جاءت آيات بعدها توضح موقف الكفار من المعجزات ، وإصرارهم على التكذيب ، وتطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم وإمهالهم ليوم يخرجون فيه من الأجداث كأنهم جراد منتشر .
وتتابعت الآيات بعد ذلك ، تعرض أطرافا من أحوال الأمم السابقة مع رسلهم ، والعذاب الذي حاق بهم ، وبين كل قصة وأخرى تنبه الأذهان إلى أن القرآن الكريم ميسر لمن يطلب العظة والاعتبار .
منتهية إلى بيان أن كفار مكة ليسوا أقوى ولا أشد من الأمم السابقة ، وأنه ليس لهم أمان من العذاب ، ثم ختمت السورة بتهديد المكذبين المعاندين بمصائرهم يوم يسبحون في النار على وجوههم ، ويقال لهم : ذوقوا مس جهنم التي كنتم بها تكذبون ، وتطمئن المتقين إلى منازلهم في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
1- سورة القمر : هي السورة الرابعة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الطلاق ، وقبل سورة " ص " .
ويبلغ عدد السور التي نزلت قبلها ، سبعا وثلاثين سورة .
ويبلغ على الظن أن نزولها كان في السنوات الأولى من بعثته صلى الله عليه وسلم .
قال بعض العلماء : وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة . ففي الصحيح أن عائشة –رضي الله عنها- قالت : أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وإني لجارية ألعب ، قوله –تعالى- : [ بل الساعة موعدهم ، والساعة أدهى وأمر ]( {[1]} ) .
2- وتسمى هذه السورة بسورة القمر ، وبسورة اقتربت الساعة ، وتسمى بسورة اقتربت ، حكاية لأول كلمة افتتحت بها .
روى الإمام مسلم وأهل السنن عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسورتي " ق " و " اقتربت الساعة " .
وعدد آياتها : خمس وخمسون آية وهي من السور المكية الخالصة –على الرأي الصحيح- ، وقيل : هي مكية إلا ثلاث آيات منها ، وهي قوله –تعالى- : [ أم يقولون نحن جميع منتصر . سيهزم الجمع ويولون الدبر . بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ] فإنها نزلت يوم بدر ، وهذا القيل لا دليل له يعتمد عليه .
ويرده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : أنزل الله –تعالى- على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله أي جمع يهزم ؟ فلما كان يوم بدر ، وانهزمت قريش ، نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف ، وهو يقول : [ سيهزم الجمع ويولون الدبر ] فكانت ليوم بدر .
وبذلك نرى أن هذا الحديث ، وحديث عائشة السابق ، يدلان على أن هذه الآيات مكية –أيضا- ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قرأها في غزوة بدر على سبيل الاستشهاد بها .
3- والسورة الكريمة قد تحدثت في مطلعها عن اقتراب يوم القيامة ، وعن جحود المشركين للحق بعد إذ جاءهم ، وعما سيكونون عليه يوم القيامة من ندم وحسرة . قال –تعالى- [ اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ] .
4- ثم تحدثت السورة الكريمة عن مصارع الغابرين ، فذكرت ما حل من هلاك ودمار ، بقوم نوح ، وهود ، ولوط –عليهم السلام- وما حل أيضا بفرعون وملئه من عقاب .
ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ، ببيان مظاهر قدرته ، وبليغ حكمته ، ودقة نظامه في كونه ، وبشر المتقين بما يشرح صدورهم فقال –تعالى- : [ إنا كل شيء خلقناه بقدر . وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر . ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر . وكل شيء فعلوه في الزبر . وكل صغير وكبير مستطر . إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر ] .
5- والمتدبر في السورة الكريمة يراها قد اهتمت بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن تعنت المشركين وعنادهم ، وعن سنن الله –تعالى- في خلقه ، التي من أبرز مظاهرها ، نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
افتتحت السورة الكريمة بهذا الافتتاح الذى يبعث فى النفوس الرهبة والخشية ، فهو يخبر عن قرب انقضاء الدنيا وزوالها .
إذ قوله - تعالى - : { اقتربت الساعة } أى : قرب وقت حلول الساعة ، ودنا زمان قيامها .
والساعة فى الأصل : اسم لمدار قليل من الزمان غير معين ، وتحديدها بزمن معين اصطلاح عرفى ، وتطلق فى عرف الشرع على يوم القيامة .
وأطلق على يوم القيامة يوم الساعة ، لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله - تعالى - .
وقد وردت أحاديث كثيرة ، تصرح بأن ما مضى من الدنيا كثير بالنسبة لما بقى منها ، ومن هذه الأحاديث ما رواه البزار عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خطب أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب . . فقال : " والذي نفسى بيده ما بقى من الدنيا فيما مضى منها ، إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه " " .
وروى الشيخان عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
وشبيه بهذا الافتتاح قوله - تعالى - : فى مطلع سورة الأنبياء : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } وقوله - سبحانه - فى افتتاح سورة النحل : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } والمقصود من هذا الافتتاح المتحدث عن قرب يوم القيامة ، تذكير الناس بأهوال هذا اليوم ، وحضهم على حسن الاستعداد لاستقباله عن طريق الإيمان والعمل الصالح .
وقوله - تعالى - : { وانشق القمر } معطوف على ما قبله عطف جملة على جملة .
وقوله : { وانشق } من الانشقاق بمعنى الافتراق والانفصال .
أى : اقترب وقت قيام الساعة ، وانفصل وانفلق القمر بعضه عن بعض فلقتين ، معجزة للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ذلك بمكة قبل هجرته - صلى الله عليه وسلم - بنحو خمس سنين ، وقد رأى هذا الانشقاق كثير من الناس .
وقد ذكر المفسرون كثيرا من الأحاديث فى هذا الشأن ، وقد بلغت الأحاديث مبلغ التواتر المعنوى .
قال الإمام ابن كثير : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء - أى : انشقاق القمر- ، فقد وقع فى زمان النبى - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات .
ثم ذكر - رحمه الله - جملة من الأحاديث التى وردت فى ذلك ، ومنها ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال : سأل أهل مكة النبى - صلى الله عليه وسلم - آية ، فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } .
وأخرج الإمام أحمد عن جبير بن مطعم عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار فلقتين : فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل .
فقالوا : سحرنا محمد ، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم .
وروى الشيخان عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين ، حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اشهدوا " .
وقال الآلوسى : بعد أن ذكر عددا من الأحاديث فى هذا الشأن : والأحاديث الصحيحة فى الانشقاق كثيرة ، واختلف فى تواتره ، فقيل : هو غير متواتر : وفى شرح المواقف أنه متواتر . وهو الذى اختاره العلامة السبكى ، فقد قال : الصحيح عندى أن انشقاق القمر متواتر ، منصوص عليه فى القرآن ، مروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق شتى ، لا يمترى فى تواتره .
وقد جاءت أحاديثه فى روايات صحيحة ، عن جماعة من الصحابة ، منهم عل بن أبى طالب ، وأنس ، وابن مسعود . .
ثم قال - رحمه الله - بعد أن ذكر شبهات المنكرين لحادث الانشقاق : والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ، ولا يستطيع أن يأتى بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق ، والاستبعاد فى مثل هذه المقامات قريب من الجنون . عند من له عقل سليم .
سورة القمر مكية وآياتها خمس وخمسون
هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب المكذبين بالنذر ، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة . وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة ، كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب للمكذبين ، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزه ويقول له : ( فكيف كان عذابي ونذر ? ) . . ثم يرسله بعد الضغط والهز ويقول له : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ? ) .
ومحتويات السورة الموضوعية واردة في سور مكية شتى . فهي مشهد من مشاهد القيامة في المطلع ، ومشهد من هذه المشاهد في الختام . وبينهما عرض سريع لمصارع قوم نوح . وعاد وثمود . وقوم لوط . وفرعون وملئه . وكلها موضوعات تزخر بها السور المكية في صور شتى . .
ولكن هذه الموضوعات ذاتها تعرض في هذه السورة عرضا خاصا ، يحيلها جديدة كل الجدة . فهي تعرض عنيفة عاصفة ، وحاسمة قاصمة ؛ يفيض منها الهول ، ويتناثر حولها الرعب ، ويظللها الدمار والفزع والانبهار !
وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلا منها يمثل حلقة عذاب رهيبة سريعة لاهثة مكروبة . يشهدها المكذبون ، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها ، ويحسون إيقاعات سياطها . فإذا انتهت الحلقة وبدأوا يستردون أنفاسهم اللاهثة المكروبة عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولا ورعبا . . وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبعة في هذا الجو المفزع الخانق . فيطل المشهد الأخير في السورة . وإذا هو جو آخر ، ذو ظلال أخرى . وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة . إنه مشهد المتقين : ( إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . . في وسط ذلك الهول الراجف ، والفزع المزلزل ، والعذاب المهين للمكذبين : ( يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ) . .
فأين وأين ? مشهد من مشهد ? ومقام من مقام ? وقوم من قوم ? ومصير من مصير ?
اقتربت الساعة وانشق القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر . ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر . فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر . خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر . مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون : هذا يوم عسر . .
مطلع باهر مثير ، على حادث كوني كبير ، وإرهاص بحادث أكبر . لا يقاس إليه ذلك الحدث الكوني الكبير :
( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . .
فيا له من إرهاص ! ويا له من خبر . ولقد رأوا الحدث الأول فلم يبق إلا أن ينتظروا الحدث الأكبر .
والروايات عن انشقاق القمر ورؤية العرب له في حالة انشقاقه أخبار متواترة . تتفق كلها في إثبات وقوع الحادث ، وتختلف في رواية هيئته تفصيلا وإجمالا :
من رواية أنس بن مالك - رضي الله عنه - . . قال الإمام أحمد : حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ابن مالك قال : سأل أهل مكة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية . فانشق القمر بمكة مرتين فقال : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) . . وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبدالوهاب . حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك . أن أهل مكة سألوا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يريهم آية . فأراهم القمر شقين حتى رأو حراء بينهما . وأخرجه الشيخان من طرق أخرى عن قتادة عن أنس . .
ومن رواية جبير بن مطعم - رضي الله عنه - . . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان ابن كثير ، عن حصين بن عبدالرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فصار فلقتين . فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد ، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . . تفرد به أحمد من هذا الوجه . . وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير ، عن حصين بن عبدالرحمن . . ورواه ابن جرير والبيهقي من طرق أخرى عن جبير بن مطعم كذلك . .
ومن رواية عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - . . قال البخاري : حدثنا يحيى بن كثير ، حدثنا بكر ، عن جعفر ، عن عراك بن مالك ، عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، قال : انشق القمر في زمان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] . . ورواه البخاري أيضا ومسلم من طريق آخر عن عراك بسنده السابق إلى ابن عباس . . وروى ابن جرير من طريق أخرى إلى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة ، انشق القمر حتى رأوا شقيه . . وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا . . وقال الطبراني بسند آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا : سحر القمر ، فنزلت : ( اقتربت الساعة وانشق القمر )- إلى قوله : ( مستمر ) .
ومن رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، قالا : حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : ( اقتربت الساعة وانشق القمر )قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انشق فلقتين فلقة من دون الجبل وفلقة خلف الجبل . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " اللهم اشهد " . . وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد . .
ومن رواية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] شقتين حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " اشهدوا " . وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة . وأخرجاه كذلك من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة ، عن ابن مسعود . وقال البخاري : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة . قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم من السفار ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال : فجاء السفار فقالوا ذلك . . وروى البيهقي من طريق أخرى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ، بما يقرب من هذا .
فهذه روايات متواترة من طرق شتى عن وقوع هذا الحادث ، وتحديد مكانه في مكة - باستثناء رواية لم نذكرها عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه كان في منى - وتحديد زمانه في عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قبل الهجرة . وتحديد هيئته - في معظم الروايات أنه انشق فلقتين ، وفي رواية واحدة أنه كسف " أي خسف " . . فالحادث ثابت من هذه الروايات المتواترة المحددة للمكان والزمان والهيئة .
وهو حادث واجه به القرآن المشركين في حينه ؛ ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه ؛ فلا بد أن يكون قد وقع فعلا بصورة يتعذر معها التكذيب ، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات ، لو وجدوا منفذا للتكذيب . وكل ما روي عنهم أنهم قالوا : سحرنا ! ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر ، فعرفوا أنه ليس بسحر ؛ فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به حين سئلوا عنه .
بقيت لنا كلمة في الرواية التي تقول : إن المشركين سألوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] آية . فانشق القمر . فإن هذه الرواية تصطدم مع مفهوم نص قرآني مدلوله أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يرسل بخوارق من نوع الخوارق التي جاءت مع الرسل قبله ، لسبب معين : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . فمفهوم هذه الآية أن حكمة الله اقتضت منع الآيات - أي الخوارق - لما كان من تكذيب الأولين بها .
وفي كل مناسبة طلب المشركون آية من الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] كان الرد يفيد أن هذا الأمر خارج عن حدود وظيفته ، وأنه ليس إلا بشرا رسولا . وكان يردهم إلى القرآن يتحداهم به بوصفه معجزة هذا الدين الوحيدة : ( قل : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? ) .
فالقول بأن انشقاق القمر كان استجابة لطلب المشركين آية - أي خارقة - يبدو بعيدا عن مفهوم النصوص القرآنية ؛ وعن اتجاه هذه الرسالة الأخيرة إلى مخاطبة القلب البشري بالقرآن وحده ، وما فيه من إعجاز ظاهر ؛ ثم توجيه هذا القلب - عن طريق القرآن - إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق ، وفي أحداث التاريخ سواء . . فأما ما وقع فعلا للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من خوارق شهدت بها روايات صحيحة فكان إكراما من الله لعبده ، لا دليلا لإثبات رسالته . .
ومن ثم نثبت الحادث - حادث انشقاق القمر - بالنص القرآني وبالروايات المتواترة التي تحدد مكان الحادث وزمانه وهيئته . ونتوقف في تعليله الذي ذكرته بعض الروايات . ونكتفي بإشارة القرآن إليه مع الإشارة إلى اقتراب الساعة . باعتبار هذه الإشارة لمسة للقلب البشري ليستيقظ ويستجيب . .
وانشقاق القمر إذن كان آية كونية يوجه القرآن القلوب والأنظار إليها ، كما يوجهها دائما إلى الآيات الكونية الأخرى ؛ ويعجب من أمرهم وموقفهم إزاءها ، كما يعجب من مواقفهم تجاه آيات الله الكونية الأخرى .
إن الخوارق الحسية قد تدهش القلب البشري في طفولته ، قبل أن يتهيأ لإدراك الآيات الكونية القائمة الدائمة ، والتأثر بإيقاعها الثابت الهادئ . وكل الخوارق التي ظهرت على أيدي الرسل - صلوات الله عليهم - قبل أن تبلغ البشرية الرشد والنضوج يوجد في الكون ما هو أكبر منها وأضخم ، وإن كان لا يستثير الحس البدائي كما تستثيره تلك الخوارق !
ولنفرض أن انشقاق القمر جاء آية خارقة . . فإن القمر في ذاته آية أكبر ! هذا الكوكب بحجمه ، ووضعه ، وشكله ، وطبيعته ، ومنازله ، ودورته ، وآثاره في حياة الأرض ، وقيامه هكذا في الفضاء بغير عمد . هذه هي الآية الكبرى القائمة الدائمة حيال الأبصار وحيال القلوب ، توقع إيقاعها وتلقي ظلالها ، وتقوم أمام الحس شاهدا على القدرة المبدعة التي يصعب إنكارها إلا عنادا أو مراء !
وقد جاء القرآن ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله ؛ وما فيه من آيات الله القائمة الثابتة ؛ ويصله بهذا الكون وآيات الله فيه في كل لحظة ؛ لا مرة عارضة في زمان محدود ، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود .
إن الكون كله هو مجال النظر والتأمل في آيات الله التي لا تنفد ، ولا تذهب ، ولا تغيب . وهو بجملته آية . وكل صغيرة فيه وكبيرة آية . والقلب البشري مدعو في كل لحظة لمشاهدة الخوارق القائمة الدائمة ، والاستماع إلى شهادتها الفاصلة الحاسمة ؛ والاستمتاع كذلك بعجائب الإبداع الممتعة ، التي يلتقي فيها الجمال بالكمال ، والتي تستجيش انفعال الدهش والحيرة مع وجدان الإيمان والاقتناع الهادئ العميق .
وفي مطلع هذه السورة تجيء تلك الإشارة إلى اقتراب الساعة وانشقاق القمر إيقاعا يهز القلب البشري هزا . وهو يتوقع الساعة التي اقتربت ، ويتأمل الآية التي وقعت ، ويتصور أحداث الساعة في ظل هذا الحدث الكوني الذي رآه المخاطبون بهذا الإيقاع المثير .
وفي موضوع اقتراب الساعة روى الإمام أحمد . قال : حدثنا حسين ، حدثنا محمد بن مطوف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول : " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
ومع اقتراب الموعد المرهوب ، ووقوع الحادث الكوني المثير ، وقيام الآيات التي يرونها في صور شتى . . فإن تلك القلوب كانت تلج في العناد ، وتصر على الضلال ، ولا تتأثر بالوعيد كما لا تتأثر بإيقاع الآيات الكثيرة الكافية للعظة والكف عن التكذيب :
( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر . وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر . ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر . حكمة بالغة فما تغني النذر ) .
ولقد أعرضوا وقالوا : سحرنا ، وهم يرون آية الله في انشقاق القمر . وكان هذا رأيهم مع آية القرآن . فقالوا : سحر يؤثر . فهذا قولهم كلما رأوا آية . ولما كانت الآيات متوالية متواصلة ، فقد قالوا : إنه سحر مستمر لا ينقطع ، معرضين عن تدبر طبيعة الآيات وحقيقتها ، معرضين كذلك عن دلالتها وشهادتها .