غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

42

القصة الخامسة ذكر عاقبة أمر عيسى ثم شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات فهم بماذا عاملوه فقال : { فلما أحس } أي علم

{ عيسى منهم الكفر } علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس ، أو أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك بأذنه . قال السدي : لما بعثه الله تعالى رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم ، وكان أمر عيسى في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ، وكان مستضعفاً فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل على رجل في قرية فأحسن ذلك الرجل ضيافته . وكان في تلك المدينة رجل جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً فسأله عيسى عن السبب فقال : إن من عادة هذا الملك أنه جعل على كل رجل منا يوماً نطعمه ونسقيه مع جنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر عليّ .

فلما سمعت مريم ذلك قالت : يا ولدي ادع الله ليكفي ذلك . فقال عليه السلام : يا أمي إني إن فعلت ذلك كان فيه شر . فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه . فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ثم أعلمني . فلما فعل دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً ، وما في الخوابي خمراً . فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذه الخمر ؟ فتوقف الرجل في الجواب وتعلل ، فلم يزل يطالبه حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعاه حتى يحيي ولدي أجابه - وكان ابنه قد مات في تلك الأيام - فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال له عيسى : لا تفعل فإنه إن عاش كان شراً عليه - فقال : ما أبالي ما كان ، فدعا الله فعاش الغلام لكلام عيسى عليه السلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً . وقصد اليهود قتله صلى الله عليه وسلم وأظهروا الطعن فيه . وقيل : إن اليهود كانوا عارفين أنه هو المسيح المبشر به في التوراة أنه ينسخ دينهم فكانوا طاعنين فيه من أول الأمر طالبين قتله { قال من أنصاري إلى الله } قيل : إنه لما دعا عليه السلام بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه السلام فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بطائفة صيادي السمك - منهم شمعون ويعقوب من جملة الحواريين الإثني عشر - فقال عيسى عليه السلام : إنكم تصيدون السمك فهل لكم أن تسيروا بحيث تصيدون الناس لحياة الأبد ؟ فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى عليه السلام بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤوا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى . وقيل : إن اليهود لما طلبوه في آخر أمره للقتل وكان هو في الهرب منهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم . ومما يذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى ، سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه فقال له عيسى : حسبك ثم أدنى عليه السلام أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت . والحاصل أن المراد بطلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه عليه السلام . وقيل : إنه دعاهم إلى القتال مع القوم كما قال في موضع آخر { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين }[ الصف : 14 ] . ومعنى { إلى الله } قيل : من يضيف نصرته إياي إلى نصر الله عز وجل إياي ؟ وقيل : من أنصاري إلى أن أظهر دين الله . فالجار على القولين من صلة { أنصاري } مضمناً معنى الإضافة . وقيل : من أنصاري حال ذهابي إلى الله ؟ أو حال التجائي إليه ؟ وقيل : من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إلى رحمته ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى : " اللهم منك وإليك " أي تقرباً إليك . فالجار على هذين القولين يتعلق بالمحذوف . وقيل : " إلى " بمعنى اللام . وقيل : بمعنى " في " أي في سبيل الله . وهذا قول الحسن . { قال الحواريون نحن أنصار الله } أعوان دينه ورسوله . وحواري الرجل صفيه وخالصته ومنه يقال للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونقاء بشرتهن . والحور نقاء بياض العين ، وحوّرت الثياب بيضتها ، والحواريّ واحد ونظيره الحوالي وهو الكثير الحيلة .

عن سعيد بن جبير : سموا بذلك لبياض ثيابهم . وعن مقاتل بن سليمان لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب . وقيل : لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ومنه قولهم " فلان نقيّ الجيب طاهر الذيل " للكريم " و " دنس الثياب " للئيم . وعن الضحاك : الذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري فعرّب . وأما أن الحواريين من هم فقيل : هم الذين يصطادون السمك فاتبعوا عيسى وآمنوا كما حكينا . وقيل : إن أمه دفعته إلى صبّاغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه فغاب الصبّاغ يوماً لبعض مهماته فقال : ههنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان . فطبخ عيسى عليه السلام حباً واحداً وجعل الجميع فيه . وقال : كوني بإذن الله كما أريد . فرجع الصباغ وسأله فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت عليّ الثياب قال : قم فانظر . فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما يريد . فتعجب الحاضرون منه وآمنوا فهم الحواريون . وقيل : كانوا اثني عشر اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا : عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك ؟ فقال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه . قال : فصاروا يغسلون الثياب فسموا حواريين . وقيل : إن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة . فكانت القصعة لا تنقص . فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال : تعرفونه ؟ قالوا : نعم . فذهبوا إليه بعيسى فقال : من أنت ؟ قال : عيسى ابن مريم . قال : فإني أترك ملكي فأتبعك . فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هو الحواريون .

قال القفال : يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين ، وسموا جميعاً بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى والمخلصين في محبته وطاعته . { آمنا بالله } يجري مجرى السبب لقولهم : { نحن أنصار الله } فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه { واشهد بأنا مسلمون } منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه . أو هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء عليهم السلام ، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون للأمم يوم القيامة .

/خ60