غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

101

ثم إنه سبحانه من كمال عنايته أراد أن يفرق بين الكفر اللساني وحده ، وبين اللساني المنضم إليه القلبي فقال : { من كفر بالله } ، اختلف العلماء في إعرابه ؛ فالأكثرون على أنه بدل إما من : { الذين لا يؤمنون بآيات الله } ، وما بينهما اعتراض ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر . واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : { ولكن من شرح بالكفر صدراً } ، أي : طاب منه نفساً واعتقده ، { فعليهم غضب } ، وإما من المبتدأ الذي هو : { أولئك } ، أو من الخبر الذي هو : { الكاذبون } . وقيل : منصوب على الذم ، أي : أخص ، وأعني من كفر . وجوّز بعضهم أن تكون : " من " ، شرطية ، والجواب محذوف ؛ لأن جواب من شرح دال عليه ، كأنه قيل : من كفر فعليه غضب إلا من أكره ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب . وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر ؛ لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً فلهذه المشاكلة صح الاستثناء .

قال ابن عباس : نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسراً وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم . فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجىء قبلها بحربة ، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت ، وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام . وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر فقال : كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه . فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن عادوا لك فعد لهم بما قلت . " فمن هنا حكم العلماء بأن الإكراه يجوّز التلفظ بكلمة الكفر . وحدّ الإكراه أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به ، كالتخويف بالقتل والضرب الشديد وسائر الإيلامات القوية . وأجمعوا على أن قلبه عند ذلك يجب أن يكون متبرئاً عن الرضا بالكفر وأن يقتصر على التعريض ما أمكن مثل أن يقول : إن محمداً كذاب ، يعني : عند الكفار . أو يعني به : محمداً آخر ، أو يذكره على نية الاستفهام ، بمعنى الإنكار . وإذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع . ولو ضيق المكره عليه حتى صرح بالكفر من غير تورية ، وطلب منه أن يقول لا أريد بقلبي سوى ما أذكره بلساني ، فههنا يتعين إما الكذب وإما توريط النفس للعذاب . فمن الناس من قال : يباح له الكذب حينئذ . ومنهم من قال : ليس له ذلك . واختاره القاضي ؛ لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً فوجب أن يقبح على كل حال . ولو خرج الكذب عن القبح لرعاية بعض المصالح ، لم يمتنع أن يفعل الله الكذب لمصلحة ما فلا يبقى وثوق بوعده وبوعيده . وللإكره مراتب منها : أن يجب الفعل المكره عليه ، كما لو أكرهه على شرب الخمر وأكل الميتة لما فيه من صون النفس مع عدم إضرار بالغير ولا إهانة لحق الله . ومنها أن يصير الفعل مباحاً لا واجباً ، كما لو أكره على التلفظ بكلمة الكفر لما روي أن بلالاً صبر على العذاب وكان يقول : أحد أحد حتى ملوه وتركوه ، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئسما فعلت بل عظمه ؛ ولأن في ترك التقية والصبر على القتل أو التعذيب إعزازاً للإسلام . ومنها أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم كما إذا أكره على قتل إنسان أو على قطع عضو من أعضائه ، فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية . وحينئذ لو قتل فللعلماء قولان : أحدهما : لا يلزم القصاص ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ؛ لأنه قتل دفعاً عن نفسه فأشبه قتل الصائل ، ولأنه كالآلة للمكره ولذلك وجب القصاص على المكره ، وثانيهما : - وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه - أن عليه القصاص ؛ لأنه قتله عدواناً لاستبقاء نفسه فصار كما لو قتل المضطر إنساناً فأكله . ومن الأفعال ما لا يمكن الإكراه عليه وهو الزنا ؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد ، وذلك يمنع من انتشار الآلة ، فلو دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا بالإكراه . والأصح أن الإكراه فيه متصوّر ، وأن الحد يسقط حينئذ ، وعن أبي حنيفة أنه إن أكرهه السلطان لم يجب الحد ، وإن أكرهه بعض الرعية وجب .

قال بعض الأصوليين : في قوله : { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، دلالة على أن محل الإيمان هو القلب ، فهو إما الاعتقاد إن كان الإيمان معرفة ، وإما كلام النفس إن كان تصديقاً . وانتصاب { صدراً } على التمييز وأصله . ولكن من شرح بالكفر صدره . فعدل إلى النصب للمبالغة ولبناء الكلام على الإبهام ثم التفسير .

/خ128