وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين في الآيات السابقة ، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم ، وشدة حيرتهم واضطرابهم . فقال تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . . }
قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ } أي : صفتهم ، وأصل المثل بمعنى المثل - بكسر الميم وسكون الثاء - والمثل النظير والشبيه ، ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب فيه - لمورده الذي ورد فيه أولا ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شان عجيب وفيها غرابة ، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية ، وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفي وتقريب المعقول من المحسوس ، وعرض الغائب في صورة الشاهد ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس .
واستوقد النار : طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبا ، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب .
والنار : جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها ، وأضاءت ما حوله ، جعلت ما حوله مضئياً ، أو أشرقت فيما حوله . وحول الشيء : ما يحيط به من جميع نواحيه ، ولذا قيل للعام حول ، للفه ودورانه حتى يعود كما كان .
والنور : الضوء الذي يكون للشيء المضيء ، وهو مأخوذ من النار .
ومعنى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } سلبه منهم ، وفي إسناد ذهب إلى الله تعالى - إشعار بأن النور الذي سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم ، لأن الذي سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره .
وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم ، لأن إيقاد النار يكون للإِضاءة وللإِحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة في المثل إنما هو الإِضاءة .
وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنوره ، مع أن الضمير يعود { الذي استوقد } وهو بحسب الظاهر مفرد ، لأن { الذي } قد يطلق أحيانا قد يطلق بمعنى الذين ، كما في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } أو لأن { الذي } أريد منه جنس المستوقد ، لا مستوقد بعينه ، فصار في معنى جماعة من المستوقدين . وصح أن يعود عليه ضمير الجمع في قوله { بِنُورِهِمْ } لذلك .
وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة في شدتها ، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض ، وأكد هذا بقوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } أي : أن هذه الظلمات بالغة في الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا ، كما أن الشان كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم .
وعبر - سبحانه - بقوله : { وَتَرَكَهُمْ } ولم يقل : ذهب بنورهم وبقوا في ظلمات ، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم ، وأنهم متروكون غضباً عليهم ونكاية بهم .
هذا ، وللعلماء رأيان في تطبيق هذا المثل على المنافقين ، أما الرأي الأول فيرى أصحابه ، أن هذا المثل قد ضرب في قوم دخلوا في الإِسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً ، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم ، ووقعوا في حيرة عظيمة ، كقصة من استوقدوا ناراً ؛ فلما أضاءت ما حولهم ، سلب الله منهم الضوء فراحوا في ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا .
وأما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن هذا المثل إنما ضرب في قوم لم يسبق لهم إيمان وإنما دخلوا في الإسلام من أول أمرهم نفاقاً ، فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء الذين دخلوا في الإِسلام نفاقاً ، فظفروا بحقن دمائهم وبغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، وتمتعوا بذلك في الدنيا قليلا ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم في الآخرة - قصة هؤلاء كقصة من استوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها ، فأضاءت ما حولهم قليلا ، ثم طفئت وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة .
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ }
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقد علمت أن الهاء والميم من قوله : مَثَلُهُمْ كناية جماعة من الرجال أو الرجال والنساء . «والذي » دلالة على واحد من الذكور ؟ فكيف جعل الخبر عن واحد مثلاً لجماعة ؟ وهلاّ قيل : مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا وإن جاز عندك أن تمثل الجماعة بالواحد فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم أن يقول : كأن هؤلاء ، أو كأن أجسام هؤلاء ، نخلة .
قيل : أما في الموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلاً فجائز حسن ، وفي نظائره كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك : تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ يعني كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت ، وكقوله : ما خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ بمعنى إلا كبعث نفس واحدة .
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال في طول وتمام الخلق بالواحدة من النخيل ، فغير جائز ولا في نظائره لفرق بينهما .
فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد ، فإنما جاز لأن المراد من الخبر عن مثل المنافقين الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة ، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر . والاستضاءةُ وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد لا معان مختلفة . فالمثل لها في معنى المَثَل للشخص الواحد من الأشياء المختلفة الأشخاص . وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقادا ، كمثل استضاءة الموقد نارا . ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف المثل إليهم ، كما قال نابغة بني جعدة :
وكَيْفَ تُواصِلُ مَن أصْبَحَتْ خِلالَتُهُ كأبي مَرْحَبِ
يريد كخلالة أبي مرحب ، فأسقط «خلالة » ، إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه . فكذلك القول في قوله : مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة المثل إلى أهله . والمقصود بالمثل ما ذكرنا ، فلما وصفنا جاز وحسن قوله : مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد ، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى . وأما إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم أو أعيان ذوي الصور والأجسام بشيء ، فالصواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة والواحد بالواحد ، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الاَخرين . ولذلك من المعنى افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء ، فجاز تشبيه أفعال الجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بمعنى واحد بفعل الواحد ، ثم حذف أسماء الأفعال ، وإضافة المثل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل ، فيقال : ما أفعالكم إلا كفعل الكلب ، ثم يحذف فيقال : ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب ، وأنت تعني : إلا كفعل الكلب وإلا كفعل الكلاب . ولم يجز أن تقول : ما هم إلا نخلة ، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطول والتمام . وأما قوله : اسْتَوْقَدَ نارا فإنه في تأويل أوقد ، كما قال الشاعر :
وَدَاعٍ دَعَايا مَنْ يُجِيبُ إلى النّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
يريد : فلم يجبه . فكان معنى الكلام إن مثل استضاءة هؤلاء المنافقين في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم من قولهم : آمنا بالله وباليوم الاَخر وصدقنا بمحمد ، وبما جاء به ، وهم للكفر مستبطنون فيما الله فاعل بهم ، مثل استضاءة موقد نار بناره حتى أضاءت له النار ما حوله ، يعني ما حول المستوقد .
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن «الذي » في قوله : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا بمعنى «الذين » كما قال جل ثناؤه : وَالّذِي جاءَ بالصّدْقِ وصَدّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتّقُونَ . وكما قال الشاعر :
فَإنّ الّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ *** هُمْ الْقَوْمُ كُلّ الْقَوْمِ يَا أمّ خَالِدِ
قال أبو جعفر : والقول الأول هو القول لما وصفنا من العلة ، وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بين الذي في الاَيتين وفي البيت ، لأن «الذي » في قوله : وَالّذِي جاءَ بِالصّدقِ قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع ، وهو قوله : أولَئِكَ هُمُ المُتّقُونَ وكذلك الذي في البيت ، وهو قوله : دماؤهم . وليست هذه الدلالة في قوله : كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا . فذلك فرق ما بين «الذي » في قوله : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى «الذي » في قوله : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا بمعنى الجماعة ، وغير جائز لأحد نقل الكلمة التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فروي عن ابن عباس فيه أقوال أحدها ما :
حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ضرب الله للمنافقين مثلاً فقال : مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه ، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق . والاَخر ما :
حدثنا به المثنى به إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا إلى آخر الآية . هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات ، يقول في عذاب . والثالث ما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : مَثَلُهُمْ كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ : زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مَقْدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام ، والخير من الشرّ . فبينا هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر . وأما النور فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وكانت الظلمة نفاقهم . والاَخر ما :
حدثني به محمد بن سعيد ، قال : حدثني أبي سعيد بن محمد ، قال : حدثني عمي عن أبيه عن جده عن ابن عباس قوله : مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا إلى : فَهُمُ لاَ يَرْجِعُونَ ضربه الله مثلاً للمنافق ، وقوله : ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به . وأما الظلمة : فهي ضلالتهم وكفرهم ، يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك . وقال آخرون بما .
حدثني به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلّمَا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ وإن المنافق تكلم بلا إلَه إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازى بها المسلمين ووارث بها المسلمين وحقن بها دمه وماله . فلما كان عند الموت سُلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في علمه .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ هي لا إلَه إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني أبو نميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم قوله : كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمات ، فهي ضلالتهم وكفرهم .
حدثني به محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : مَثَلَهُمُ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ قال : أما إضاءة النار : فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم : إقبالهم إلى الكافرين والضلالة .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ : أما إضاءة النار : فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم : إقبالهم إلى الكافرين والضلالة .
حدثني القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ضرب مثل أهل النفاق فقال : مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا قال : إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، كذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا إلى آخر الآية . قال : هذه صفة المنافقين ، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا ، فذهب الله بنورهم ، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار ، فتركهم في ظلمات لا يبصرون .
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة والضحاك ، وما رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس . وذلك أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين الذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله : مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَا باللّهِ وبَاليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرك .
ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا على ما ظنّ المتأول قول الله جل ثناؤه : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَمّا أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهْ بنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتِ لا يُبْصِرُونَ أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة ، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة لم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق ، وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبدلك قولاً ولا فعلاً إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها ، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها ؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ومن الخداع بريء ، فإن كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان : حال إيمان ظاهر ، وحال كفر ظاهر ، فقد سقط عن القوم اسم النفاق لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين ، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين ، ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين . وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ما ينبىء عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم أن القوم كانوا مؤمنين ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه إلى الكفر الذي هو نفاق ، وذلك قول إن قاله لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أو ببعض المعاني الموجبة صحته . فأما في ظاهر الكتاب ، فلا دلالة على صحته لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه . فإذا كان الأمر على ما وصفنا في ذلك ، فأولى تأويلات الآية بالآية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به ، وقولهم له وللمؤمنين : آمَنا باللّهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ ، حتى حُكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين في حقن الدماء والأموال والأمن على الذرية من السباء ، وفي المناكحة والموارثة كمثل استضاءة الموقد النار بالنار ، حتى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة ، خمدت النار وانطفأت ، فذهب نوره ، وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة . وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه ، تُخيّل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزىء مخادع ، حتى سوّلت له نفسه ، إذ ورد على ربه في الاَخرة ، أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق . أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم عليه : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنّهُمْ على شَيْءٍ ألاَ إِنّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ } ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الاَخرة في مثل الذي كان به نجاتهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا من الكذب والإفك ، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا . حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال ، واستهزاء بأنفسهم وخداع ، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم ، فقيل لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا واصلوا سعيرا . فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له ، فبقي في ظلمته حيران تائها يقول الله جل ثناؤه : يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ يُنادونَهُمْ ألَم نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ وَتَرَبّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرّتْكُمُ الأمانِيّ حتى جاءَ أمْرُ اللّهِ وَغَرَكُمْ باللّهِ الغَرُورُ فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ منْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مأْوَاكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ المَصِير .
فإن قال لنا قائل : إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره : كمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نارا فَلَما أضَاءَتْ ما حَوْلَهُ : خمدت وانطفأت ، وليس ذلك بموجود في القرآن ، فما دلالتك على أن ذلك معناه ؟ قيل : قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :
عَصَيْتُ إلَيْهَا القَلْبَ إني لأمْرِها *** سَمِيعٌ فَمَا أدْرِي أَرُشْدٌ طِلاُبِها
يعني بذلك : فما أدري أرشد طلابها أم غيّ ، فحذف ذكر «أم غيّ » ، إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها . وكما قال ذو الرمة في نعت حمير :
فَلَمّا لَبِسْنَ اللّيْلَ أوْ حِينَ نَصّبَت *** لَهُ مِنْ خَذَا آذَانها وَهْوَ جانِحُ
يعني : أو حين أقبل الليل . في نظائر لذلك كثيرة كرهنا إطالة الكتاب بذكرها . فكذلك قوله : كمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ لما كان فيه وفيما بعده من قوله : ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ دلالة على المتروك كافية من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز . وكذلك حذف ما حذف واختصر ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده ، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النار لأن معنى الكلام : فكذلك المنافقون ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون ، كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد بانطفاء ناره وخمودها فبقي في ظلمة لا يبصر ، والهاء والميم في قوله : ذَهَبَ الله بنُورِهمْ عائدة على الهاء والميم في قوله : مَثَلُهُمْ .
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } .
أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة ، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة ، وهذه طريقة تشبيه التمثيل ، إلحاقاً لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة ، لأن النفس إلى المحسوس أميل .
وإتماماً للبيان بجمع المتفرقات في السمع ، المطالة في اللفظ ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعاً من نفوس السامعين .
وتقريراً لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفاً لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها . قال في « الكشاف » : « ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المِثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد » .
واستدلالاً على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة ، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه .
وتقريباً لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه ، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به . قال في « الكشاف » : « ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسول صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ا هـ .
والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم . وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل . فجملة : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة ، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف ، والحالة التي وقع تمثيلها سيجىء بيانها في آخر تفسير الآية .
وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه ، ويقال أيضاً مثل بكسر الميم وسكون الثاء ، ويقال : مثيل كما يقال : شَبَه وشبْهٌ وشبيه ، وبدَل وبِدْل ، وبديل ، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فَعَل وفِعْل وفَعِيل بمعنى واحد .
وقد اختص لفظ المَثَل ( بفتحتين ) بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا ، أم لم تشبه كما في قوله تعالى : { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ] .
وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه ، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعاً لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعاً لذكره فيسمى مثلاً ، وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريباً .
فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة ، وأنهم لا يكادون يضربون مثلاً ولا يرونه أهلاً للتسيير وجديراً بالتداول إلا قولاً فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى ، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة{[86]} أي العزة مثل قولهم : « الصيف ضيعتِ اللبن » وقولهم : « لا يطاع لقصير أمر » وستعرف وجه ذلك .
ولما شاع إطلاق لفظ المثل ( بالتحريك ) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معاً أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالاً مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى : { إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه } [ الرعد : 14 ] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالباً نحو الآية هنا ، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } [ يونس : 24 ] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسياً من أصل وضعه ومستعملاً في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى : { كمثل } دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في « شرح الحاجبية » ، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى : { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] وقوفاً مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى : { أو كصيب } ولم يستغن عن الكاف .
ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجىء في أربعة أقسام :
الأول : ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا .
الثاني : ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم : إني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى .
الثالث : تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة بهيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه ، وقد كنت أعد مثالاً لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبىء بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة ، وموجب شهرتها سيأتي . ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة ، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم : « اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة » فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبيء صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصداً من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيهاً بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على الشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبيء تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي :
وقُلْ لمن لامَ في التصابي *** خَلِّ قليلاً عن الطريق
فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض : خل عن الطريق .
رابعها : تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندي :
ذكرتكِ والخطيُّ يخطُر بيننا *** وقد نَهِلت منى المُثَقّفَةُ السُّمْر
فأثبت النهل للرماح تشبيهاً لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولاً ثم أتى بنَهلتْ على وجه التبعية ، ومن هذا القسم عند التفتزاني الاستعارة في { على } من قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وقد تقدم الكلام عليه هناك .
فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بمورده ، وهو الذي وعدت بذكره آنفاً فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكِّر السامع بتلك الحالة ، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذِكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزاً إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها ، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزاً للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب « الكشاف » وصاحب « المفتاح » إذ جعل صاحب « الكشاف » سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال : « ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أهلاً للتسيير ، ولا جديراً بالتداول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير » فتردد شراحه في مراده من الغرابة ، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث : رب رمية من غير رام ، أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] إذ جعل القتل حياة .
وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر : « أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب »{[87]} أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من غير رام . أو فيه مشاكلة نحو : « كما تدين تدان » . أراد كما تفعل تجازى . وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولاً بديعاً خاصياً إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن . وأما صاحب « المفتاح » فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال : ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير ا هـ . وإلى طريقته مال التفتزاني والسيد . وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه . ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيراً وتأنيثاً وغيرهما . فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق : « قول شبه مضربه بمورده » أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضرباً لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى : { أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها ، سميت مورداً لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون ، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد .
و { الذي استوقد ناراً } مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين ، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه ، بحال من استوقد ناراً .
واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في « الحماسة » :
نَسْتَوْقِد النبل بالحَضيض ونَصْ *** طَادُ نُفوسا بُنَتْ علَى الكرم
أراد وقوداً يقع عند الرمي بشدة . وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد وقوله :
{ فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } .
مفرع على { استوقد } . و { لما } حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن .
مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حُمَّ ، والمسبب على السبب ، { ولما جاءت رسلنا لوطاً شيء بهم وضاق بهم ذرعاً } [ هود : 77 ] ، وقولُ عمرو بن معد يكرب :
لما رأيتُ نساءنـا *** يفحصن بالمعزاء شدا
نازَلْتُ كبشهم ولم *** أر من نزال الكبش بدا
ومثال المقارن المهيأ قول امرىء القيس :
فلما أَجزْنا ساحة الحي وانتحى *** بنا بطن خَبت ذي حقاف عقنقل
هَصَرْتُ بفوْدَيْ رأسها فتمايلت *** عليّ هضيم الكشح ريَّا المخلخَل
ومثال المقارن الحاصل اتفاقاً { ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا . . . } [ العنكبوت : 31 ] وقوله : { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } [ يوسف : 69 ] فمن ظن أن لمّا تؤذن بالسببية اغتراراً بقولهم وجود لوجود حملاً لِلاَّم في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططاً ولم يجد من كلام الأئمة فرطاً .
و { أضاء } يجىء متعدياً وهو الأصل لأن مجرده ضَاء فتكون حينئذٍ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم *** دُجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه
ويجىء قاصراً بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرىء القيس يصف البرق :
يُضِىء سنَاه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل
والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها ، فيكون ما حوله موصولاً مفعولاً لأضاءت وهو المتبادر ، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها ، ويكون ما حوله على هذا ظرفاً للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها .
و { حوله } ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن { ما حوله } يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصاً إلا بعناء .
وجمع الضمير في قوله : { بنورهم } مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله : { ما حوله } مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها ؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم ، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى { الذي } ، قريباً من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن *** مظاهرُ سِمطَيْ لؤلؤ وزبرجد
وهذا رجوع بديع ، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي : { والله محيط بالكافرين } [ البقرة : 19 ] وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعاً واحداً في المشبه والمشبه به ، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه . وهذا يقتضي أن تكون جملة { ذهب الله بنورهم } جواب { لمّا } فيكون جمع ضمائر بنورهم وتركهم إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه ، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضاً عن النار المبتدأ به ، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين ، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز . وقريب منه قوله تعالى : { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } [ الزخرف : 22 24 ] فقوله : { أرسلتم } حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله : { أوَلو جئتكم } وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقاً لما في الآية بعدها من قوله تعالى : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه . وجوز صاحب « الكشاف » أن يكون قوله : { ذهب الله بنورهم } استئنافاً ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى { فلما أضاءت ما حوله } ويكون جواب { لما } محذوفاً دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف .
ومعنى { ذهب الله بنورهم } : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد ، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفىء ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله : { ويمدهم في طغيانهم } [ البقرة : 15 ] .
و { ذهب } المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله : { فلما ذهبوا به } [ يوسف : 15 ] وأذهبه جعله ذاهباً بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهاباً لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيداً معنى أذهبه ، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله : { يأتي بالشمس من المشرق } [ البقرة : 258 ] وقوله : { وجاء بكم من البدو } [ يوسف : 100 ] ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون : ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه ، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه . وضمير المفرد في قوله { وما حوله } مراعاة للحال المشبهة .
واختيار لفظ النور في قوله : { ذهب الله بنورهم } دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب ؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة ، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله : { بنورهم }
{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } .
هذه الجملة تتضمن تقريراً لمضمون { ذهب الله بنورهم } لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر ، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله { ذهب الله بنورهم } يفيد أنهم لما استوقدوا ناراً فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك : { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } تذكيراً بذلك وتنبيهاً إليه ، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة :
ندامَايَ بيضٌ كالنجوم وقَينة *** تَرُوح إلينا بَيْن بُرد ومِجْسَد
فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها ، وتفيد هذه الجملة أيضاً أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد ، على ما في قوله { وتركهم } من إفادة تحقيرهم ، وما في جمع { ظلمات } من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمناً من جملة { ذهب الله بنورهم } وما يقتضيه جمع { ظلمات } من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي .
وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل .
وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئاً كان مقارناً له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع . وكثيراً ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها ، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازاً عن معنى صَيَّر أو جَعَل . قال النابغة :
فلا تتركّني بالوعيد كأنني *** إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجرب
أي لا تصيرني بهذه المشابهة ، وقول عنترة :
جادت عليه كل عينٍ ثرةٍ *** فترَكن كل قرارة كالدرهم
يريد صيرن ، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة ، أو عن تحقيره كما في هذه الآية .
والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صيَّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولاً ، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالاً ، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولاً إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظاً .
وجمع { ظلمات } لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى : { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } [ الأنعام : 63 ] وقول النبيء صلى الله عليه وسلم « الظلم ظلمات يوم القيامة » فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } في سورة الفرقان ( 14 ) ، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم ، للواحد ، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم ، وصيغة الجمع من ذلك القبيل ، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفرداً ، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقاً في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } في سورة الأنعام ( 1 ) بخلاف قوله تعالى : { في ظلمات ثلاث } [ الزمر : 6 ] فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث . ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد ، ويتعين في هذه الآية أن جمع ( ظلمات ) أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر ، وحالة الكذب ، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين ، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق .
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامُه قبل الانتفاع به ، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نوراً وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكَذب وما يتفرع عن النفاق من المذام ، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوَّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم .
وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة : { لا يبصرون } لتصوير حال من انطفأَ نورُه بعد أن استضاء به .
ومفعول { لا يبصرون } محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدَّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم ، كقول البحتري :
شَجْوُ حساده وغيظُ عداه *** أن يَرى مبصرٌ ويسمَعَ واعٍ
وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتماداً على فطنة السامع لأنه يَمْخَضه من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 ] الخ ومما يتضمنه المثَلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها ، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم : { آمنا بالله } وقولهم : { إنما نحن مصلحون } [ البقرة : 11 ] وقولهم عند لقاء المؤمنين : { آمنا } [ البقرة : 14 ] أحوالٌ ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاةِ والصدقةِ مع المسلمين ويصدر منهم طيِّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبةَ حالةٌ تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه ، مُثِّلَ ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد ناراً ثم ذهب عنه نورها .
ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيأة المشبه بها ومقابلتها للهيأة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهاتٍ مفردة لكل جزء من هيأة أحوالهم بجزء مفرد من الهيأة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار ، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين ، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار ، وشبه كفرهم بالظلمات ، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم .