/ { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون 186 } .
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } قال الراغب : هذه الآية من تمام الآية الأولى . لأنه لما حثّ على تكبيره وشكره على ما قيّضه لهم من تمام الصوم ، بين أن الذي يذكرونه ويشكرونه قريب منهم ، ومجيب لهم إذا دعوه ، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم .
قال الرازي : إن السؤال متى كان مبهما ، والجواب مفصلا ، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعيّن . فلما قال في الجواب { فإني قريب } علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات ، أي كما صرّحت به الرواية السابقة . و( القريب ) من أسمائه تعالى الحسنى . ومعناه القريب من عبده بسماعه دعاءه ، ورؤيته تضرّعَه ، وعلمه به ، كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } {[1022]} وقال : { وهو معكم أينما كنتم } {[1023]} وقال : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } {[1024]} .
/ قال الإمام تقيّ الدين بن تيمية ، عليه الرحمة ، في ( عقيدته الواسطية ) :
ودخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه ، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة . من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، علي على خلقه ، وهو معهم سبحانه أينما كانوا . يعلم ما هم عاملون . كما جمع بين ذلك في قوله : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير } {[1025]} . وليس معنى قوله : { وهو معكم أينما كنتم } أنه مختلط بالخلق ، فإن هذا لا توجبه اللغة . وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة . وخلاف ما فطر الله عليه الخلق . بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر أينما كان . وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه . مهيمن عليهم . مطلع إليهم . إلى غير ذلك من معاني ربوبيته . وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش ، وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة . ودخل في ذلك : الإيمان بأنه قريب من خلقه ، كما قال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . . . } الآية . وفي ( الصحيح ) عن النبي صلى الله عليه وسلم{[1026]} : ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) . وما ذكر في الكتاب والسنّة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوّه وفوقيته . . ! فإنه سبحانه ليس كمثله شيء{[1027]} / في جميع نعوته . وهو عليٌّ في دنوّه ، قريب في علوّه . . ! انتهى كلامه ، رحمه الله تعالى .
وقوله تعالى : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } تقرير للقرب وتحقيق له . ووعد للداعي بالإجابة . وقد قرئ في السبع بإثبات الياء في ( الداع ) و( دعان ) في الوصل دون الوقف ، وبالحذف مطلقا .
قال في ( القاموس وشرحه ) : الدعاء : الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير ، والابتهال إليه بالسؤال . ويطلق على العبادة والاستغاثة .
الثاني : فيما فسّر به قوله تعالى : { أجيب دعوة الداع } :
قال ابن القيم في ( زاد المعاد ) في هديه صلى الله عليه وسلم في سجوده ما نصه : وأمر يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء في السجود ، وقال{[1028]} : ( إنه قمن أن يستجاب لكم ) . وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود ؟ أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين . . ! وأحسن ما يحمل عليه الحديث ، أن الدعاء نوعان : دعاء ثناء ، ودعاء مسألة . والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين . والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين . والاستجابة أيضا نوعان : استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله ، / واستجابة دعاء المثني بالثواب . وبكل واحد من النوعين فسّر قوله تعالى : { أجيب دعوة الداع إذا دعان } . والصحيح أنه يعمّ النوعين . انتهى .
الثالث : فيمن هو الداعي المجاب :
قال الراغب : بين تعالى في هذه الآية إفضاله على عباده ، وضمن أنهم إذا دعوه أجابهم ، وعليه نبّه بقوله تعالى : { ادعوني أستجب لكم } {[1029]} . إن قيل : قد ضمن في الآيتين أن من دعاه أجابه ، وكم رأينا من داع له لم يجبه ! قيل : إنه ضمن الإجابة لعباده ، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا } {[1030]} ؛ وإنما عنى به الموصوفين بقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } {[1031]} وقوله : { وعباد الرحمان } {[1032]} الآيات ؛ وللدعاء المجاب شرائط وهي : أن يدعو بأحسن الأسماء ، كما قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } {[1033]} ، ويخلص النيّة ، ويظهر الافتقار ، ولا يدعو بإثم ، ولا بما يستعين به على معاداته . وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوّله وأعطاه . ومعلوم أن من هذا حاله فمجاب الدعوة . . ! اه .
وقال ابن القيّم ، عليه الرحمة ، أيضا في أول كتابه ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء / الشافي ) ما نصه ، بعد جمل : وكذلك الدعاء ، فإنه أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب . ولكن قد يتخلف عنه أثره . إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان . وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء . فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا . فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا . وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورَيْن الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها . كما في ( صحيح الحاكم ) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة . واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ! ) . فهذا دواء نافع مزيل للداء . ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته . وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها ، كما في ( صحيح مسلم ) من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[1034]} : ( أيها الناس ! إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا . وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ) فقال : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } [ 23/المؤمنون /51 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ 2/البقرة/ 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء : يا رب يا رب ! ومطعمه حرام ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنَّى يستجاب لذلك . . ؟ ) وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب ( الزهد ) لأبيه : ( أصاب بني إسرائيل بلاء ، فخرجوا مخرجا ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون إليّ أكفًّا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام ، الآن حين اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعدا . . ! )
ثم قال ابن القيّم رحمه الله : والدعاء من أنفع الأدوية . وهو عدوّ البلاء ، يدافعه ، ويعالجه ، ويمنع نزوله ، ويرفعه أو يخففه إذا نزل ، وهو سلاح المؤمن . كما روى الحاكم في / ( صحيحه ) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم الله وجهه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ، ونور السماوات والأرض ! ) وله مع البلاء ثلاث مقامات : أحدها ، أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه . الثاني ، أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد ، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا . الثالث ، أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه . . !
وقد روى الحاكم في ( صحيحه ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل . وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة ) ! . وفيه أيضا ، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل . فعليكم ، عباد الله ، بالدعاء ) ! . وفيه أيضا : من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يردّ القدرّ إلا الدعاء . ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) . . !
ثم قال ابن القيّم رضي الله عنه : ومن أنفع الأدوية الإلحاح في الدعاء . وقد روى ابن ماجة في ( سننه ) {[1035]} من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) ! وفي ( صحيح الحاكم ) من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تعجزوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد ) . وذكر الأوزاعيّ عن الزهريّ عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب الملحّين في الدعاء ) ! وفي كتاب ( الزهد ) للإمام أحمد عن قتادة قال : قال مورّق : ( ما وجدت للمؤمن مثلا إلا رجل في البحر على خشبة . فهو يدعو : يا رب يا رب ! لعل الله عز وجل أن ينجيه . . ! )
/ ثم قال ابن القيّم ، نور الله ضريحه : ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه ، أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة ، فيستحسر ويدع الدعاء . وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرسا ، فجعل يتعاهده ويسقيه . فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله . . ! وفي البخاري{[1036]} من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . يقول : دعوت فلم يستجب لي ! ) . وفي ( صحيح مسلم ) {[1037]} عنه : ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ! قيل : يا رسول الله ! ما الاستعجال ؟ قال : يقول : قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي ، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء ) . وفي ( مسند أحمد ) {[1038]} من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل . قالوا : يا رسول الله ! كيف يستعجل ؟ قال : يقول : قد دعوت لربي فلم يستجب لي ) .
وإذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب ، وصادف وقتا من أوقات الإجابة الستة وهي : الثلث الأخير من الليل ، وعند الآذان ، وبين الآذان والإقامة ، وأدبار الصلوات المكتوبة ، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة ، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم ، وصادف خشوعا في القلب ، وانكسارا بين يدي / الرب ، وذلاًّ له وتضرّعا ورقّة ، واستقبل الداعي القبلة ، وكان على طهارة ، ورفع يده إلى الله تعالى وبدأ بحمد الله والثناء عليه ، ثم ثنّى بالصلاة على محمد عبده صلى الله عليه وسلم ، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ، ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة وتملَّقَهُ ودعاه رغبة ورهبة ، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده ، وقدّم بين يدي دعائه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبدا . ولاسيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة ، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم . فمنها ما في ( السنن ) وفي ( صحيح ابن حبّان ) {[1039]} من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . . ! فقال : لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب ! ) وفي لفظ : ( لقد سألت الله باسمه الأعظم . ! ) وفي ( السنن ) {[1040]} و( صحيح ابن حبّان ) أيضا من حديث أنس بن مالك ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ورجل يصلي ثم دعا : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، لا إله إلا أنت المنّان بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ) ! وأخرج الحديثين أحمد في ( مسنده ) . وفي ( جامع الترمذي ) {[1041]} من حديث أسماء بنت يزيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اسم / الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم } [ 2 / البقرة /163 ] وفاتحة آل عمران { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وفي ( مسند أحمد ) {[1042]} و( صحيح الحاكم ) من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أَلِظُّوا بياذا الجلال والإكرام ) . يعني : تعلّقوا بها والزموها وداوموا عليها . وفي ( جامع الترمذيّ ) {[1043]} من حديث أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال : سبحان الله العظيم . وإذا اجتهد في الدعاء قال : يا حي يا قيوم . . ) ! وفيه أيضا من حديث أنس بن مالك قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال : يا حي يا قيوم ! برحمتك أستغيث ) .
وفي ( صحيح الحاكم ) {[1044]} من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن : البقرة وآل عمران وطه ) .
قال القاسم : فالتمستها فإذا هي آية الحيُّ القيوم . وفي ( جامع الترمذي ) {[1045]} و( صحيح الحاكم ) من حديث سعد بن أبي وقّاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دعوة ذي النون إذا دعا وهو في بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فإنه لم يدع بها رجل مسلم ، في شيء قط ، إلا استجاب الله له ) قال الترمذي : حديث صحيح . وفي ( صحيح الحاكم ) أيضا من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهمٌّ فدعا به يفرج الله عنه : دعاء ذي النون ) . وفي ( صحيحه ) أيضا عنه ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم / وهو يقول : هل أدلكم على اسم الله الأعظم ؟ دعاء يونس . فقال رجل : يا رسول الله ! هل كان ليونس خاصة ؟ فقال : ألا تسمع قوله { فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين } {[1046]} فأيّما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك ، أعطي أجر شهيد . وإن برأ ، برأ مغفورا له ! ) وفي ( الصحيحين ) {[1047]} من حديث ابن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم ) ! . وفي ( مسند الإمام أحمد ) {[1048]} من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ) . وفي ( مسنده ) أيضا{[1049]} ، من حديث عبد الله بن مسعود قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أصاب أحدا قط همٌّ ولا حزنُ فقال : اللهم ! إني عبدك ابن عبدك ابن أَمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك ، أو علّمته أحدا من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم / ربيع قلبي ، ونور بصري ، وجلاء حزني ، وذهاب همّي ! . إلا أذهب الله همّه وحزنه وأبدله مكانا فرحا . فقيل : يا رسول الله ! ألا نتعلّمها ؟ قال : بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ) .
وقال ابن مسعود : ( ما كرب نبيّ من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح ) .
ثم قال ابن القيّم : وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقبالُه على الله . أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته . أو صادف الدعاء وقت إجابة ، ونحو ذلك ، فأجيبت دعوته . فيظن الظانّ أن السر في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه مجرّدا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي . وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي فانتفع به . فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب كان غالطا . وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس . ومن هذا ، قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب . فيظن الجاهل أن السر للقبر . ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجَأ إلى الله . فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحب إلى الله . . !
ثم قال ابن القيّم : والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح . والسلاح بضاربه لا بحدّه فقط ! فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به ، والساعد ساعد قويّ ، والمانع مفقود ، حصلت به النكاية في العدو . . ! ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة ، تخلف التأثير . . ! فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء ، أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل التأثير . . !
ثم قال ابن القيّم : وهنا سؤال مشهور وهو : أن المدعو به إن كان قد قدّر لم يكن بدّ من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع . وإن لم يكن قد قدر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله . فظنت طائفة صحة هذا السؤال ، فتركت الدعاء وقالت : لا فائدة فيه ! وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم يتناقضون . فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب . / فيقال لأحدهم إن كان الشبع والريّ قد قدر لك فلا بد من وقوعهما ، أكلت أو لم تأكل . وإن لم يقدرا لم يقعا . أكلت أو لم تأكل . وإن كان الولد قدر لك ، فلا بد منه ، وطأتَ الزوجة والأَمَة أو لم تطأهما . وإن لم يقدّر لم يكن . فلا حاجة إلى التزويج والتسرّي . وهلمّ جرّا . . . فهل يقال : هذا عاقل أو آدميّ ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته . فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا . . !
وتكايس بعضهم . وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبّد المحض . يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما . . ! ولا فرق عند هذا الكيّس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب . وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ، ولا فرق . . ! وقالت طائفة أخرى أَكْيَسُ من هؤلاء : بل الدعاء علامة مجرّدة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة . فمتى وفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له ، وأمارة على أن حاجته قد قضيت . . ! وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء . فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر . . ! قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب ، والكفر والمعاصي مع العقاب ، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب له . . ! وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار ، والحرق مع الإحراق ، والإزهاق مع القتل ، ليس شيء من ذلك سببا البتة ، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا بمجرّد الاقتران العاديّ لا التأثير السببيّ . وخالفوا ، بذلك ، الحس والعقل والشرع وسائر طوائف العقلاء . بل أضحكوا عليهم العقلاء . . ! والصواب أن ههنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل ، وهو : إن هذا المقدور قدّر بأسباب ومن أسبابه الدعاء ، فلم يقدر مجرّدا عن سببه ولكن قدر بسببه ، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور . وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب ، وقدر الولد بالوطء ، وقدر حصول الزرع بالبذر ، / وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه . وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ، ودخول النار بالأعمال . وهذا القسم هو الحق ، وهذا الذي حُرِمَهُ السائل ولم يوفق له . وحينئذ ، فالدعاء ، من أقوى الأسباب . فإذا قدر وقوع المدعوّ به بالدعاء ، لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال ؛ وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب ! ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله وأفقههم في دينه ، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم . وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوّه . وكان أعظم جنده ، وكان يقول للصحابة : ( لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء ! ) وكان يقول : ( إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن همّ الدعاء ، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه . . ! )
فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة ، فإن الله سبحانه يقول : { ادعوني أستجب لكم } {[1050]} ، { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان } {[1051]} . وفي ( سنن ابن ماجة ) {[1052]} من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) . وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته ، وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه ، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه . . ! وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب ( الزهد ) أثرا : ( أنا الله لا إله إلا أنا ، إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى . وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد ! ) وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونِحَلِها على أن التقرّب إلى رب العالمين ، وطلب مرضاته ، والبر والإحسان إلى خلقه ، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير ؛ وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة / لكل شر . . ! فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة الله بمثل طاعته والتقرّب إليه والإحسان إلى خلقه ! وقد رتّب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة ، وحصول السرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ، ترتب الجزاء على الشرط ، والمعلول على العلّة ، والمسبب على السبب . وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع : فتارة يرتب الحكم الخبريّ الكونيّ والأمر الشرعيّ على الوصف المناسب له ، كقوله تعالى : { فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } {[1053]} ، وقوله { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } {[1054]} ، وقوله { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } {[1055]} وقوله : { إن المسلمين والمسلمات . . . إلى قوله والذّاكرين الله كثيرا والذّاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } {[1056]} . وهذا كثير جدا . . !
وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء : كقوله تعالى : { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم } {[1057]} وقوله : { وألو استقاموا على / الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } {[1058]} وقوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } {[1059]} ونظائره . . .
وتارة يأتي ب ( لام التعليل ) : كقوله : { ليدّبّروا آياته وليتذكّر أولوا الألباب } {[1060]} وقوله : { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } {[1061]} .
وتارة يأتي بأداة ( كي ) التي للتعليل ، كقوله : { كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم } {[1062]} . . .
وتارة يأتي ب ( باء السببية ) كقوله تعالى : { ذلك بما قدّمت أيديكم } {[1063]} وقوله : { بما / كنتم تعملون } {[1064]} و{ بما كنتم تكسبون } {[1065]} وقوله : { ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا } {[1066]} . . .
وتارة يأتي ب ( المفعول لأجله ) ظاهرا أو محذوفا ، كقوله : { فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكّر الأخرى } {[1067]} وكقوله تعالى : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } {[1068]} وقوله : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } {[1069]} أي كراهة أن تقولوا . . .
/ وتارة ب ( فاء السببية ) ، كقوله : { فكذّبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم } {[1070]} وقوله تعالى : { فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } {[1071]} ، وقوله : { فكذّبوهما فكانوا من المهلكين } {[1072]} ونظائره . . .
وتارة يأتي بأداة ( لمّا ) الدالة على الجزاء ، كقوله : { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } {[1073]} ونظائره . . .
وتارة يأتي ب ( إنّ ) وما عملت فيه ، كقوله : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } {[1074]} وقوله في ضد هؤلاء { إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين } {[1075]} . . .
وتارة يأتي بأداة ( لولا ) الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها ، كقوله : { فلولا أنه كان من المسبّحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } {[1076]} . . .
وتارة يأتي ب ( لو ) الدالة على الشرط ، كقول : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم } {[1077]} . . . .
/ وبالجملة : فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب ، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال . ومن تفقّه في هذه المسألة ، وتأملها حق التأمل ، انتفع بها غاية النفع ، ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا وتفريطا وإضاعة ؛ فيكون توكلّه عجزا ، وعجزه توكّلاً . . ! بل الفقيه كل الفقيه الذي يردّ القدر بالقدر ، ويدفع القدر بالقدر ، ويعارض القدر بالقدر . لا يمكن للإنسان أن يعيش إلا بذلك . . ! فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر . والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر . . ! وهكذا من وفّقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة . . ! فهذا وزن القدر المخوف في الدنيا وما يضادّه ، فرب الدارين واحد ، وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضا . ولا يبطل بعضها بعضا ، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ، ورعاها حق رعايتها . . ! والله المستعان .
ولكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه :
أحدهما أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم ، وما جرّبه في نفسه وغيره ، وما سمعه من أخبار الأمم قديما وحديثا .
ومن أنفع ما في ذلك : تدبر القرآن ، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ، وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصّلة مبينة ؛ ثم السنة فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني . ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما ، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما ، حتى كأنك تعاين ذلك عيانا . . ! وبعد ذلك ، فإذا تأملت أخبار الأمم ، وأيام الله في أهل طاعته وأهل عصيته ، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به . وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق ، وأن الرسول حق ، وأن الله ينجز وعده لا محالة . . ! فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر . . ! انتهى .
وقوله تعالى : { فليستجيبوا لي } أي : إذا دعوتهم للإيمان والطاعة . كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم { وليؤمنوا بي } أمر بالثبات على ما هم عليه { لعلهم يرشدون } أي : راجين إصابة الرشد وهو الحق .
الأول : قال الراغب : أوثر { فليستجيبوا } على ( فليجيبوا ) للطيفة وهي : أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة . فبيّن أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم . إن قيل : كيف جمع بين الاستجابة والإيمان ، وأحدهما يغني عن الآخر ، فإنه لا يكون مستجيبا لله من لا يكون مؤمنا ؟ قلنا : استجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي تتولاه الجوارح ، والإيمان هو الذي تقتضيه القلوب . وأيضا فإن الإيمان المعني ههنا هو الإيمان المذكور في قوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله . . . } {[1078]} الآية ! .
الثاني : قدمنا عن الراغب سرّ وصل هذه الآية بما قبلها ووجه التناسب ؛ وثمّت سر آخر قاله الحافظ ابن كثير . وعبارته :
وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، إرشاد إلى الاجتهاد / في الدعاء عند إكمال العدة ، بل وعند كل فطر . كما روى أبو داود الطيالسيّ في ( مسنده ) {[1079]} عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة ! . فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر جعل أهله وولده ودعا ) . وروى ابن ماجة{[1080]} عن عبد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن للصائم عند فطره دعوة ما تردّ . . ! وكان عبد الله يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي . . . ! ) وروى الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة{[1081]} : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول : بعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين ) .