القصة الخامسة ذكر عاقبة أمر عيسى ثم شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات فهم بماذا عاملوه فقال : { فلما أحس } أي علم
{ عيسى منهم الكفر } علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ، أو أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك بأذنه . قال السدي : لما بعثه الله تعالى رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ، وكان مستضعفاً فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل على رجل في قرية فأحسن ذلك الرجل ضيافته . وكان في تلك المدينة رجل جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً فسأله عيسى عن السبب فقال : إن من عادة هذا الملك أنه جعل على كل رجل منا يوماً نطعمه ونسقيه مع جنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر عليّ .
فلما سمعت مريم ذلك قالت : يا ولدي ادع الله ليكفي ذلك . فقال عليه السلام : يا أمي إني إن فعلت ذلك كان فيه شر . فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه . فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ثم أعلمني . فلما فعل دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً ، وما في الخوابي خمراً . فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذه الخمر ؟ فتوقف الرجل في الجواب وتعلل ، فلم يزل يطالبه حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعاه حتى يحيي ولدي أجابه - وكان ابنه قد مات في تلك الأيام - فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال له عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش كان شراً عليه - فقال : ما أبالي ما كان ، فدعا الله فعاش الغلام لكلام عيسى عليه السلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً . وقصد اليهود قتله صلى الله عليه وسلم وأظهروا الطعن فيه . وقيل : إن اليهود كانوا عارفين أنه هو المسيح المبشر به في التوراة أنه ينسخ دينهم فكانوا طاعنين فيه من أول الأمر طالبين قتله { قال من أنصاري إلى الله } قيل : إنه لما دعا عليه السلام بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه السلام فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بطائفة صيادي السمك - منهم شمعون ويعقوب من جملة الحواريين الإثني عشر - فقال عيسى عليه السلام : إنكم تصيدون السمك فهل لكم أن تسيروا بحيث تصيدون الناس لحياة الأبد ؟ فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى عليه السلام بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى . وقيل : إن اليهود لما طلبوه في آخر أمره للقتل وكان هو في الهرب منهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم . ومما يذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى ، سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه فقال له عيسى : حسبك ثم أدنى عليه السلام أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت . والحاصل أن المراد بطلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه عليه السلام . وقيل : إنه دعاهم إلى القتال مع القوم كما قال في موضع آخر { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين }[ الصف : 14 ] . ومعنى { إلى الله } قيل : من يضيف نصرته إياي إلى نصر الله عز وجل إياي ؟ وقيل : من أنصاري إلى أن أظهر دين الله . فالجار على القولين من صلة { أنصاري } مضمناً معنى الإضافة . وقيل : من أنصاري حال ذهابي إلى الله ؟ أو حال التجائي إليه ؟ وقيل : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إلى رحمته ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى : " اللهم منك وإليك " أي تقرباً إليك . فالجار على هذين القولين يتعلق بالمحذوف . وقيل : " إلى " بمعنى اللام . وقيل : بمعنى " في " أي في سبيل الله . وهذا قول الحسن . { قال الحواريون نحن أنصار الله } أعوان دينه ورسوله . وحواري الرجل صفيه وخالصته ومنه يقال للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونقاء بشرتهن . والحور نقاء بياض العين ، وحوّرت الثياب بيضتها ، والحواريّ واحد ونظيره الحوالي وهو الكثير الحيلة .
عن سعيد بن جبير : سموا بذلك لبياض ثيابهم . وعن مقاتل بن سليمان لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب . وقيل : لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ومنه قولهم " فلان نقيّ الجيب طاهر الذيل " للكريم " و " دنس الثياب " للئيم . وعن الضحاك : الذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري فعرّب . وأما أن الحواريين من هم فقيل : هم الذين يصطادون السمك فاتبعوا عيسى وآمنوا كما حكينا . وقيل : إن أمه دفعته إلى صبّاغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه فغاب الصبّاغ يوماً لبعض مهماته فقال : ههنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان . فطبخ عيسى عليه السلام حباً واحداً وجعل الجميع فيه . وقال : كوني بإذن الله كما أريد . فرجع الصباغ وسأله فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت عليّ الثياب قال : قم فانظر . فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما يريد . فتعجب الحاضرون منه وآمنوا فهم الحواريون . وقيل : كانوا اثني عشر اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك ؟ فقال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه . قال : فصاروا يغسلون الثياب فسموا حواريين . وقيل : إن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة . فكانت القصعة لا تنقص . فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال : تعرفونه ؟ قالوا : نعم . فذهبوا إليه بعيسى فقال : من أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم . قال : فإني أترك ملكي فأتبعك . فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هو الحواريون .
قال القفال : يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين ، وسموا جميعاً بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى والمخلصين في محبته وطاعته . { آمنا بالله } يجري مجرى السبب لقولهم : { نحن أنصار الله } فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه { واشهد بأنا مسلمون } منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه . أو هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء عليهم السلام ، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون للأمم يوم القيامة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.