فيه حتى خرجت منه ، فأتت المروة ، فصعدت فاستشرفت هل تر شيئا ، فلم تر شيئا . ففعلت ذلك سبع مرّات ، ثم جاءت من المروة إلى إسماعيل ، وهو يَدْحَض الأرض بقَعْبه ، وقد نبعت العين وهي زمزم . فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء ، فكلما اجتمع ماء أخذته بقدحها ، وأفرغته في سقائها . قال : فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَرْحَمُها اللّهُ لَوْ تَرَكَتْها لَكانَتْ عَيْنا سائِحَةً تَجْرِي إلى يَوْمِ القيامَةِ » . قال : وكانت جُرهُمُ يومئذٍ بواد قريب من مكة قال : ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي ، قالوا : ما لزِمته إلاّ وفيه ماء ، فجاءوا إلى هاجَر ، فقالوا : إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك ، قالت : نعم . فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل ، وماتت هاجر فتزوّج إسماعيل امرأة منهم قال : فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي ، هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل ، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ليس ههنا ذهب يتصيد ، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيتصيد ثم يرجع ، فقال إبراهيم : هل عندك ضيافة ، هل عندك طعام أو شراب ؟ قالت : ليس عندي ، وما عندي أحد . فقال إبراهيم : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه وذهب إبراهيم ، وجاء إسماعيل ، فوجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ فقالت : جاءني شيخٌ كذا وكذا ، كالمستخفة بشأنه ، قال : فما قال لكِ ؟ قالت : قال لي : أقرئي زوجك السلام وقولي له : فليغير عتبة بابه ، فطلقها وتزوّج أخرى . فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل ، فأذنت له ، وشرطت عليه أن لا ينزل ، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يصيد ، وهو يجيء الاَن إن شاء الله ، فانزل يرحمك الله قال لها : هل عندك ضيافة ؟ قالت : نعم ، قال : هل عندك خبز أو برّ أو تمر أو شعير ؟ قالت : لا . فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لهما بالبركة ، فلو جاءت يومئذٍ بخبز أو برّ أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برّا وشعيرا وتمرا ، فقالت له : انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل ، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه ، فبقي أثر قدمه عليه ، فغسلت شقّ رأسه الأيمن ، ثم حوّلت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شقه الأيسر ، فقال لها : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام ، وقولي له : قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ فقالت : نعم ، شيخ أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا ، فقال لي كذا وكذا ، وقلت له كذا وكذا ، وغسلتُ رأسه ، وهذا موضع قدمه على المقام . قال : وما قال لك ؟ قالت : قال لي : إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له : قد استقامت عتبة بابك ، قال : ذاك إبراهيم ، فلبث ما شاء الله أن يلبث ، وأمره الله ببناء البيت ، فبناه هو وإسماعيل فلما بنياه قيل : أذّن في الناس بالحجّ فجعل لا يمرّ بقوم إلاّ قال : أيها الناس إنه قد بني لكم بيت فحجوه ، فجعل لا يسمعه أحد ، صخرة ولا شجرة ولا شيء ، إلاّ قال : لبيك اللهمّ لبيك . قال : وكان بين قوله : رَبّنَا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ عِنْد بَيْتِكَ المُحَرّمِ وبين قوله : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي وَهَبَ لي على الكِبَرِ إسْماعِيلَ وإسْحاقَ كذا وكذا عاما ، لم يحفظ عطاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : رَبّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بوَادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ وإنه بيت طهّره الله من السّوء ، وجعله قبلة ، وجعله حَرَمه ، اختاره نبيّ الله إبراهيم لولده .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : غيرِ ذِي زَرْعٍ قال : مكة لم يكن بها زرع يومئذٍ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير ، قال القاسم في حديثه : قال : أخبرني عمرو بن كثير «قال أبو جعفر » : فغيرته أنا فجعلته : قال أخبرني ابن كثير ، وأسقطت عمرا ، لأني لا أعرف إنسانا يقال له عمرو بن كثير حدّث عنه ابن جريج ، وقد حدّث به معمر عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، وأخشى أن يكون حديث ابن جريج أيضا عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان في أناس مع سعيد بن جبير ليلاً ، فقال سعيد بن جبير للقوم : سلوني قبل ألاّ تسألوني فسأله القوم فأكثروا ، وكان فيما سُئل عنه أن قيل له : أحقّ ما سمعنا في المقام ؟ فقال سعيد : ماذا سمعتم ؟ قالوا : سمعنا أن إبراهيم رسول الله حين جاء من الشام ، كان حلف لامرأته أن لا ينزل مكة حتى يرجع ، فقرب له المقام ، فنزل عليه . فقال سعيد : ليس كذاك : حدثنا ابن عباس ، ولكنه حدثنا حين كان بين أمّ إسماعيل وسارة ما كان أقبل بإسماعيل ، ثم ذكر مثل حديث أيوب غير أنه زاد في حديثه ، قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : «وَلذلكَ طافَ النّاسُ بينَ الصّفا والمَرْوَةِ » . ثم حدث وقال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : «طَلَبُوا النّزُولَ مَعَها وَقَدْ أحَبّتْ أُمّ إسْماعيلَ الأنْسَ ، فنَزَلُوا وَبَعَثُوا إلى أهْلِهمْ فَقَدِمُوا ، وَطَعامُهُمُ الصّيْدُ ، يَخْرُجُونَ منَ الحَرَمِ ويَخْرُجُ إِسْماعيلُ مَعَهُمْ يَتَصَيّدُ فَلَمّا بَلَغَ أنْكَحُوهُ ، وَقَدْ تُوُفّيَتْ أُمّهُ قَبْلَ ذلكَ » . قالَ : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمّا دَعا لَهُما أنْ يُبارِكَ لَهُمْ فِي اللّحْمِ والماءِ ، قال لَهَا : هَلْ منْ حَبّ أوْ غيرِهِ منَ الطّعامِ ؟ قالَتْ : لا ، وَلَوْ وَجَدَ يَوْمَئذٍ لَهَا حَبّا لَدَعا لَهَا بالبَرَكَةِ فيهِ » . قال ابن عباس : ثم لبث ما شاء الله أن يلبث ، ثم جاء فوجد إسماعيل قاعدا تحت دَوْحة إلى ناحية البئر يبرى نبلاً له ، فسلم عليه ونزل إليه ، فقعد معه وقال : يا إسماعيل ، إن الله قد أمرني بأمر . قال إسماعيل : فأطع ربك فيما أمرك قال إبراهيم : أمرني أن أبني له بيتا . قال إسماعيل : ابنِ قال ابن عباس : فأشار له إبراهيم إلى أكمة بين يديه مرتفعة على ما حولها يأتيها السيل من نواحيها ، ولا يركبها . قال : فقاما يحفران عن القواعد يرفعانها ويقولان : رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء . وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته ، والشيخ إبراهيم يبني . فلما ارتفع البنيان وشقّ على الشيخ تناوله ، قرّب إليه إسماعيل هذا الحجَر ، فجعل يقوم عليه ويبني ، ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى . يقول ابن عباس : فذلك مقام إبراهيم وقيامه عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : رَبّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ قال : أسكن إسماعيل وأمه مكة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُريّتِي بِوَادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ قال : حين وضع إسماعيل .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذن : ربنا إني أسكنت بعض ولدي بواد غير ذي زرع . وفي قوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم يكن هنالك يومئذٍ ماء ، لأنه لو كان هنالك ماء لم يصفه بأنه غير ذي زرع عند بيتك الذي حرّمته على جميع خلقك أن يستحلوه .
وكان تحريمه إياه فيما ذُكر كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في خطبته : إن هذا البيت أوّل من وليه أناس مِن طسْم ، فعصوا ربهم واستحلوا حرمته ، واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله . ثم وليهم أناس من جُرهمَ فعصوا ربهم واستحلوا حرمته واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله . ثم وليتموه معاشر قريش ، فلا تعصوا ربه ، ولا تستحلوا حرمته ، ولا تستخفوا بحقه فوالله لصلاة فيه أحبّ إليّ من مئة صلاة بغيره ، واعلموا أن المعاصي فيه على نحو من ذلك .
وقال : إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بوَادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ ولم يأت بما وقع عليه الفعل ، وذلك أن حظّ الكلام أن يقال : إني أسكنت من ذريتي جماعة ، أو رجلاً ، أو قوما ، وذلك غير جائز مع «من » لدلالتها على المراد من الكلام ، والعرب تفعل ذلك معها كثيرا ، فتقول : قتلنا من بني فلان ، وطعمنا من الكلإ ، وشربنا من الماء ومنه قول الله تعالى : أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا منَ الماءِ أوْ مِما رَزَقَكُمُ اللّهُ .
فإن قال قائل : وكيف قال إبراهيم حين أسكن ابنه مكة إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِك المُحَرّمِ وقد رويتَ في الأخبار التي ذكرتها أن إبراهيم بنى البيت بعد ذلك بمدة ؟ قيل : قد قيل في ذلك أقوال قد ذكرتها في سورة البقرة ، منها أن معناه : عند بيتك المحرّم الذي كان قبل أن ترفعه من الأرض حين رفعته أيام الطوفان ، ومنها : عند بيتك المحرّم الذي قد مضى في سابق علمك أنه يحدث في هذا البلد . وقوله المُحَرّمِ على ما قاله قتادة معناه : المحرّم من استحلال حرمات الله فيه ، والاستخفاف بحقه . وقوله : رَبّنا لِيُقِيمُوا الصلاةَ يقول : فعلت ذلك يا ربنا كي تؤدّي فرائضك من الصلاة التي أوجبتها عليهم في بيتك المحرّم . وقوله : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ يخبر بذلك تعالى ذكره عن خليله إبراهيم أنه سأله في دعائه أن يجعل قلوب بعض خلقه تنزع إلى مساكن ذريته الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيته المحرّم . وذلك منه دعاء لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ ولو قال : «أفئدة الناس تهوي إليهم » لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال : أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ فهم المسلمون .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ قال : لو كانت «أفئدة الناس » لازدحمت عليه فارس والروم ، ولكنه «أفئدة من الناس » .
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ قال : لو قال : «أفئدة الناس تهوي إليهم » ، لازدحمت عليهم فارس والروم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ ، يعني بن الجعد ، قال : أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت عكرمة عن هذه الاَية : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ فقال : قلوبهم تهوي إلى البيت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن عكرمة وعطاء وطاوس : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا سعيد ، عن الحكم ، قال : سألت عطاء وطاوسا وعكرمة ، عن قوله : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ قالوا : الحجّ .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة وعليّ بن الجعد ، قالا : أخبرنا سعيد ، عن الحكم ، عن عطاء وطاوس وعكرمة في قوله : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ قال : هواهم إلى مكة أن يحجوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت طاوسا وعكرمة وعطاء ابن أبي رباح ، عن قوله : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ فقالوا : اجعل هواهم الحجّ .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو كان إبراهيم قال : «فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم » لحجه اليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكنه قال : أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ قال : تنزع إليهم .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : إنما دعا لهم أن يهووا السكنى بمكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ قال : إن إبراهيم خليل الرحمن سأل الله أن يجعل أناسا من الناس يهوَوْن سكنى أو سَكْن مكة .
وقوله : وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثّمَرَاتِ يقول تعالى ذكره : وارزقهم من ثمرات النبات والأشجار ما رزقت سكان الأرياف والقرى التي هي ذوات المياه والأنهار ، وإن كنت أسكنتهم واديا غير ذي زرع ولا ماء . فرزقهم جلّ ثناؤه ذلك ، كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، قال : قرأت على محمد بن مسلم الطائفي أن إبراهيم لما دعا للحرم : وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثمرات نقل الله الطائف من فَلِسطين .
وقوله : لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ يقول : ليشكروك على ما رزقتهم وتنعم به عليهم .
{ ربنا إني أسكنت من ذرّيتي } أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم . { بوادٍ غير ذي زرع } يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت . { عند بيتك المحرّم } الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، أو لم يزل معظما ممنعا يهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمي عتيقا أي أعتق منه . ولو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه . روي أن هاجر كانت لسارة رضي الله عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام ، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله عين زمزم ، ثم إن جرهم رأوا ثم طيورا فقالوا لا طير إلا على الماء ، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين فقالوا أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت . { ربنا ليقيموا الصلاة } اللام لام كي وهي متعلقة ب { أسكنت } أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم . وتكرير النداء وتوسيطه للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها . وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها . { فاجعل أفئدة من الناس } أي أفئدة من أفئدة الناس ، و{ من } للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم ولحجت اليهود والنصارى ، أو للابتداء كقولك : القلب مني سقيم أي أفئدة ناس . وقرأ هشام " أفئيدة " يخلف عنه بياء بعد الهمزة . وقرئ " آفدة " وهو يحتمل أن يكون مقلوب " أفئدة " كآدر في أدؤر وأن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم " وأفدة " بطرح الهمزة للتخفيف ، وإن كان الوجه فيه إخراجهما بين بين ويجوز أن يكون من أفد . { تهوي إليهم } تسرع إليهم شوقا ووداداً . وقرئ " تهوى " على البناء للمفعول من أهوى إليه غيره و " تهوى " من هوى يهوي إذا أحب ، وتعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع . { وارزقهم من الثمرات } مع سكناهم واديا لا نبات فيه . { لعلهم يشكرون } تلك النعمة ، فأجاب الله عز وجل دعوته فجعله حرما آمنا يجبيء إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد .
جملة { إني أسكنت من ذريتي } مستأنفة لابتداء دعاء آخر . وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع . وفي كون النداء تأكيداً لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله .
وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافاً لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه . ولعل إسماعيل عليه السلام حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } إلى قوله { واجعلنا مسلمين لك } [ سورة البقرة : 127 ] . وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا .
ومِن } في قوله : { من ذريتي } بمعنى بعض ، يعني إسماعيل عليه السلام ، وهو بعض ذريته ، فكأن هذا الدعاء صدر من إبراهيم عليه السلام بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة ، كما دل عليه قوله في دعائه هذا { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } [ سورة إبراهيم : 39 ] ، فذكر إسحاق عليه السلام .
والواد : الأرض بين الجبال ، وهو وادي مكة . و{ غير ذي زرع } صفة ، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة ، فإن كلمة { ذُو } تدلّ على صَاحببِ ما أضيفت إليه وتمكنه منه ، فإذا قيل : ذو مال ، فالمال ثابت له ، وإذا أريد ضد ذلك قيل غير ذي كذا ، كقوله تعالى : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [ سورة الزمر : 28 ] ، أي لا يعتريه شيء من العوج . ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أولا زرع به .
وعند { بيتك } صفة ثانية لوادٍ أو حال .
والمحرم : الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم ، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم . وما أصحاب الفيل منهم ببعيد .
وعلق { ليقيموا } ب { أسكنت } ، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معموراً أبداً .
وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة . وتهيّأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، لأن همة الصالحين في إقامة الدين .
والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب . والمراد به هنا النفس والعقل .
والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم . فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر { أفئدة } لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم { من الناس } ، ف { من } بيانية لا تبعيضية ، إذ لا طائل تحته . والمعنى : فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم .
وتهوي مضارع هوَى بفتح الواو : سقط . وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة ، كقول امرىء القيس :
كجلمود صخْرٍ حَطّه السيلُ من عل
والإسراع : جُعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم .
والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم .
والتنكير مطلقٌ يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين ، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف .
ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته ، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره ، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين .
ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جُعل تكملة له تعرضاً للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين . والمقصود : توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب .