ثم نهى - سبحانه - عن الغلول ونزه النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } وقوله { يَغُلَّ } من الغلول وهو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها . يقال : غل فلان شيئاً من المغنم يغل غلولا إذا أخذه خفية . ويقال : أغل الجازر أو السالخ إذا أبقى فى الجلد شيئا من اللحم على طريق الخفية .
وأصله من الغلل وهو دخول الماء فى خلل الشجر خفية . والغل : الحقد الكامن فى الصدر وسميت هذه الخيانة غلولا ، لأنها تجرى فى المال على خفاء من وجه لا يحل .
والمعنى : ما صح ولا استقام لنبى من الأنبياء أن يخون فى المغنم ، لأن الخيانة تتنافى مع مقام النبوة الذى هو أشرف المقامات { وَمَن يَغْلُلْ } أى ومن يرتكب شيئاً من ذلك ، { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأت بما غله يوم القيامة حاملا إياه ليكون فضيحة له يوم الحشر ، ليؤخذ بإثم غلوله وخيانته .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه أبو داود والترمذى عن ابن عباس قال : " نزلت هذه الآية " { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } فى قطيفة حمراء فقدت يوم بدر . فقال بعض الناس : لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ، وأكثروا فى ذلك فأنزل الله الآية " .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضاً أن المنافقين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء فُقِد ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } .
قال ابن كثير - بعد أن ساق هاتين الروايتين - وهذا تنزيه له صلى الله عليه وسلم من جميع وجوه الخيانة فى أداء الأمانة وقسمة الغنيمة وغير ذلك .
وفى ورود هذه الآية الكريمة فى سياق الحديث عن غزوة أحد ، حكمة عظيمة ، وتأديب من الله للمؤمنين ، وتحذير لهم من الغلول ، ذلك أن الرماة الذين تركوا أماكنهم مخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دفعهم لذلك خشيتهم من أن ينفرد المقاتلون بالغنائم ، ففعلوا ما فعلوا ، ولقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة :
" أظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم " .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم فى كثير من الأحاديث عن الغلول ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثنى ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق - أى ثياب - فيقول يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيام على رقبته صامت - أى ذهب وفضة - فيقول : يا رسول الله أغثنى فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك " .
هذا ، وجمهور العلماء على أن الغال يأتى بما غله يوم القيامة بعينه على سبيل الحقيقة لأن ظواهر النصوص من الكتاب والنسة تؤيد ذلك . ولأنه لا موجب لصرف الألفاظ عن ظواهرها .
ومن العلماء من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيراً بما غل عما لزمه من الإثم مجازا .
قال الفخر الرازى : " واعلم أن هذا التأويل - المجازى - يحتمل ، إلا أن الأصل المعتبر فى علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه . وهنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب إثباته " .
ومن المفسرين الذين حمولا الإتيان على ظاهره الإمام القرطبى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أى يأتى به حاملا له على ظهره ورقبته معذباً بحماه وثقله ومرعوباً بصوته ، وموبخاً بإظهار خيانته على رءوس الاشهاد .
وقال بعد إيراده للحديث السابق الذى رواه مسلم عن أبى هريرة : قيل الخبر محمول على شهرة الأمر . أى يأتى يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة .
قلت : وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه ، وإذا دار الكلام بين الحقيقة والمجاز فالحقيقة الأصل - كما فى كتب الأصول - وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بالحقيقة ولا عطر بعد عروس " .
ثم نبه - سبحانه - على العقوبة التى ستحل بالخائن ، بعد أن بين ما سيناله من فضيحة وخزى فقال : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
أى : ثم تعطى كل نفس يوم القيامة جزاء ما كسبت من خير أو شر وافيا تاماً ، وهم لا يظلمون شيئاً ، لأن الحاكم بينهم هو ربك الذى لا يظلم أحداً .
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها وقوله { وَمَن يَغْلُلْ } وجاء العطف بثم المفيدة للتراخى ، للإشعار بالتفاوت الشديد بين حمله ما غل وبين جزائه وسوء عاقبته يوم القيامة .
وقال - سبحانه - { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ } . . . بصيغة العموم ، ولم يقل ثم يوفى الغال مثلا - لأن من فوائد ذكر هذا الجزاء بصيغة العموم ، الاعلام والإخبار للغال وغيره من جميع الكاسبين بأن كل إنسان سيجازى على عمله سواء أكان خيرا أو شراً . فيندرج الغال تحت هذا العموم أيضاً فكأنه قد ذكر مرتين .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل به ؟ قلت : جىء بعام دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أبلغ وأثبت ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب .
ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية ؛ ليمد من هذا المحور خيوطا في التوجيه للأمانة ، والنهي عن الغلول ، والتذكير بالحساب ، وتوفية النفوس دون إجحاف :
( وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
ولقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل ، خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله [ ص ] من الغنائم ! كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت ؛ ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه [ ص ] في هذا المجال .
فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا . . أي أن يحتجزوا شيئا من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض ، أو يخونوا إجمالا في شيء :
ما كان له . فهو ليس من شأنه أصلا ولا من طبعه ولا من خلقه . فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل . وليس نفيا لحله أو جوازه . فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتى أن يقع منها الغلول ابتداء . . وفي قراءة : " يغل " على بناء الفعل لغير الفاعل . أي لا يجوز أن يخان . ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئا . . فيكون نهيا عن خيانة النبي في شيء . وهو يتمشى مع عجز الآية . وهي قراءة الحسن البصري .
ثم يهدد الذين يغلون ، ويخفون شيئا من المال العام أو من الغنائم ، ذلك التهديد المخيف :
( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
روى الإمام أحمد . حدثنا سفيان عن الزهري ، سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله [ ص ] رجلا من الأزد يقال له ابن اللتيبة . على الصدقة . فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي . فقام رسول الله [ ص ] على المنبر فقال : " ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي . أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده ، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ، وإن بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر " . . ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه . ثم قال : " اللهم هل بلغت ؟ " - ثلاثا - . . [ وأخرجه الشيخان ] وروى الإمام أحمد بإسناده ، عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله [ ص ] يوما فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره . ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت . فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " . . [ وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان ] . .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة الكندي . قال : قال رسول الله [ ص ] :
" يا أيها الناس . من عمل لنا منكم عملا ، فكتمنا منه مخيطا فما فوقه ، فهو غل يأتي به يوم القيامة " . . قال : فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال : يا رسول الله ، أقبل مني عملك . قال : " وما ذاك ؟ " قال : سمعتك تقول : كذاوكذا . قال : " وأنا أقول ذلك الآن . من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره . فما أوتي منه أخذه ؛ وما نهي عنه انتهى " . . [ ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع ] . .
وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة ؛ حتى أتت بالعجب العجاب ؛ وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره ، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية . وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة ، لا يراه أحد ، فيأتي به إلى أميره ، لا تحدثه نفسه بشيء منه ، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب ، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة ! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا . وكانت الآخرة في حسه واقعا ، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه ، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها . وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه . فالآخرة كانت حقيقة يعيشها ، لا وعدا بعيدا ! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت ، وهم لا يظلمون . .
روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما آتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ! ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس . .
وقد حملت الغنائم إلى عمر - رضي الله عنه - بعد القادسية ، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن . . فنظر - رضي الله عنه - إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : " إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء " . .
وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير .
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَغُلّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة من قراء الحجاز والعراق : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } بمعنى : أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم من أموال أعدائهم . واحتجّ بعض قارئي هذه القراءة ، أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قطيفة فقدت من مغانم القوم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم : لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها . ورووا في ذلك روايات . فمنها ما :
حدثنا به محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : حدثنا مقسم ، قال : ثني ابن عباس ، أن هذه الاَية : { وَما كانَ لِبَنِيّ أنْ يَغُلّ } نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، قال : فقال بعض الناس : أخذها ! قال : فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : سألت سعيد بن جبير : كيف تقرأ هذه الاَية : { وَما ان لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } أو يُغَلّ ؟ قال : لا ، بل يَغُلّ ، فقد كان النبيّ واللّه يُغَلّ ويُقتل .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن مقسم ، عن ابن عباس : { وَما كانَ لِنَبِيّ أن يَغُلّ } قال : كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر ، فقال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فلعلّ النبيّ أخذها ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال سعيد : بل والله إن النبيّ لُيغلّ ويُقتل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خلاد ، عن زهير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا خصيف ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، في قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قالا : يَغُلّ ، قال : قال عكرمة أو غيره ، عن ابن عباس ، قال : كانت قطيفة فقدت يوم بدر ، فقالوا : أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله هذه الاَية : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا قزعة بن سويد الباهلي ، عن حميد الأعرج ، عن سعيد بن جبير ، قال : نزلت هذه الاَية : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من الغنيمة .
حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، قال : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن سليمان الأعمش ، قال : كان ابن مسعود يقرأ : { مَا كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ } فقال ابن عباس : بلى ، ويُقتل . قال : فذكر ابن عباس أنه إنما كانت في قطيفة ، قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غلّها يوم بدر ، فأنزل الله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .
وقال آخرون ممن قرأ ذلك كذلك بفتح الياء وضمّ الغين : إنما نزلت هذه الاَية في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في وجه ، ثم غنم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الاَية على نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلمه فيها أن فعله الذي فعله خطأ ، وأن الواجب عليه في الحكم أن يقسم للطلائع مثل ما قسم لغيرهم ، ويعرّفه الواجب عليه من الحكم فيما أفاء الله عليه من الغنائم ، وأنه ليس له أن يخصّ بشيء منها أحدا ممن شهد الوقعة أو ممن كان ردءا لهم في غزوهم دون أحد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القيامَةِ } يقول : ما كان للنبيّ أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم ، ولكن يقسم بالعدل ، ويأخذ فيه بأمر الله ، ويحكم فيه بما أنزل الله . يقول : ما كان الله ليجعل نبيا يغلّ من أصحابه ، فإذا فعل ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، استنّوا به .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أنه كان يقرأ : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال : أن يعطي بعضا ، ويترك بعضا ، إذا أصاب مغنما .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع ، فغنم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يقسم للطلائع ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } يقول : ما كان لنبيّ أن يقسم لطائفة من أصحابه ، ويترك طائفة ، ولكن يعدل ، ويأخذ في ذلك بأمر الله عزّ وجلّ ، ويحكم فيه بما أنزل الله .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال : ما كان له إذا أصاب مغنما أن يقسم لبعض أصحابه ويدع بعضا ، ولكن يقسم بينهم بالسوية .
وقال آخرون ممن قرأ ذلك بفتح الياء وضمّ الغين : إنما أنزل ذلك تعريفا للناس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لا يكتم من وحي الله شيئا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القيامَةِ ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } : أي ما كان لنبيّ أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة ، ومن يعمل ذلك يأت به يوم القيامة .
فتأويل قراءة من قرأ ذلك كذلك : ما ينبغي لنبيّ أن يكون غالاّ ، بمعنى : أنه ليس من أفعال الأنبياء خيانة أممهم . يقال منه : غلّ الرجل فهو يغلّ ، إذا خان ، غلولاً ، ويقال أيضا منه : أغلّ الرجل فهو يُغِلّ إغلالاً ، كما قال شريح : ليس على المستعير غير المغلّ ضمان ، يعني : غير الخائن¹ ويقال منه : أغلّ الجازر : إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد .
وبما قلنا في ذلك جاء تأويل أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } يقول : ما كان ينبغي له أن يخون ، فكما لا ينبغي له أن يخون فلا تخونوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } قال : أن يخون .
وقرأ ذلك آخرون : «ما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » بضم الياء وفتح الغين ، وهي قراءة عُظْم قراء أهل المدينة والكوفة .
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما كان لنبيّ أن يغله أصحابه . ثم أسقط الأصحاب ، فبقي الفعل غير مسمى فاعله¹ وتأويله : وما كان لنبيّ أن يخان . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه كان يقرأ : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » قال عوف : قال الحسن : أن يُخان .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغْلّ » يقول : وما كان لنبيّ أن يغله أصحابه الذين معه من المؤمنين ، ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غلّ طوائف من أصحابه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » قال : أن يغله أصحابه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » قال الربيع بن أنس ، يقول : ما كان لنبيّ أن يغله أصحابه الذين معه ، قال : ذكر لنا والله أعلم أن هذه الاَية أنزلت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقد غلّ طوائف من أصحابه .
وقال آخرون منهم : معنى ذلك : وما كان لنبيّ أن يتهم بالغلول فيخون ويسرق . وكأن متأوّلي ذلك كذلك وجهوا قوله : «وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يُغَلّ » إلى أنه مراد به يغلّل ، ثم خففت العين من يُفَعّل فصارت يفعل ، كما قرأ من قرأ قوله : «فإنّهُمْ لا يُكْذِبُونك » بتأوّل يُكَذّبُونك .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } بمعنى : ما الغلول من صفات الأنبياء ، ولا يكون نبيا من غلّ . وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عزّ وجلّ أوعد عقيب قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } أهل الغلول ، فقال : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } . . . الاَية ، والتي بعدها ، فكان في وعيده عقيب ذلك أهل الغلول ، الدليل الواضح على أنه إنما نهى بذلك عن الغلول ، وأخبر عباده أن الغلول ليس من صفات أنبيائه بقوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } لأنه لو كان إنما نهى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلول ، لعقب ذلك بالوعيد على التهمة ، وسوء الظنّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا بالوعيد على الغلول ، وفي تعقيبه ذلك بالوعيد على الغلول بيان بين ، أنه إنما عرف المؤمنين وغيرهم من عباده أن الغلول منتف من صفة الأنبياء وأخلاقهم ، لأن ذلك جرم عظيم ، والأنبياء لا تأتي مثله .
فإن قال قائل ممن قرأ ذلك كذلك : فأولى منه : وَما كان لنبيّ أن يخونه أصحابه إن ذلك كما ذكرت ، ولم يعقب الله قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ } إلا بالوعيد على الغلول ، ولكنه إنما وجب الحكم بالصحة لقراءة من قرأ : «يُغَلّ » بضم الياء وفتح الغين ، لأن معنى ذلك : وما كان للنبيّ أن يغله أصحابه ، فيخونوه في الغنائم¹ قيل له : أفكان لهم أن يغلوا غير النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخونوه ، حتى خصوا بالنهي عن خيانة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإن قالوا : نعم ، خرجوا من قول أهل الإسلام ، لأن الله لم يبح خيانة أحد في قول أحد من أهل الإسلام قط .
وإن قال قائل : لم يكن ذلك لهم في نبيّ ولا غيره ؟ قيل : فما وجه خصوصهم إذا بالنهي عن خيانة النبيّ صلى الله عليه وسلم وغلوله وغلول بعض اليهود ، بمنزلة فيما حرّم الله على الغالّ من أموالهما ، وما يلزم المؤتمن من أداء الأمانة إليهما . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن معنى ذلك هو ما قلنا من أن الله عزّ وجلّ نفى بذلك أن يكون الغلول والخيانة من صفات أنبيائه ، ناهيا بذلك عباده عن الغلول ، وآمرا لهم بالاستنان بمنهاج نبيهم ، كما قال ابن عباس في الرواية التي ذكرناها من رواية عطية ثم عقب تعالى ذكره نهيهم عن الغلول بالوعيد عليه ، فقال : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } . . . الاَيتين معا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : ومن يخن من غنائم المسلمين شيئا ، وفيئهم ، وغير ذلك ، يأت به يوم القيامة في المحشر . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يحيى بن سعيد أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قام خطيبا ، فوعظ وذكر ، ثم قال : «ألا عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ شاةٌ لَهَا ثُغاءٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا ، قَدْ أبْلَغْتُكَ ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهَا حَمْحَمَةٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ . ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ صَامِت ، فَيَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ . ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ ألا هَلْ عَسَى رَجُلٌ مِنْكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ رِقاعٌ تَخْفِقُ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي ، فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ شَيْئا قَدْ أبْلَغْتُكَ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثل هذا ، زاد فيه : «على رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغاءٌ ، لا أُلْفِيَنّ أحَدَكُمْ على رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِياحٌ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أبو حيان ، عن أبي زرعة ، عن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا يوما ، فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره ، فقال : «لا ظأُلْفَينّ أحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ على رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغاءٌ ، يَقُولُ : يا رَسُولَ اللّهِ أغِثْنِي » ثم ذكر نحو حديث أبي كريب ، عن عبد الرحمن .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حفص بن بشر ، عن يعقوب القمي ، قال : حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلَ شاةً لَهَا ثُغاءٌ ، يُنادِي : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ جَمَلاً لَهُ رُغاءٌ ، يَقُولُ : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ فَرَسا لَهُ حَمْحَمَةٌ ، يُنادِي : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ وَلا أعْرِفَنّ أحَدَكُمْ يَأتي يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ قِشْعا مِنْ أدَمٍ يُناديٍ : يا مُحَمّدُ يا مُحَمّدُ ! فَأقُولُ : لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا قَدْ بَلّغْتُكَ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن عبد الله بن ذكوان ، عن عروة بن الزبير ، عن أبي حميد ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقا ، فجاء بسواد كثير ، قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقبضه منه¹ فلما أتوه ، جعل يقول : هذا لي ، وهذا لكم¹ قال : فقالوا : من أين لك هذا ؟ قال : أهدي إليّ ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بذلك ، فخرج فخطب ، فقال : «أيّها النّاسُ ، ما بالي أبْعَثُ قَوْما إلى الصّدَقَةِ ، فَيَجِيءُ أحَدُهُمْ بالسّوَادِ الكَثِيرِ ، فإذَا بَعَثْتُ مَنْ يَقْبِضُهُ قالَ : هَذَا لي ، وَهَذَا لَكُمْ ! فإنْ كانَ صَادِقا أفَلا أُهْدِيَ لَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِ أبِيهِ ، أوْ فِي بَيْتِ أُمّهِ ؟ » ثُمّ قالَ : «أيّها النّاسُ ، مَنْ بَعَثْناهُ على عَمَلٍ فَغَلّ شَيْئا ، جاءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ على عُنُقِهِ يَحِملُهُ ، فاتّقُوا اللّهَ أنْ يَأتي أحَدُكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ على عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغاءٌ ، أوْ بَقَرَةٌ تَخُورُ ، أوْ شاةٌ تَثْغُو » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية وابن نمير وعبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد الساعدي ، قال : استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد ، يقال له ابن الأتبيّة على صدقات بني سليم¹ فلما جاء قال : هذا لكم ، وهذا هدية أهديت لي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفَلاَ يَجْلِسُ أحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ فَتأْتِيهِ هَدِيّتُهُ ! » ثُم حَمِدَ اللّهَ وأثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمّ قالَ : «أمّا بَعْدُ فإنّي أسْتَعْمِلُ رِجالاً مِنْكُمْ على أُمُورٍ مِمّا وَلانّيِ اللّهُ ، فَيَقُولُ أحَدُهُمْ : هَذَا الّذِي لَكُمْ ، وَهَذَا هَدِيّةٌ أهْدِيَتْ إليّ أفَلاَ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ أبِيهِ أوْ بَيْتِ أمّهِ فتأْتِيهَ هَدِيّتُهُ ! وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا يَأْخُذُ أحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا إلاّ جاءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنُقِهِ ، فَلا أعْرِفَنّ ما جاء رَجُلٌ يَحْمِلُ بَعِيرا لَهُ رُغاءٌ ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أوْ شاةً تَثْغُو » . ثم رفع يده فقال : «ألا هَلْ بَلّغْتُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي حميد ، حدثه بمثل هذا الحديث ، قال : «أفَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أبِيكَ وأُمّكَ حتى تَأْتِيَكَ هَدِيّتُكَ ؟ » ثم رفع يده حتى إني لأنظر إلى بياض إبطيه ، ثم قال «اللّهُمّ هَلْ بَلّغْتُ » قال أبو حميد : بصر عيني ، وسمع أذني .
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد اللهبن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث أن موسى بن جبير ، حدّثه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري ، حدّثه أن عبد الله بن أنيس حدّثه : أنه تذاكر هو وعمر يوما الصدقة ، فقال : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة : «مَنْ غَلّ منها بَعِيرا أو شَاةً فإنّه يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ » ؟ قال عبد الله بن أنيس : بلى .
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدّقا ، فقال : «إياكَ يا سَعْدُ أنْ تَجِيء يَوْمَ القِيامَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ لَهُ رُغاء ! » قال : لا آخذه ولا أجيء به فأعفاه .
حدثنا أحمد بن المغيرة الحمصي أبو حميد ، قال : حدثنا الربيع بن روح ، قال : حدثنا ابن عياش ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر بن حفص ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : أنه استعمل سعد بن عبادة ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسلم عليه ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إيّاكَ يا سَعْدُ أنْ تَجِيءَ يَوْمَ القِيامَةِ تَحْمِلُ على عُنُقِكَ بَعِيرا لَهُ رُغاءٌ ! » فقال سعد : فإن فعلتُ يا رسول الله إن ذلك لكائن ؟ قال : «نَعَمْ » ، قال سعد : قد علمت يا رسول الله أني أُسْأَلُ فأُعْطِي ، فأعفني ! فأعفاه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن حبان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الحرث ، قال : ثني جدي عبيد بن أبي عبيد ، وكان أوّل مولود بالمدينة ، قال : استعملت على صدقة دَوْس ، فجاءني أبو هريرة في اليوم الذي خرجت فيه ، فسلم ، فخرجت إليه ، فسلمت عليه ، فقال : كيف أنت والبعير ؟ كيف أنت والبقر ؟ كيف أنت والغنم ؟ ثم قال : سمعت حِبّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أخَذَ بَعِيرا بغَيْرِ حَقّهِ جاءَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ لَهْ رُغاءٌ ، وَمَنْ أخَذَ بَقَرَةً بغَيْرِ حَقّها جاءَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ لَهَا خُوَارٌ ، وَمَنْ أخَذَ شاةً بغَيْرِ حَقّها جاءَ بهَا يَوْمَ القِيامةِ على عُنُقِهِ لَهَا ثُغاءٌ فإيّاكَ والبَقَرَ فإنّها أحَدّ قُرُونا وأشَدّ أظْلافا ! » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : ثني محمد ، عن عبد الرحمن بن الحرث ، عن جده عبيد بن أبي عبيد ، قال : استُعملت على صدقة دوس¹ فلما قضيت العمل قدمت ، فجاءني أبو هريرة فسلم عليّ ، فقال : أخبرني كيف أنت والإبل ؟ ثم ذكر نحو حديثه عن زيد ، إلا أنه قال : «جاء بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ على عُنُقِهِ لَهُ رُغاءٌ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَما كانَ لِنَبِيّ أنْ يَغُلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلّ يَوْمَ القِيامَةِ } قال قتادة : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إذا غنم مغنما ، بعث مناديا : «ألا لا يغلّنّ رجل مخيطا فما دونه ! ألا لا يغلنّ رجل بعيرا فيأتي به على ظَهْرِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ له رُغَاءٌ ! ألا لا يغلنّ رَجُلٌ فَرَسا ، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له حمحمة ! » .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { ثُمّ تُوَفّى كُلّ نَفْسٍ } : ثم تعطى كل نفس جزاء ما كسبت بكسبها وافيا غير منقوص ما استحقه واستوجبه من ذلك : { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } يقول : لا يفعل بهم إلا الذي ينبغي أن يفعل بهم من غير أن يعتدي عليهم ، فينقصوا عما استحقوه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ثُمّ تُوَفّي كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا معتدى عليه .
تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } [ آل عمران : 145 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالاً : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب{[3670]} : [ الطويل ]
جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ . . . جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ
وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغِل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة ، غل يغُل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }{[3671]} { وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }{[3672]} { وما كان لنفس أن تموت }{[3673]} { وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم }{[3674]} { وما كان الله ليطلعكم على الغيب }{[3675]} ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل » بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغَل » بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة - التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية{[3676]} .
قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خشيتم أن نغل{[3677]} ؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً ، { وما كان لنبي أن يغل } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً{[3678]} ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه{[3679]} ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه .
قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة - أحد - لما نزل عليه : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يُغِل » بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل » أن يوجد غالاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارس : معنى «يُغَل » بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ . . . تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ{[3680]}
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون{[3681]} : أي يدخلون في الحيا{[3682]} وقوله تعالى : { ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك{[3683]} ، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة »
وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله{[3684]} ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي{[3685]} وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس{[3686]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدوا الخياط والمخيط »{[3687]} ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :< شراك أو شراكان من نار>{[3688]} ، وقال في مدعم{[3689]} ، < إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً > .
قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام{[3690]} ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحادرة{[3691]} : [ الكامل ]
أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ . . . رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ
وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }{[3692]} .