محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

48 – سورة الفتح

سميت به لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق ، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر العزيز . وكل هذه أمور جليلة – أفاده المهايميّ- .

وآيها تسع وعشرون ، وهي مدنية . نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة ، عدة له بالفتح . قال أنس : ( لما رجعنا من الحديبية ، وقد حيل بيننا وبين نسكنا ، فنحن بين الحزن والكآبة ، فنزلت ) . واختلف في المكان الذي نزلت فيه ، فوقع عند محمد بن سعد ( بضَجْنان ) وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة . وعند الحاكم في – ( الإكليل ) - بكراع الغميم . وعن أبي معشر ( بالجحفة ) .

قال الحافظ ابن حجر : والأماكن الثلاثة متقاربة . وروى البخاري أن ( النبي صلى الله عليه وسلم قال- وهو في بعض أسفاره – لعمر : لقد أنزلت عليّ الليلة سورة ، لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ) .

وأخرج أيضا عن عبد الله بن مغفّل قال : ( قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح ، فرجّع فيها ) .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا 1 } .

{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا } قال الرازي : في الفتح وجوه :

أحدها – فتح مكة ، وهو ظاهر .

وثانيها – فتح الروم وغيرها .

وثالثها – المراد من الفتح ، صلح الحديبية .

ورابعها – فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان .

وخامسها – المراد منه الحكم ، كقوله :{[6603]} { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } ، وقوله :{[6604]} { ثم يفتح بيننا بالحق } . انتهى .

ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها ، مما يصدق عليها الفتح الربانيّ ، وجميعها مما تحقق مصداقه . إلا أن سبب نزول الآية ، الذي حفظ الثقات زمنه ، يبين المراد من الفتح بيانا لا خلاف معه ، وهو أنه الوجه الثالث المذكور .

قال الإمام ابن كثير : نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ، ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك ، على تكرّه من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهم ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى . فلما نحر صلى الله عليه وسلم هدية حيث أُحْصِرَ ورجع ، أنزل الله عز وجل / هذه السورة ، فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحا ، باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : ( إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية ) . وعن جابر رضي الله عنه قال : ( ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية ) . وروى البخاري{[6605]} عن البراء رضي الله عنه قال : ( تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ، يوم الحديبية ) .

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : ( نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } مرجعه من الحديبية . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : لقد أنزلت عليّ آية أحبّ إليّ مما على الأرض ، ثم قرأها عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ) – أخرجاه في ( الصحيحين ) {[6606]} من رواية قتادة به - .

وروى الإمام أحمد {[6607]} عن مجمّع بن جارية الأنصاريّ رضي الله عنه – وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن – قال : ( شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس ينفرون الأباعر . فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نرجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } .

قال ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله ! أو فتح هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أي والذي نفس محمد بيده ! إنه لفتح ) . ورواه أبو داود في الجهاد .

ثم قال ابن كثير : فالمراد بقوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } - أي بينا ظاهرا- هو صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وأَمِنَ الناس ، واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان . انتهى .

/ وقال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ، ما مثاله :

كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم ، أَمِنَ الناس به ، وكلّم بعضهم بعضا وناظره في الإسلام ، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه ، والدعوة إليه ، والمناظرة عليه ، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام . ولهذا سماه الله فتحا في قوله : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } نزلت في الحديبية ، فقال عمر : ( يا رسول الله ! أو فتح هو ؟ قال : نعم ) . وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحا قريبا . وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها ، المنبئة لها وعليها ، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب ، قصة زكريا ، وخلق الولد له ، مع كونه كبيرا ، لا يولد لمثله . وكما قدم بين يدي نسخ القبلة ، قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به ، وذكر بانيه ، وتعظيمه ومدحه . ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له ، وقدرته الشاملة له . وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل ، وبشارات الكهان به ، وغير ذلك . وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة . وكذلك الهجرة ، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد . ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر ، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب . انتهى .


[6603]:[7/ الأعراف/ 89].
[6604]:[34 /سبأ/ 26].
[6605]:أخرجه البخاري في: 64 – كتاب المغازي، 35 – باب غزوة الحديبية، حديث 1686.
[6606]:أخرجه مسلم في: 32 – كتاب الجهاد، حديث 97(طبعتنا(.
[6607]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 420 من الجزء الثالث(طبعة الحلبي(.