وهنا نجد شعيبا - عليه السلام - ينتقل فى أسلوب مخاطبته لهم من اللين إلى الشدة ، ومن التلطف إلى الإِنكار ، دفاعا عن جلال ربه - سبحانه - فيقول لهم : { قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله . . . }
أى : ارهطى وعشيرتى الأقربون ، الذين من أجلهم لم ترجمونى ، أعز وأكرم عندكم من الله - تعالى - الذى هو خالقكم ورازقكم ومميتكم ومحييكم .
{ واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أى : وجعلتم أوامره ونواهيه التى جئتكم بها من لدنه - سبحانه - كالشئ المنبوذ المهمل الملقى من وراء الظهر بسبب كفركم وطغيانكم { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أى : إن ربى قد أحاط علمه بأقوالكم وأعمالكم السيئة ، وسجايزيكم عليها بما تستحقون من عذاب مهين .
وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلال ربه ووقاره ؛ فيتنصل من الاعتزاز برهطه وقومه ؛ ويجبههم بسوء التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود ، وبسوء الأدب مع الله المحيط بما يعملون . ويلقي كلمته الفاصلة الأخيرة . ويفاصل قومه على أساس العقيدة ، ويخلي بينهم وبين الله ، وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم ، ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون :
( قال : يا قوم : ارهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ؟ إن ربي بما تعملون محيط . ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ) . .
أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس ، وهم ضعاف ، وهم عباد من عباد الله . . أهؤلاء أعز عليكم من الله ؟ . . أهؤلاء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من الله ؟
( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) . .
وهي صورة حسية للترك والإعراض ، تزيد في شناعة فعلتهم ، وهم يتركون الله ويعرضون عنه ، وهم من خلقه ، وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه . فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر والتكذيب وسوء التقدير .
( إن ربي بما تعملون محيط ) . .
والإحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه .
إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلاله - سبحانه - ووقاره . الغضبة التي لا يقوم إلى جوارها شيء من الاعتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه . . إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه ، فلا تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه ! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه ويمنعونه من قومه - الذين افترق طريقهم عن طريقه - وهذا هو الإيمان في حقيقته . . أن المؤمن لا يعتز إلا بربه ؛ ولا يرضى أن تكون له عصبة تخشى ولا يخشى ربه ! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه ، إنما هي لربه ودينه . وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور الإسلامي والتصور الجاهلي في كل أزمانه وبيئاته !
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ } يقول : أتتركوني لأجل قومي ، ولا تتركوني إعظاما لجناب الله أن تنالوا نبيه بمساءة . وقد اتخذتم جانب الله { وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا } أي : نبذتموه خلفكم ، لا تطيعونه ولا تعظمونه ، { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ أَرَهْطِيَ أَعَزّ عَلَيْكُم مّنَ اللّهِ وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
يقول تعالى ذكره : قال شعيب لقومه : يا قوم أَعْزَزْتم قومكم ، فكانوا أعزّ عليكم من الله ، واستخففتم بربكم ، فجعلتموه خلف ظهوركم ، لا تأتمرون لأمره ولا تخافون عقابه ، ولا تعظمونه حقّ عظمته . يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل : نبذ حاجته وراء ظهره : أي تركها لا يلتفت إليها ، وإذا قضاها قيل : جعلها أمامه ونُصْب عينيه . ويقال : ظهرت بحاجتي وجعلتها ظِهرِية : أي : خلف ظهرك ، كما قال الشاعر :
*** وَجَدْنا بني البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظّهْرِ ***
بمعنى : أنهم يظهرون بحوائج الناس ، فلا يلتفتون إليها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { قالَ يا قَوْمِ أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ واتخَذْتُمَوهُ وَرَاءَكُم ظهرِيّا } ، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزّ عليهم من الله ، وصَغُر شأن الله عندهم ، عزّ ربنا وجلّ ثناؤه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : قفا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قالَ يا قَوْمِ أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ واتخَذْتُمَوهُ وَرَاءَكُم ظَهْرِيّا } ، يقول : عَزّزتم قومكم ، وأظهرتم بربكم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاتّخَذْتُمُوه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : لم تراقبوه في شيء ، إنما تراقبون قومي . { وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، يقول : عَزّزتم قومكم وأظهرتم بربكم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : لم تراقبوه في شيء ، إنما تراقبون قومي ، واتخذتموه وراءكم ظِهْرِيّا لا تخافونه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّه } ، ِ قال : أعززتم قومكم واغتررتم بربكم ، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : قال سفيان : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، كما يقول الرجل للرجل : خلفت حاجتي خلف ظهرك ، فاتخذتموه وراءكم ظهريّا : استخففتم بأمره ، فإذا أراد الرجل قضاء حاجة صاحبه ، جعلها أمامه بين يديه ، ولم يستخف بها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : الظهري : الفضل ، مثل الجمال يخرج معه بإبل ظهارية فضل لا يحمل عليها شيئا إلا أن يحتاج إليها ، قال : فيقول : إنما ربكم عندكم مثل هذا إن احتجتم إليه ، وإن لم تحتاجوا إليه فليس بشيء .
وقال آخرون : معنى ذلك : واتخذتم ما جاء به شعيب وراءكم ظهريّا ، فالهاء في قوله : { واتّخَذْتُمُوهُ } ، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : تركتم ما جاء به شعيب .
قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : نبذوا أمره .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : نبذتم أمره .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : هم رهط شعيب تركهم ما جاء به وراء ظهورهم ظهريّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : وحدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، قال : استثناؤهم رهط شعيب ، وتركهم ما جاء به شعيب وراء ظهورهم ظهريّا .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك لقرب قوله : { واتّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّا } ، من قوله : { أرَهْطِي أعَزّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللّه } ، فكانت الهاء في قوله { واتّخَذْتُمُوهُ } ، بأن تكون من ذكر الله لقرب جوارها منه أشبه وأولى .
وقوله : { إنّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ، يقول : إن ربي محيط علمه بعملكم ، فلا يخفى عليه منه شيء ، وهو مجازيكم على جميعه عاجلاً وآجلاً .