ثم بين - سبحانه - حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال - تعالى - : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } .
والفاء فى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ . . } للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة .
والمراد ببلوغ أجلهن ، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده ، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها ، لأن الإمساك يكون قبل انقضائها .
فالكلام من باب المجاز ، لمشابهة مقاربة الشىء ، بالحصول فيه ، والتلبس به .
والمراد بالإمساك المراجعة وعدم السير فى طريق مفارقتها .
والمعروف : ما أم به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين ، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق .
والمعنى : لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التى تتعلق بعدة النساء ، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن ، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة ، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة ، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء .
والأمر فى قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } و { فَارِقُوهُنَّ } للإباحة ، و " أو " للتخيير .
والتعبير بالإمساك للإشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة ، ما عدا الاستمتاع بها ، فعليه أن يستمسك بها ، ولا يتسرع فى فراقها ، فهى ما زالت فى عصمته .
وقدم - سبحانه - الإمساك على الفراق ، للإشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية ، وإبقاء للمودة والرحمة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ . . . } ثم قال - سبحانه - : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى : وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لأن الإشهاد يقطع التنازع ، ويدفع الريبة ، وينفى التهمة .
والأمر فى قوله : { وَأَشْهِدُواْ } للندب والاستحباب فى حالتى المراجعة والمفارقة ، فهو كقوله - تعالى - : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وقال الشافعى فى القديم : إنه للوجوب فى الرجعة . وزعم الطبرسى أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق ، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت ، وأنه للوجوب ، وشرط فى صحة الطلاق .
وقوله : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } معطوف على ما قبله ، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة .
والمراد بإقامة الشهادة : أداؤها بالعدل والصدق .
أى : وعليكم - أيها المؤمنون - عند أدائكم للشهادة ، أن تؤدوها بالعدل والأمانة ، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله - تعالى - وامتثالا لأمره .
والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم ، أمر واجب ، لأن الشهادة هنا اسم للجنس ، ولأن الله - تعالى - يقول فى آية أخرى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ . . } والإشارة فى قوله - سبحانه - : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام ، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهى عدتها ، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل .
والوعظ معناه : التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر فى القلوب ، وتهدى النفوس إلى الرشد .
أى : ذلك الذى ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به ، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله - تعالى - وباليوم الآخر إيمانا حقا .
وخص - سبحانه - الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام ، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا .
ثم بشر - سبحانه - عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
والجملة الكريمة اعتراض بين قوله - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } وبين قوله - سبحانه - بعد ذلك : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض } وجىء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته - تعالى - وآدابه ، ولحض الزوجين على مراقبته - سبحانه - وتقواه .
أى : ومن يتق الله - تعالى - فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته . يجعل له - سبحانه - مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها ، ومن شدائد الموت وغمراته ، ومن أهوال الآخرة وعذابها ، ويزرقه الفوز بخير الدارين ، من طرق لا تخطر له على بال ، ولا ترد له على خاطر ، فإن أبواب رزقه - سبحانه - لا يعلمها أحد إلا هو - عز وجل - .
وفى هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن ، حتى يثبت فؤاده ، ويستقيم قلبه ، ويحرص على طاعة الله - تعالى - فى كل أحواله .
قال القرطبى : قال أبو ذر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ، ثم تلا : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .
وعن جابر بن عبد الله قال : نزلت هذه الآية فى عوف بن مالك الأشجعى ، أسر المشركون ابنا له ، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك . فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " اتق الله واصبر ، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " .
فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى وإياك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله . فقالت : نعم ما أمرنا ، فجعلا يقولان ذلك ، فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف ، فنزلت الآية . .
ثم قال - تعالى - : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
ولفظ { حَسْبُ } بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر ، ومعنى { بَالِغُ أَمْرِهِ } بإضافة الوصف إلى مفعوله ، أى : يبلغ ما يريده - سبحانه - ، وقرأ الجمهور { بَالِغُ أَمْرِهِ } بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية ، والمراد بأمره ، شأنه ومراده .
أى : ومن يفوض أمره إلى الله - تعالى - ويتوكل عليه وحده ، فهو - سبحانه - كافيه فى جميع أموره ، لأنه - سبحانه - يبلغ ما يريده ، ولا يفوته مراد ، ولا يعجزه شىء ، ولا يحول دون أمره حائل . . . ومن مظاهر حكمه فى خلقه ، أنه عز وجل - قد جعل لكل شىء تقديرا قبل وجوده ، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقوله - سبحانه - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } وقوله - عز وجل - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } قال بعض العلماء ما ملخصه : ولهذه الجملة ، وهى قوله - تعالى - : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن ، فى ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض . . . فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البيانى الناشىء عما اشتملت عليه جمل : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . . } إلى قوله : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت ، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله ، فيقول : أين أنا من تحصيل هذا الشىء . . . ويتملكه اليأس . . . فيقول الله - تعالى - له : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أى : فلا تيأس أيها الإنسان .
ولها موقع التعليل الجملة { وَأَحْصُواْ العدة } فإن العدة من الأشياء التى تعد ، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
ولها موقع التذبيل لجملة { وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى : الذى وضع تلك الحدود ، قد جعل الله لكل شىء قدرا لا يعدوه ، كما جعل الحدود .
ولها موقع التعليل لجملة : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذى جعله الله لمدة العدة ، فقد حصل المقصد الشرعى ، الذى أشار إليه بقوله - تعالى - : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .
ولها موقع التعليل لجملة : { وَأَقِيمُواْ الشهادة } فإن الله - تعالى - جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع .
ورزقا من حيث لا يقدر ولا ينتظر . وهو تقرير عام ، وحقيقة دائمة . ولكن إلصاقها هنا بأحكام الطلاق يوحي بدقة انطباقها وتحققها عندما يتقي المتقون الله في هذا الشأن بصفة خاصة . وهو الشأن الذي لا ضابط فيه أحس ولا أدق من ضابط الشعور والضمير ، فالتلاعب فيه مجاله واسع ، لا يقف دونه إلا تقوى الله وحساسية الضمير .
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ) . .
فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع ، ومسالكه كثيرة ، وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد ! فهنا إيحاء بترك هذه المحاولة ، والتوكل على الله ، وهو كاف لمن يتوكل عليه . فالله بالغ أمره . فما قدر وقع ، وما شاء كان ؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر ، وقوة القاهر . الفعال لما يريد . البالغ ما يشاء .
والنص عام . والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب ، بالنسبة لإرادة الله وقدره . . ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره .
( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .
فكل شيء مقدر بمقداره ، وبزمانه ، وبمكانه ، وبملابساته ، وبنتائجه وأسبابه . وليس شيء مصادفة ، وليس شيء جزافا . في هذا الكون كله ، وفي نفس الإنسان وحياته . . وهي حقيقة ضخمة يقوم عليها جانب
كبير من التصور الإيماني . [ وقد فصلنا الحديث عنها عند استعراض قوله تعالى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا )في سورة الفرقان . وعند قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . . في سورة القمر ] . ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته ، والعدة ووقتها ، والشهادة وإقامتها . ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة ، والناموس الكلي العام . ويوقع في الحس أن الأمر جد من جد النظام الكوني المقدر في كل خلق الله .
وقوله : وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يقول : ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر ، ولا يعلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وذكر بعضهم أن هذه الاَية نزلت بسبب عوف بن مالك الأشجعيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن صَلْت ، عن قيس ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق عن عبد الله ، في قوله : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : يعلم أنه من عند الله ، وأن الله هو الذي يعطي ويمنع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : المخرج أن يعلم أن الله تبارك وتعالى لو شاء أعطاه وإن شاء منعه ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال : من حيث لا يدري .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، مثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا يقول : نجاته من كلّ كرب في الدنيا والاَخرة ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الربيع بن المنذر ، عن أبيه ، عن الربيع بن خثيم وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من كلّ شيء ضاق على الناس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجا .
حدثني عليّ بن عبد الأعلى المحاربيّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا ومن يتق الله يجعل له من أمره يُسرا ، قال : يعني بالمخرج واليُسر إذا طلق واحدة ثم سكت عنها ، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين ، فذلك اليُسر الذي قال الله ، وإن مضت عدتها ولم يراجعها ، كان خاطبا من الخطاب ، وهذا الذي أمر الله به ، وهكذا طلاق السنة فأما من طلق عند كلّ حيضة فقد أخطأ السنة ، وعصى الربّ ، وأخذ بالعسر .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : يطلق للسّنة ، ويراجع للسّنة زعم أن رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال له عوف الأشجعيّ ، كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، فكان أبوه يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيشكوا إليه مكان ابنه ، وحالته التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرْه بالصبر ويقول له : «إن الله سيجعل له مخرجا » ، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا إذا انفلت ابنه من أيدي العدوّ ، فمرّ بغنم من أغنام العدوّ فاستاقها ، فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنًى قد أصابه من الغنم ، فنزلت هذه الاَية : وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عمار بن أبي معاوية الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : نزلت في رجل من أشجع جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مجهود ، فسأله فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اتّقِ اللّهَ وَاصْبِرْ » ، قال : قد فعلت ، فأتى قومه ، فقالوا : ماذا قال لك ؟ قال : قال : «اتق الله واصبر » ، فقلت : قد فعلت حتى قال ذلك ثلاثا ، فرجع فإذا هو بابنه كان أسيرا في بني فلان مِن العرب ، فجاء معه بأعنز ، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن ابني كان أسيرا في بني فلان ، وإنه جاء بأعنز ، فطابت لنا ؟ قال : «نعم » .
قال : ثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد في قوله وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : نزلت في رجل من أشجع أصابه الجهد ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : «اتّقِ اللّهَ وَاصْبِرْ » ، فرجع فوجد ابنا له كان أسيرا ، قد فكه الله من أيديهم ، وأصاب أعنزا ، فجاء ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هل تطيبُ لي يا رسول الله ؟ قال : «نَعَمْ » .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن المنذر الثوريّ ، عن أبيه ، عن الربيع بن خثيم يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من كلّ شيء ضاق على الناس .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : يعلم أن الله إن شاء منعه ، وإن شاء أعطاه وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يقول : من حيث لا يدري .
قال : ثنا مهران ، عن سعيد بن أبي عَروبة ، عن قتادة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا قال : من شُبُهات الأمور ، والكرب عند الموت وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ : من حيث لا يرجو ولا يؤمل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ لا يأمل ولا يرجو .
وقوله : وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يقول تعالى ذكره : ومن يتق الله في أموره ، ويفوّضها إليه فهو كافيه .
وقوله : إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ منقطع عن قوله وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ . ومعنى ذلك : إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ توكل عليه أو لم يتوكل عليه ، غير أن المتوكل يُكَفّرْ عنه سيئاته ، ويُعْظِم له أجرا .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق بنحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن صلت عن قيس ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال : ليس بمتوكل الذي قد قُضِيت حاجته ، وجعل فضل من توكل عليه على من لم يتوكل أن يكفرَ عنه سيئاته ، ويُعْظمَ له أجرا .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن الشعبيّ ، قال : تجالس شُتير بن شكل ومسروق ، فقال شُتير : إما أن تحدّث ما سمعت من ابن مسعود فأصدّقك ، وإما أن أحدث فتصدّقني ؟ قال مسروق : لا بل حدّث فأصدّقك ، فقال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أكبر آية في القرآن تفوّضا : وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال مسروق : صدقت .
وقوله : قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا يقول تعالى ذكره : قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك حدّا وأجلاً وقدرا يُنتهى إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا قال : أجلاً .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا قال : منتهى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق مثله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا قال : الحيض في الأجل والعدّة .
وقوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، الآيات كلها عظة لجميع الناس ، والحسب : الكافي المرضي ، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّاً على التفويض ، وروي أن رجلاً قال لعمر : ولّني مما ولاك الله ، فقال له عمر : أتقرأ القرآن ؟ قال : لا . قال : فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن . فتعلم الرجل رجاء الولاية ، فلما حفظ كثيراً من القرآن تخلف عن عمر فلقيه يوماً فقال له عمر ما أبطا بك ؟ قال له تعلمت القرآن ، فأغناني الله تعالى عن عمر وعن بابه .
ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة . وقوله تعالى : { إن الله بالغ أمره } بيان وحض على التوكل ، أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق . فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة ، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك ، وأمره في الوجهين نافذ ، وقرأ داود بن أبي هند{[11161]} -ورويت عن أبي عمرو «بالغ أمرُه » برفع الأمر{[11162]} وحذف مفعول تقدير : بالغ أمره ما شاء ، وقرأ جمهور السبعة : «بالغ أمرَه » بنصب الأمر{[11163]} وقرأ حفص والمفضل عن عاصم : «بالغُ أمرِه » على الإضافة وترك التنوين في : «بالغُ » ، ورويت عن أبي عمرو ، والأعمش ، وهي قراءة طلحة بن مصرف ، وقرأ جمهور الناس : «قدْراً » بسكون الدال ، وقرأ بعض القراء : «قدَراً » بفتح الدال وهذا كله حض على التوكل .