محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} (222)

{ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهّرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين 222 } .

{ ويسألونك عن المحيض } وهو الدم الخارج من الرحم على وجه مخصوص في وقت مخصوص . ويسمى الحيض أيضا . أي : هل يسبب ويقتضي مجانبة مس من رأته ؟ { قل هو أذى } أي : الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه ، نفرة منه وكراهة له . { فاعتزلوا النساء في المحيض } أي : فاجتنبوا مجامعتهن في زمنه .

قال الراغب : في قوله تعالى : { هو أذى } تنبيه على أن العقل يقتضي تجنبه ، كأنه قيل : الحيض أذى وكل أذى متحاشى منه . ولما كان الإنسان قد يتحمل الأذى ولا يراه محرما ، صرح بتحريمه بقوله : { فاعتزلوا النساء } .

وروى الإمام أحمد ومسلم{[1269]} عن ثابت عن أنس رضي الله عنه : ( أن اليهود كانوا إذا حاضت / المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت . فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل { يسألونك عن المحيض قل هو أذى . . . } إلى آخر الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح . فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حضير وعبّاد بن بشر فقالا : يا رسول الله ! إن اليهود تقول كذا وكذا ، فلا نجامعهن ؟ فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما . فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما ) .

{ ولا تقربوهن حتى يطهرن } تأكيد لحكم الاعتزال ، وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهنّ ، لا عدم القرب منهن ، وكنى بقربانهنّ ، المنهيّ عنه ، عن مباضعتهنّ . فدل على جواز التمتع بهن حينئذ فيما دون الفرج .

( ففي الصحيحين ) {[1270]} عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كنت أرجّل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض ) .

وفيهما{[1271]} عنها أيضا قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ، ثم يقرأ القرآن ) .

وروى مسلم{[1272]} عنها أيضا قالت : ( كنت أشرب وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم / فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب . وأتعرّق العَرْق وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ ) .

وفي ( الصحيحين ) {[1273]} واللفظ لمسلم عن ميمونة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيّض ) .

وفي لفظ له : ( كان يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب ) .

وقوله تعالى : { حتى يطهرن } بيان لغاية الاعتزال . وقد قرئ في السبع : بفتح الطاء والهاء مع التشديد ، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة . والقراءة الأولى تدل صريحا على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { فإذا تطهرن . . . } إلخ . والقراءة الثانية وإن دلت على أن الغاية هو انقطاع الدم بناء على ما قيل : إن الطهر انقطاع الدم ، والتطهر الاغتسال إلا أنه لما ضم إليها قوله تعالى : { فإذا تطهّرن } صار المجموع هو الغاية ؛ وذلك بمنزلة أن يقول الرجل : لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار ، فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلّمه ! فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامه بالأمرين جميعا . وكذلك الآية لما دلت على وجوب الأمرين وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة إلا عند حصول الأمرين ، فمرجع القراءتين واحد ، كما بينا .

وقد روى مسلم{[1274]} عن عائشة : ( أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ؟ فقال : / تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فِرصة ممسكة فتطهر بها والفِرصة بالكسر : قطعة من صوف أو قطن أو غيره تتبع بها أثر الدم ) .

ثم آذن تعالى أن التطهر شرط في إباحة قربانهن ، لا يصح بدونه ، بقوله سبحانه : { فإذ تطهّرن فأتوهن من حيث أمركم الله } أي : فجامعوهن من المكان الذي أمركم الله بتجنّبه في الحيض وهو القُبُل ولا تتعدّوه إلى غيره . { إن الله يحب الثوابين } من الذنوب { ويحب المتطهرين } أي : المتنزّهين عن الفواحش والأقذار . كمجامعة الحائض والإتيان في غير المأتى . وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما نهوا عنه وتكرير الفعل لمزيد من العناية بأمر التطهّر .


[1269]:أخرجه مسلم في: 3 ـ كتاب الحيض، حديث 16 (طبعتنا).
[1270]:أخرجه البخاري في: 6 ـ كتاب الحيض، 2 ـ باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، حديث 210. ومسلم في: 3 ـ كتاب الحيض، حديث 10 (طبعتنا).
[1271]:أخرجه البخاري في: 6 ـ كتاب الحيض، 3 ـ باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، حديث 211. ومسلم في: 3 – كتاب الحيض حديث 15 (طبعتنا).
[1272]:أخرجه مسلم في: 3 ـ كتاب الحيض، حديث 14 (طبعتنا).
[1273]:أخرجه البخاري في: 6 ـ كتاب الحيض، 5 ـ باب مباشرة الحائض، حديث 214 ومسلم في: 3 ـ كتاب الحيض، حديث 3 (طبعتنا).
[1274]:أخرجه مسلم في: 3 ـ كتاب الحيض، حديث 61 (طبعتنا). وتمام الحديث: فقالت أسماء: (وكيف نطهَّر بها؟ فقال: سبحان الله! تطهّرين بها فقالت عائشة (كأنها تخفي ذلك): تتبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: تأخذ ماء فتطّهّر، فتحسن الطهور. أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه. حتى تبلغ شؤون رأسها. ثم تفيض عليها الماء. فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار! لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين).