غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (249)

246

{ فلما فصل طالوت بالجنود } أصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي والمعنى : انفصل عن بلده مع الجنود . والجند الأعوان والأنصار وكل صنف من الخلق جند قال صلى الله عليه وسلم : " الأرواح جنود مجندة " روي أن طالوت قال لقومه : لا ينبغي أن يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزوج بامرأة لم يبن فيها . ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ . فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً . فقال نبيهم : على قول ، أو طالوت على الأظهر ، وذلك إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أو بالوحي إن كان نبياً { إن الله مبتليكم بنهرٍ } بما اقترحتموه من النهر . قيل في حكمة هذا ابتلاء : إنه لما كان من عادة بني إسرائيل مخالفة الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة ، أظهر الله علامة قبل لقاء العدو يتميز بها الصابر على الحرب من غير الصابر ، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو . عن ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين ، وعن قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين . ونهر بتحريك الهاء وتسكينها لغتان و{ مبتليكم } أي ممتحنكم . ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء ، وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه إنما يظهر ذلك بظهور الأفعال من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف ، لا جرم سمى التكليف ابتلاء . { فمن شرب منه فليس مني } هو كالزجر أي ليس بمتصل بي ولا بمتحد معي من قولهم " فلان مني " يريد أنه كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما ، أو ليس من أهل ديني وطاعتي ومن حزبي وأشياعي { ومن لم يطعمه } ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه . ومنه طعم الشيء لمذاقه . واعلم أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف أن لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث ؟ فقال أبو حنيفة : لا يحنث إلا إذا كرع في النهر . حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربك متصلاً بذلك الشيء . وقال الباقون : بل إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن هذا وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز مشهور ، فلما كان من المحتمل في اللفظ الأول أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلاً تحت النهي . ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال : { ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده } استثناء من قوله { فمن شرب منه فليس مني } ليصح النظم وإنما فصل قوله { ومن لم يطعمه } بين المستثنى والمستثنى منه للعناية . ومعنى الاستثناء الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع . والغرفة بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ملء الكف . عن ابن عباس : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ، ويحتمل منها . ولعل ذلك من معجزات نبي ذلك الزمان كما يروى عن نبينا صلى الله عليه وسلم من إرواء الخلق العظيم من الماء القليل ، ويحتمل أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه ولخدمه ولأن يحمله مع نفسه إلا أن قوله { بيده } لا يجاوب هذا الاحتمال { فشربوا منه } كرعوا فيه { إلا قليلاً منهم } وقرأ أبي والأعمش { إلا قليلٌ منهم } وهذا من باب الميل إلى المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم . فبهذا تميز الموافق عن المنافق والصديق عن الزنديق . يروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب فاسودت شفاههم وغلبهم العطش وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف فقوي قلبهم وصح أيمانهم وعبروا النهر سالمين . والمشهور أنهم كانوا على عدد أهل بدر لما روي أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : " أنتم اليوم على عدد أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن " . قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً . وقيل : إنهم كانوا أربعة آلاف . ولا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاعه ، وإنما الخلاف في أنهم رجعوا قبل عبور النهر أو بعده ، والحق أنه ما عبر معه إلا المطيعون لقوله تعالى { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } ولقوله : { فليس مني } أي ليس من أصحابي في سفري ، ولأن المقصود من الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي ، وإذا تميزا فالظاهر أنه لم يأذن للعاصين ، وصرفهم عن نفسه قبل أن يرتدوا عند لقاء العدو ، وقيل : إنه استصحب كل جنوده لأنهم قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه ، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق . والجواب لعل طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه ، سألوهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك ، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع المكالمة ، أو المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة ، أو المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين : منهم من يكره الموت ويغلب الخوف والجزع على طبعه وهم الذين قالوا : لا طاقة لنا ، ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب وهم الذين أجابوا بقولهم { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } أو أنهم لما شاهدوا قلة عسكرهم قال بعضهم : لا طاقة لنا اليوم . فلابد أن نوطن أنفسنا للقتل . وقال الآخرون : بل نرجو من الله الفتح والظفر . فكأن غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الآخرين التحريض على رجاء الفتح والظفر ، وكلا الغرضين محمود . والطاقة اسم بمنزلة الإطاقة . يقال : أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار إغارة والاسم الغارة ، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة . وفي المثل " أساء سمعاً فأساء جابة " أي جواباً ومعنى قوله { يظنون أنهم ملاقوا الله } يغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت . عن قتادة : أو يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك أن أحداً لا يعلم عاقبة أمره ، وعن أبي مسلم : أوَتظنون أنهم ملاقو طاعة الله من غير رياء وسمعة وبنية خالصة ، أو أنهم عرفوا مما في التابوت من الكتب الإلهية يقين النصر والظفر إلا أن حصول ذلك في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل الظن ، أو المراد بقوله { يظنون } يعلمون ويوقنون لما بين اليقين والظن من المشابهة في تأكد الاعتقاد ، والفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة ، وقال الزجاج : هي من قولهم " فأوت رأسه بالسيف " وفأيت أي قطعت كأن الفئة قطعة من الناس . والمراد تقوية قلوب الذين قالوا : لا طاقة لنا إذ العبرة بالتأييد الإلهي والنصرة الإلهية ، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة ، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة ، ومحل { كم } رفع بالابتداء و{ غلبت } الجملة خبره ، { بإذن الله } بتيسيره وتسهيله . { والله مع الصابرين } بالمعونة والتأييد يحتمل أن يكون من قوله تعالى وأن يكون من قول الذين يظنون .

/خ251