وبعد أن بين - سبحانه - ما بين من التكاليف والأحكام واحلال والحرام ، وذم المقلدين لآبائهم تقليداً أعمى . وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، أمرهم فيه بأن يلزموا أنفسهم طاعة الله ، وأنهم ليس عليهم شيء من آثام غيرهم ما داموا قد نصحوهم وأرشدوهم إلى الخير فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ . . . }
قوله { عَلَيْكُمْ } اسم فعل أمر بمعنى : الزموا وقوله : { أَنْفُسَكُمْ } منصوب على الإِغراء بقوله : { عَلَيْكُمْ } - والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة أنه في موضع جر كما ان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، الزموا العمل بطاعة الله ، بأن تؤدوا ما أمركم به ، وتنتهوا عما نهاكم عنه ، وأنتم بعد ذلك " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " أي : لا يضركم ضلال من ضل وغوى ، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر . فإن أبي هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإِرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تمادية في غيه وضلاله ، فإن مصيركم ومرجعكم جميعاً إلى الله - تعالى - وحده { فَيُنَبِّئُكُمْ } يوم القيامة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من خير أو شر ، ويجازي أهل الخير بما يستحقون من ثواب ، ويجازي أهل الشر بما يستحقون من عقاب .
هذا ، وقد يقول قائل : إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس ، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما داموا قد أصلحوا أنفسهم ، لأنها تقول : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } فهل هذا الفهم مقبول ؟
والجواب على ذلك ، أن هذا الفهم ليس مقبولا ، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين ، ولإِدخال الطمأنينة ، على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم .
فكأنها تقول لهم : إنكم - أيه المؤمنون - إذا قمتم بما يجب عليكم ، لا يضركم تقصير غيركم . ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح .
أي أن الهداية التي ذكرها - سبحانه - في قولهم { إِذَا اهتديتم } لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإِسلام ، فقيل لهم { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى { لاَ يَضُرُّكُمْ } الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين . وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا ، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه .
ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمهما بعض الناس فهما غير سليم - حتى في الصدر الأول من الإِسلام .
قال القرطبي : روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبي حازم قال : خطبنا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال : أيها الناس - إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده " .
وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبه الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال : أية آية ؟ قلت : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا . سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ائتمروا كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم " .
وفي رواية قيل يا رسول الله ! " أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " " .
وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال : " كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم ؛ فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فقلت أنا : أليس الله يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن لا تعرفها . ولا تدري ما تأويلها - حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت - ثم أقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدري ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شحا مطاعاً ، وهوى متبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت " .
والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنها - كما قال الحاكم - لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى ، لأن قوله { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } معناه : الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة روله والعقليات المؤيدة بها ، ودعوة الإِخوان إلى ذلك ، بإقامة الحجج ودفع الشبه ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك .
ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه - سبحانه - قال { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } يعني عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار . وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم ، يعني أهل دينكم فقوله { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } يعني بأن يعظ بعضكم بعضاً . ويرغب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات .
فإذا انتهى من تقرير حال الذين كفروا وقولهم التفت إلى " الذين آمنوًا يقرر لهم انفصالهم وتميزهم ؛ ويبين لهم تكاليفهم وواجبهم ؛ ويحدد لهم موقفهم ممن سواهم ؛ ويكلهم إلى حساب الله وجزائه لا إلى أي مغنم في هذه الأرض أو مأرب .
( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعا ، فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم . ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة . ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )
أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم ، متضامنون متكافلون فيما بينكم . فعليكم أنفسكم . . عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها ؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها ؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم . فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم ؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض ، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم .
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادى ء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة ، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى .
إن الأمة المسلمة هي حزب الله . ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان . ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن ، لأنه لا اشتراك في عقيدة ؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة ؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء .
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها ؛ وأن تتناصح وتتواصى ، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها . . ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى .
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى . والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها . فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة ، وأن تحاول هدايتهم ، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم ؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم . .
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت ، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا ، ثم في الأرض جميعا . وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته ؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته . وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت ، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه . . والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا ؛ وعلى البشرية كلها أخيرا .
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما - وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض - إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان - وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته ، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم .
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر - رضي الله عنه - قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر ، ولا يغيرونه ، يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه " .
وهكذا صحح الخليفة الأول - رضوان الله عليه - ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة . ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح ، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق . فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه ، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه !
وكلا والله ! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد . ولا يصلح إلا بعمل وكفاح . ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه ، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ولتقرير ألوهيةالله في الأرض ، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان ، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس ، وإقامة الناس عليها . . لا بد من جهد . بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين ، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة . وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى ؛ وتعطل دين الله أن يوجد ، وتعوق شريعة الله أن تقوم .
وبعد ذلك - لا قبله - تسقط التبعة عن الذين آمنوا ، وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه :
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مّن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " فأصلحوها ، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ، وانظروا لها فيما يقرّبها من ربها ، فإنه لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ يقول : لا يضرّكم من كفر وسلك غير سبيل الحقّ إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، فحرّمتم حرامه وحللتم حلاله . ونصب قوله : " أنْفُسَكُمْ " بالإغراء ، والعرب تغري من الصفات ب «عليك » ، و«عندك » و«دونك » و«إليك » .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم ذلك .
حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن : أن هذه الاية قرئت على ابن مسعود : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال ابن مسعود : ليس هذا بزمانها ، قولوها ما قبلت منكم فإذا ردّت عليكم فعليكم أنفسكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، قال : ذكر عن ابن مسعود " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا " ثم ذكر نحوه .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : قال رجل لابن مسعود : ألم يقل الله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ؟ قال : ليس هذا بزمانها ، قولوها ما قُبلت منكم فإذا ردّت عليكم فعليكم أنفسكم .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة بن سوّار ، قال : حدثنا الربيع بن صبيح ، عن سفيان بن عقال ، قال : قيل لابن عمر : لو جلستَ في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله تعالى يقول : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألا فليبلغ الشاهد الغائب » فكنا نحن الشهود وأنتم الغَيَب ، ولكن هذه الاية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم .
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي ، قال : حدثنا قتادة ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الاية : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " فقال أكثرهم : لم يجئ تأويل هذه الاية اليوم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عمرو بن عاصم ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن أبي مازن ، بنحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم ، قالا : حدثنا عوف ، عن سوّار بن شبيب ، قال : كنت عند ابن عمر ، إذ أتاه رجل جليدٌ في العين ، شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن نحن ستة كلهم قد قرأوا القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو ، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك . فقال رجل من القوم : وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهر بعضهم على بعض بالشرك ؟ قال : فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، أنا أسأل الشيخ . فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله بن عمر : لعلك ترى لا أبا لك إني سآمرك أن تذهب فتقتلهم ؟ عظهم وانههم ، فإن عصوك فعليك بنفسك ، فإن الله تعالى يقول : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبّئُكمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن : أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم مقبولة ، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا ، أو قال : فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم ، لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن رجل قال : كنت في خلافة عثمان بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيهم شيخ يُسْنِدُون إليه ، فقرأ رجل : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال الشيخ : إنما تأويلها آخر الزمان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أبو مازن رجل من صالحي الأزد من بني الجدّان ، قال : انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة ، فقعدت إلى حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ رجل من القوم هذه الاية " لا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : فقال رجل من أسنّ القوم : دع هذه الاية ، فإنما تأويلها في آخر الزمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن جبير بن نفير ، قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأصغر القوم ، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد ، وقالوا : تنزع بآية من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت . ثم أقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم ، قالوا : إنك غلام حدث السنّ ، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شحّا مطاعا ، وهو متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ليث بن هارون ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جميعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا ، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس ، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله تعالى يقول : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : فسمعها ابن مسعود ، فقال : مَهْ لم يجئ تأويل هذه بعدُ ، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزلن ، ومنه ما وقع تأويلهنّ على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي قد وقع تأويلهنّ بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهنّ بعد اليوم ، ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من أمر الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهنّ يوم الحساب على ما ذكر من أمر الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض ، فامرؤ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الاية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن ابن مسعود : أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كلّ واحد منهما إلى صاحبه ، ثم ذكر نحوه .
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا حرمي ، قال : سمعت الحسن يقول : تأوّل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال بعض أصحابه : دعوا هذه الاية فليست لكم
حدثني إسماعيل بن إسرائيل الللآل الرمليّ ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، عن عمرو بن جارية اللخميّ ، عن أبي أمية الشعباني ، قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " فقال : لقد سألتَ عنها خبيرا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أبا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ ، وَتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ ، فإذَا رأيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً وشُحّا مُطاعا وإعْجابَ كُلّ ذِي رأي بِرأيِهِ ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ أرَى مِنْ بَعْدِ كُمْ أيّامَ الصّبرِ ، للمُتَمَسّكِ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً » . قالوا : يا رسول الله ، كأجر خمسين عاملاً منهم ؟ قال : «لا ، كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً مِنْكُمْ » .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : أخبرنا الوليد بن مسلم ، عن ابن المبارك وغيره ، عن عتبة بن أبي حكيم ، ( عن عمرو بن جارية اللخمي ) عن أبي أمية الشعباني ، قال : سألت أبا ثعلبة الخشني : كيف نصنع بهذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ؟ فقال أبو ثعلبة : سألتَ عنها خبيرا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ائْتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ ، وَتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ ، حتى إذَا رأيْتَ شُحّا مُطاعا وَهَوًى مُتّبَعا وإعْجابَ كُلّ ذِي رأي بِرأيِهِ ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ ، وَذَرْ عَوَامّهُمْ فإنّ وَرَاءَكُمْ أيّاما أجْرُ العامِلِ فِيها كأجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ » .
وقال آخرون : معنى ذلك : أن العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضرّه من ضلّ بعده وهلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ " يقول : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام ، فلا يضرّه من ضلّ بعدُ إذا عمل بما أمرته به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " يقول : أطيعوا أمري ، واحفظوا وصيتي .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا ليث بن هارون ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن صفوان بن الجون ، قال : دخل عليه شاب من أصحاب الأهواء ، فذكر شيئا من أمره ، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة الله التي خصّ بها أولياءه " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ . . . " الاية .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا أبو المطرف المخزوميّ ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " ما لم يكن سيف أو سوط .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، قال : تلا الحسن هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال الحسن : الحمد لله بها والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ فاعملوا بطاعة الله لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فأمَرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن سعد البقال ، عن سعيد بن المسيب : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : إذا أمرتَ بالمعروف ونهيت عن المنكر ، لا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن أبي العميس ، عن أبي البختري ، عن حذيفة : " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : إذا أمرتم ونهيتم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : قال أبو بكر : تقرأون هذه الاية : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإن الناس إذا رأوا الظالم قال ابن وكيع : فلم يأخذوا على يديه ، أوشكَ أن يعمّهم الله بعقابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير وابن فضيل ، عن بيان ، عن قيس ، قال : قال أبو بكر : إنكم تقرأون هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، يعمهم الله بعقابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن أبي بكر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " يقول : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر . قال أبو بكر بن أبي قحافة : يا أيها الناس لا تغترّوا بقول الله : عَليكُمْ أنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم عليّ نفسي . والله لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو لتستعملنّ عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب ، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجيب لهم .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا بيان ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : قال أبو بكر وهو على المنبر : يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الاية على غير موضعها : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، عمهم الله بعقابه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : ثني عيسى بن المسيب البجلي ، حدثنا قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه يقرأ هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إذَا رأى النّاسُ المُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيّرُوهُ والظّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ ، فَيُوشِكُ أنْ يَعُمّهُمُ اللّهُ مِنْهُ بِعِقابٍ » .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا سعيد بن سالم ، قال : حدثنا منصور بن دينار ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : صعد أبو بكر المنبر ، منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله ، وتعدّونها رخصة والله ما أنزل الله في كتابه أشدّ منها : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " والله لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليعمنكم الله منه بعقاب .
حدثنا محمد بن سيّار ، قال : حدثنا إسحاق بن إدريس ، قال : حدثنا سعيد بن زيد ، قال : حدثنا مجالد بن سعيد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس : يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الاية ، ولا تدرون ما هي : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ النّاسَ إذَا رَأوْا مُنْكَرا فَلَمْ يُغَيّرُوهُ عَمّهُمُ اللّهُ بِعِقابٍ » .
وقال آخرون : بل معنى هذه الاية : لا يضرّكم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : يعني : من ضلّ من أهل الكتاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في هذه الاَية : لا يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ قال : أنزلت في أهل الكتاب .
وقال آخرون : عني بذلك كلّ من ضلّ عن دين الله الحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " قال : كان الرجل إذا أسلم ، قالوا له : سفّهت آباءك وضللّتهم ، وفعلت وفعلت ، وجعلت آباءك كذا وكذا ، كان ينبغي لك أن تنصرهم وتفعل فقال الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " .
وأولى هذه الأقوال ، وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الاية ما رُوي عن أبي بكر الصدّيق فيها ، وهو : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " : الزموا العمل بطاعة الله ، وبما أمركم به ، وانتهوا عما نهاكم الله عنه . " لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ " يقول : فإنه لا يضرّكم ضلال من ضلّ إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله ، وأدّيتم فيمن ضلّ من الناس ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي يركبه أو يحاول ركوبه ، والأخذ على يديه إذا رام ظلما لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك ، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا أنتم اهتديتم وأدّيتم حقّ الله تعالى فيه .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب ، لأن الله تعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط ويتعاونوا على البرّ والتقوى ومن القيام بالقسط : الأخذ على يد الظالم ومن التعاون على البرّ والتقوى : الأمر بالمعروف . وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان للناس تَرْك ذلك ، لم يكن للأمر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك ، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة فيكون مرخصا له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه . وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالاية أولى ، فبيّن أنه قد دخل في معنى قوله : " إذا اهْتَدَيْتُمْ " ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب ، من أن ذلك : أذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : " إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده : اعملوا أيها المؤمنون بما أمرتكم به ، وانتهوا عما نهيتكم عنه ، ومروا أهل الزيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر فإن قبلوا فلهم ولكم ، وإن تمادوا في غيهم وضلالهم فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الاخرة ومصيرهم ، وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشرّ ، فأُخبر هناك كلّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا ثم أجازيه على عمله الذي قدم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه ، فإنه لا يخفى عليّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } اختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فقال أبو أمية الشعباني سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآيةا فقال : لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحاً مطاعاً ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بُخَويصة نفسك ، وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم{[4762]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل الذي لا نظر لأحد معه لأنه مستوف للصلاح صادر عن النبي عليه السلام ، ويظهر من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية أنها لا يلزم معها أمر بمعروف ونهي عن منكر ، فصعد المنبر فقال أيها الناس لا تغتروا بقول الله { عليكم أنفسكم } فيقول أحدكم عليَّ نفسي ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم فليسومنّكم سوء العذاب{[4763]} ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : ليس هذا بزمان هذه الآية ، قولو الحق ما ُْقِبل منكم ، فإذا ُرَّد عليكم فعليكم أنفسكم{[4764]} ، وقيل لابن عمر في بعض أوقات الفتن : لو تركت القول في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : ليبلغ الشاهد الغائب ، ونحن شهدنا فيلزمنا أن نبلغكم ، وسيأتي زمان إذا قيل فيه الحق لم يقبل{[4765]} .
قال القاضي أبو محمد : وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى ُرجي القبول أو ُرجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المرء ضرراً يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس ، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم بحكم واجب أن يوقف عنده ، وقال سعيد بن جبير معنى هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } فالتزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف وغيره ، ولا يضركم ضلال أهل الكتاب إذا اهتديتم وقال ابن زيد : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم ، قال : وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت أباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك .
قال القاضي أبو محمد : ولم يقل أحد فيما علمت أنها آية موادعة للكفار ، وكذلك ينبغي أن لا يعارض أنها شيء مما أمر الله به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف ، قال المهدوي : وقد قيل هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ولا يعلم قائله ، وقال بعض الناس نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي سرح وغيره ، فقيل للمؤمنين لا يضركم ضلالهم ، وقرأ جمهور الناس «لا يضُرُّكم » بضم الضاد وشد الراء المضمومة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «لا يضُرْكم » بضم الضاد وسكون الراء ، وقرأ إبراهيم «لا يضِرك » بكسر الضاد وهي كلها لغات بمعنى ضر يضر وضار يضور وضير ، وقوله تعالى : { إلى الله مرجعكم جميعاً } الآية ، تذكير بالحشر وما بعده ، وذلك مسل عن أمور الدنيا ومكروهها ومحبوبها ، وروي عن بعض الصالحين أنه قال : ما من يوم إلا يجيء الشيطان فيقول : ما تأكل وما تلبس وأين تسكن ؟ فأقول له آكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر .
قال القاضي أبو محمد : فمن فكر في مرجعه إلى الله تعالى فهذه حاله .
تذييل جرى على مناسبة في الانتقال فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة ، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير ، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه ، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة ، كما قال تعالى : { إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] .
و { عليكم } اسم فعل بمعنى الزَموا ، وذلك أنّ أصله أن يقال : عليك أن تفعل كذا ، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر ، وتكون ( على ) دالّة على استعلاء مجازي ، كأنّهم جعلوا فعل كذا معتلياً على المخاطب ومتمكّناً منه تأكيداً لمعنى الوجوب فلمّا كثر في كلامهم قالوا : عليك كذا ، فركّبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير : عليك فعل كذا ، لأنّ تلك الذات لا توصف بالعلوّ على المخاطب ، أي التمكّن ، فالكلام على تقدير . وذلك كتعلّق التحريم والتحليل بالذوات في قوله : { حرّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] ، وقوله { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] ، ومن ذلك ما روي { عليكم الدعاء وعليّ الإجابة } ومنه قولهم : عليّ أليّة ، وعليّ نذر . ثم كثر الاستعمال فعاملوا ( على ) معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية . وشاع ذلك في كلامهم فسمّاها النحاة اسم فعل لأنّها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص ، فكأنّك عمدت إلى فعل ( الزم ) فسميّته ( عَلَى ) وأبرزت مَا مَعه من ضمير فألصقته ب ( عَلى ) في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتّصل بها ، وهو ضمير الجرّ فيقال : عليك وعليكما وعليكم . ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأنّ الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر .
فقوله تعالى : { عليكم أنفسكم } هو بنصب { أنفسكم } أي الزموا أنفسكم ، أي احرصوا على أنفسكم . والمقام يبيّن المحروص عليه ، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله : { إذا اهتديتم } ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله : { لاَ يضرّكم من ضلّ } .
فجملة { لا يضرّكم من ضلّ } تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت ، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء ، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم ، ففعل { يضرّكم } مرفوع .
وقوله : { إذا اهتديتم } ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق ب { يضرّكم } . وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى . ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم .
فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة . فكان ذلك داخلاً في شرط { إذا اهتديتم } . ولما في قوله { عليكم أنفسكم } من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ { من ضلّ } ، ولما في قوله { إذا اهتديتم } من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء ؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال : سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي : سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام " وَحَدَثَ في زَمَن أبي بكر : أخرَجَ أصحابُ « السنن » أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { يأيّها الناس إنّكم تَقْرَأونَ هذه الآية { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم } وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده . وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة ( أي النصيحة ) ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يُقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم ( يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم ) . وعنه أيضاً : إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسه . وعن عبد الله بن عمر أنه قال : إنّها ( أي هذه الآية ) ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال : " ألا ليبلّغ الشاهد الغائب " فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم .
فماصْدقُ هذه الآية هو مَاصْدقُ قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر : " من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير دون ضُرّ يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة . فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقّق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك ، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني ، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي بدون جدوى ، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفاً .
وقوله : { إلى الله مرجعكم جميعاً } عذر للمهتدي ونذارة للضالّ . وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين ، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله : { جميعاً } للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب . والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير ، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة .
والمرجع مصدر ميمي لا محالة ، بدليل تعديته ب { إلى } ، وهو ممّا جاء من المصادر الميمية بكسر العين على القليل ، لأنّ المشهود في الميمي مِن يَفعِل بكسر العين أن يكون مفتوح العين .
{عَلَيْكُمُ أَنفُسَكُمْ} هذا مثل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدياهُمْ} ومثل قوله عز وجل: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. ومثل هذا في القرآن على ألفاظ. (أحكام الشافعي: 2/185-186.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ" فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى، وانظروا لها فيما يقرّبها من ربها، فإنه "لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ": لا يضرّكم من كفر وسلك غير سبيل الحقّ إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فحرّمتم حرامه وحللتم حلاله.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم ذلك.
عن سفيان بن عقال، قال: قيل لابن عمر: لو جلستَ في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى يقول: "عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ" فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيَب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم...
عن أبي أمية الشعباني، قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الاية: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ" فقال: لقد سألتَ عنها خبيرا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ، وَتَناهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، فإذَا رأيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً وشُحّا مُطاعا وإعْجابَ كُلّ ذِي رأي بِرأيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ أرَى مِنْ بَعْدِكُمْ أيّامَ الصّبرِ، للمُتَمَسّكِ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً». قالوا: يا رسول الله، كأجر خمسين عاملاً منهم؟ قال: «لا، كأجْرِ خَمْسِينَ عامِلاً مِنْكُمْ».
وقال آخرون: معنى ذلك: أن العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضرّه من ضلّ بعده وهلك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ" فاعملوا بطاعة الله "لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ" فأمَرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن بيان، عن قيس، قال: قال أبو بكر: إنكم تقرأون هذه الآية: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ" وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، يعمهم الله بعقابه.
عن السديّ، قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ" يقول: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترّوا بقول الله: عَليكُمْ أنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم عليّ نفسي. والله لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو لتستعملنّ عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجيب لهم.
وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضرّكم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب.
وقال آخرون: عني بذلك كلّ من ضلّ عن دين الله الحقّ.
وأولى هذه الأقوال، وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية ما رُوي عن أبي بكر الصدّيق فيها، وهو: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ ": الزموا العمل بطاعة الله، وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه." لاَ يَضُرّكُمْ مَنْ ضَلّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ "يقول: فإنه لا يضرّكم ضلال من ضلّ إذا أنتم رمتم العمل بطاعة الله، وأدّيتم فيمن ضلّ من الناس ما ألزمكم الله به فيه من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلما لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيه وضلاله إذا أنتم اهتديتم وأدّيتم حقّ الله تعالى فيه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط ويتعاونوا على البرّ والتقوى ومن القيام بالقسط: الأخذ على يد الظالم ومن التعاون على البرّ والتقوى: الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان للناس تَرْك ذلك، لم يكن للأمر به معنى إلا في الحال التي رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة فيكون مرخصا له تركه إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه. وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبيّن أنه قد دخل في معنى قوله:"إذا اهْتَدَيْتُمْ ": أذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ".
يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا أيها المؤمنون بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا أهل الزيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف، وانهوهم عن المنكر فإن قبلوا فلهم ولكم، وإن تمادوا في غيهم وضلالهم فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الاخرة ومصيرهم، وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشرّ، فأُخبر هناك كلّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا ثم أجازيه على عمله الذي قدم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه، فإنه لا يخفى عليّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ظن بعض الناس أن الآية دفعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي في ترك ذلك وليس فيه دفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن إنباء أن ليس علينا في ما يردن ولا يقبل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء، وهو كقوله تعالى: {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم} [الأنعام: 52] وكقوله تعالى: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل} الآية [النور: 54] ليس فيه رخصة ترك تبليغ الرسالة إليهم ودفعه عنهم. ولكن إخبار ليس عليه في ما يُرد وترك القبول شيء كقوله تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] فعلى ذلك الأول، والله أعلم...
وقوله تعالى: (إلى الله مرجعكم جميعا) الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والذي يرد عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (فينبئكم بما كنتم تعلمون) خرج على الوعيد والتحذير...
أكّد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه، وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه، وإن كان قد تعرض أحوال من التَّقِيَّةِ يَسَعُ معها السكوتُ... فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله. وربما ظنّ من لا فِقْهَ له أن ذلك منسوخٌ أو مقصورُ الحكم على حال دون حال، وتأوَّلَ فيه قول الله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وليس التأويل على ما يظن هذا الظانّ لو تجردت هذه الآية عن قرينة، وذلك لأنه قال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني: احفظوها لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم؛ ومن الاهتداء اتباعُ أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا، فلا دلالة فيها إذاً على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما بين الله تعالى حكم الكفار الذين قلدوا آباءهم وأسلافهم وركنوا إليهم في أديانهم، ذكر في هذه الآية أن المكلف إنما يلزمه حكم نفسه، وأنه لا يضره ضلال من ضل إذا كان هو مهتديا، حتى يعلم بذلك أنه لا يلزمهم من ضلال آبائهم شيء من الذم والعقاب... وليس في الآية ما يدل على سقوط إنكار المنكر. وإنما يجوز الاقتصار على الاهتداء باتباع أمر الله في حال التقية، هذا قول ابن مسعود، على أن الانسان إنما يكون مهتديا إذا اتبع أمر الله في نفسه وفي غيره بالإنكار عليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتوّ والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى {لاَ يَضُرُّكُمْ} الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} [فاطر: 8] وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم. فهو مخاطب به، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى ُرجي القبول أو ُرجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المرء ضرراً يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم بحكم واجب أن يوقف عنده...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ من الْقُرْآنِ لَيْسَ لَهَا أُخْتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا آيَةٌ يَنْسَخُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا؛ نَسَخَ قَوْلُهُ: {إذَا اهْتَدَيْتُمْ} قَوْلَهُ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ من أُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَخِلَافَةُ الْمُسْلِمِينَ؛ وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا أَبْوَابَهُ وَمَسَائِلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَهِيَ من فُرُوعِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا فِي آيَاتٍ قَبْلَ هَذَا، وَذَكَرْنَا بَعْضَ شُرُوطِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْقِيَامَ بِهِ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ. وَعَرَضْت هَذِهِ الْآيَةَ الْمُوهِمَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ لِمُعَارَضَتِهَا لِمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِمَا يَتَأَخَّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى من الْآيَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَعِنْدَ سَدَادِ النَّظَرِ وَانْتِهَائِهِ إلَى الْغَايَةِ يَتَبَيَّنُ الْمَطْلُوبُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}. وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ لِأَجْلِ سُكُوتِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْرُوفِ الْمَتْرُوكِ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آنِفًا بِقَوْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ من عِنْدِهِ). وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ بِيَقِينِ الْأَمْنِ من الضَّرَرِ عِنْدَ الْقِيَامِ بِهِ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: (فَإِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسِك، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ). وَذَلِكَ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَى مُعَارَضَةِ الْخَلْقِ، وَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ من الْقِيَامِ بِالْحَقِّ. وَتِلْكَ رُخْصَةٌ من اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَسَّرَهَا عَلَيْنَا، وَفَضْلُهُ الْعَمِيمُ آتَانَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ فِيهِ وَالِاخْتِلَافَ عَلَيْهِ.
وَيَعْضُدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ).
قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} في الآية مسائل:
المسألة الأولى: لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال: {ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} إلى قوله {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه ءاباءنا} فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم، فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه، فلا يضركم ضلالتهم وجهالتهم، فلهذا قال: {يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}...
المسألة الرابعة: فإن قيل: ظاهر هذه الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجب. قلنا الجواب عنه من وجوه: الأول: وهو الذي عليه أكثر الناس، إن الآية لا تدل على ذلك بل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي، فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالدلائل، خطب الصديق رضي الله عنه فقال: إنكم تقرؤون هذه الآية {يأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم} وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب». والوجه الثاني في تأول الآية: ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا قوله {عليكم أنفسكم} يكون هذا في آخر الزمان: قال ابن مسعود لما قرئت عليه هذه الآية ليس هذا بزمانها، ما دامت قلوبكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا ووكل كل امرئ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية، وهذا القول عندي ضعيف، لأن قوله {يا أيها الذين آمنوا} خطاب عام، وهو أيضا خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب. والوجه الثالث في تأويل الآية: ما ذهب إليه عبد الله بن المبارك فقال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه قال: {عليكم أنفسكم} يعني عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار، وهذا كقوله {فاقتلوا أنفسكم} يعني أهل دينكم فقوله {عليكم أنفسكم} يعني بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات، والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله {عليكم أنفسكم} معناه احفظوا أنفسكم فكان ذلك أمرا بأن تحفظ فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجبا.
والوجه الرابع: أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ، ولا يتركون الكفر، بسبب الأمر بالمعروف، فهاهنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف، والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين، حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين.
الوجه الخامس: أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله، فهاهنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل، وكان ابن شبرمة يقول: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر.
الوجه السادس: لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك. الوجه السابع: {عليكم أنفسكم} من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة، فإن لم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم. والوجه الثامن: أنه تعالى قال لرسوله {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا هاهنا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن بين الله تعالى بطلان التقليد – وهو أن يتبع المرء غيره من الناس في فهمه للدين ورأيه فيه بغير علم ولا حجة – أمر المؤمنين بصيغة الإغراء بأن يهتموا بإصلاح أنفسهم بالعلم الصحيح والعمل الصالح الذي يعد رشدا وهدى، وبين لهم أنهم إذا أصلحوا أنفسهم وقاموا بما أوجب الله عليهم من علم وتعليم وعمل وإرشاد، فلا يضرهم من ضل من الناس عن محجة العلم بالجهل والتقليد، وعن صراط العمل الصالح بالفسق والإفساد في الأرض، فقال: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} أي الزموا إصلاح أنفسكم، وتزكيتها بما شرعه الله لكم، لا يضركم ضلال غيركم إذا أهديتم، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى. ومن أصول الهداية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لا تكونون مهتدين إلا إذا بلغتم دعوة الحق والخير، وعلمتم الجاهلين ما أعطاكم الله من العلم والدين، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، فلا تكتموا الحق والعلم كما كتمه من كان قبلكم، فلعنهم الله على لسان أنبيائهم ولسان نبيكم...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
الخلاصة: إن الرواة من السلف متفقون على أن المؤمن لا يكون مهتديا إذا أصلح نفسه ولم يهتم بإصلاح غيره بأن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وأن ذلك فرض لا هوادة فيه. ولكن هذه الفريضة تسقط إذا فسد الناس فسادا لا يرجى معه تأثير الوعظ والإرشاد، أو فسادا يؤدي إلى إيذاء الواعظ المرشد، بأن يعلم أو يظن ظنا قويا بأن لا فائدة من نصحه، أو بأنه سيؤذى إذا هو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ويحرم عليه إذا أدى إلى الوقوع في التهلكة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم. ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة. (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم، متضامنون متكافلون فيما بينكم. فعليكم أنفسكم.. عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها؛ وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها؛ ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم. فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم؛ وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم. إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادى ء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى. إن الأمة المسلمة هي حزب الله. ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان. ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن، لأنه لا اشتراك في عقيدة؛ ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة؛ ولا اشتراك في تبعة أو جزاء. وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها؛ وأن تتناصح وتتواصى، وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها.. ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى. ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى. والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها. فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم؛ ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم.. إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا، ثم في الأرض جميعا. وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته. وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه.. والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا؛ وعلى البشرية كلها أخيرا. وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما -وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا- أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -إذا اهتدى هو بذاته- ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض -إذا هي اهتدت بذاتها- وضل الناس من حولها. إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان -وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة. فكان ذلك داخلاً في شرط {إذا اهتديتم}. ولما في قوله {عليكم أنفسكم} من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّن بِ {من ضلّ}، ولما في قوله {إذا اهتديتم} من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
..وأقل نظر إلى هذه الآية بتعمق وإمعان يؤدي إلى فهم المقصود منها على أحسن وجه، إذ هي واردة في سياق الآية التي سبقتها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} فها هنا دعوة موجهة إلى المشركين من الرسول والمؤمنين، ليتركوا ما هم عليه من ضلال وخبال، لكنهم يصرون على تقليدهم الأعمى، ويأبون الاستجابة إلى الدعوة الإسلامية. وما دام الأمر هكذا، وما دام الرسول والمؤمنون قد بذلوا كل ما في وسعهم للقيام بتوجيه الدعوة وتبليغ الرسالة، وحاولوا بكل الوسائل إقناع المشركين دون جدوى، فقد برئت ذمتهم ولم يبق أمامهم إلا العمل على نجاة أنفسهم وخلاصها، ولن يحاسبوا على ضلال من أصر على الضلال، بعد دعوتهم لهم باستمرار، ورفضه لدعوتهم بكامل الرفض ومزيد من الإنكار. وليس معنى هذه الآية الإذن للمسلم بالتخلي عن واجباته نحو المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ولا الترخيص له بالوقوف منهما موقف المتفرج الذي لا يهمه من أمرهما شيء، فذلك فهم مقلوب للإسلام، وتأويل مضاد للمعنى المقصود من هذه الآية. روى أصحاب السنن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا أرادوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه). ومما لا يسوغ للمسلم التخلي عنه ولا إهماله أبدا أمر أسرته وأولاده، امتثالا لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} وقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}.
الحق سبحانه قد قال من قبل: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} (من الآية 104 سورة المائدة). والقولان يدلان على أن هناك فريقين: فريقا يسير على الضلال، وفريقا يسير على الهداية. وهناك معركة بين فريقين. فهل تدوم هذه المعركة طويلا؟ نعم ستظل هذه المعركة طويلا؛ لأن أهل الضلال لا يحبون أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وكذلك فهم يستفيدون من فساد الكون...
إذن فمن مصلحة المؤمن أن يعدي الخير منه إلى سواه، حتى ينتشر الخير ويعود الخير إلى المؤمن من حركة الخير في المجتمع. لذلك قال الحق سبحانه: {عليكم أنفسكم} أي الزموا أنفسكم، وكأن نفوس المؤمنين وحدة واحدة. وهو تعبير عن ضرورة شيوع الرتابة الإيمانية المتبادلة...
{لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا} ويطمئن الحق المؤمنين إلى أنهم إن قابلوا الضرر في حياتهم فليعلموا أن هذه الحياة ليست هي كل شيء، بل هناك حياة أخرى نرجع فيها إلى الله، فمن كان في جانب الله أعطاه الله خلودا أبديا في النعيم، ومن كان ضد منهج الله أعطاه الله عذاب الجحيم. وقال الحق ذلك لأن المؤمن لا يضمن نفسه في كثير من المواقف، فقد يدخل معركة وفي نيته الإخلاص لكنه قد ينحرف، فيصيبه الضرر على قدر ما انحرف. وعلى الذين يسيرون في ضوء منهج الله دائما أن يحتفظوا بتلك القضية في بؤرة شعورهم. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة حينما كان في غزوة أحد، وأمر الرماة ألا يبرحوا أماكنهم وإن رأوا المؤمنين في انتصار ورأوا الأعداء في هزيمة. واتجه الرماة إلى الغنائم من فور أن رأوا انتصار المؤمنين، فلم ينصرهم الله وهم على مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبذلك تعلم المؤمنون الدرس: أن يطيعوا الله والرسول في كل خطو ة. ولو أن الله سبحانه لم يقل: {إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعلمون}. فماذا يكون موقف الذين لم يشهدوا نصرا لجند الله، وهم قد دخلوا المعارك الأولى واستشهدوا؟. لقد علموا من البداية أن المرجع إلى الله وأنه سيعطيهم حياة أخرى. وسينبئهم الله بما فعلوا. والإنباء هنا بمعنى الجزاء والتكريم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كل إنسان يتحمل مسؤولية نفسه وهذا نداءٌ للمؤمنين يحدد مسؤوليتهم الإيمانيّة في الحياة، {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فلكل منهم مسؤوليّته عن نفسه في تهيئة سبل الهداية الفكريّة والعقيديّة والمنهجيّة على طريق إنجاز البرامج والخطط والأهداف والخبرة المتعلَّقة بها. فإذا تمّ له ذلك على النهج الَّذي يرضاه الله ورسوله، فقد أخذ بأسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ولن يضره بعد ذلك كفر الكافرين وضلال الضالين، لأنَّ المسألة لا تتعدى صاحبها في ما يؤكده الإسلام من فردية التبعيّة، فلا يتحمل إنسان ذنب غيره، ولا يؤخذ المهتدي بضلال الضال، مهما كانت درجة قرابته به وعلاقته معه...
وقد ذكر بعض المفسرين احتمالاً في النطاق الَّذي تتحرك فيه الآية، بأنَّ المخاطب بها هو مجتمع المؤمنين الَّذي يواجه مجتمع الكافرين بانحرافاته وضلالاته، ليكون المراد بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهيّة من خلال المحافظة على معارفهم الدينيّة والأعمال الصالحة والشعائر الإسلاميّة العامة، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103]، فإنَّ المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسنة، ويكون قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يُراد به أنَّهم في أمنٍ من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلاميّة، فليس من الواجب على المسلمين أن يبلغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة، أو أنَّه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة، إذ {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وتجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196 197]. ولكنَّ الظاهر من الآية أنَّها لا تخاطب المؤمنين كمجتمعٍ من حيث إنَّهم مجموعةٌ مميّزةٌ مرتبطةٌ ببعضها البعض في مقابل مجتمعٍ آخر على هذا النحو، بل هي في مقام إثارة القضيّة في حياة كل فرد من أفراد المؤمنين لتحديد دوره ومسؤوليته، تماماً كما هي الآيات الكثيرة في القرآن الّتي تطلب من المؤمنين أشياءً وتنهاهم عن أشياء، فإنَّها جاءت تخاطب الأفراد بطريقة الجمع الّذي يختصر الأعداد الكثيرة بكلمة واحدة، لتحدّد لكلّ إنسانٍ منهم دوره بعيداً عن أدوار الآخرين في ما تتمثَّل فيه من سلبيات. والله العالم...