محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (9)

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين 9 } .

{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } أي تقاتلوا { فأصلحوا بينهما } قال ابن جرير :{[6673]} أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضا بما فيه ، لهما وعليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل .

{ فإن بغت إحداهما على الأخرى } أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله ، له وعليه ، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه ، وأجابت الأخرى منهما ، { فقاتلوا التي تبغي } أي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله { حتى تفيء إلى أمر الله } أي ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه { فإن فاءت } أي رجعت الباغية ، بعد قتالكم إياهم ، إلى الرضا بحكم الله في كتابه { فأصلحوا بينهما بالعدل } أي بالإنصاف بينهما ، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه { وأقسطوا } أي اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون . { إن الله يحب المقسطين } أي فيجازيهم أحسن الجزاء .

تنبيهات :

الأول – قال القاشانيّ : الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا ، والركون إلى الهوى ، والانجذاب إلى الجهة السفلية ، والتوجه إلى المطالب الجزئية . والإصلاح إنما يكون من / لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة ، التي هي ظل الوحدة . فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما ، على تقدير بغيهما . والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما ، حتى ترجع . لكون الباغية مضادة للحق ، دافعة له .

وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي ، لا بالسيوف ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح ، روي ذلك من طرق عديدة ، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقيا .

ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة ، والقتال بمعنى الدفع مجازا . قال- فيما رواه الطبري {[6674]} عنه - : كانت تكون الخصومة بين الحيين ، فيدعوهم إلى الحكم ، فيأبون أن يجيبوا ، فأنزل الله { وإن طائفتان } إلى قوله { فقاتلوا التي تبغي . . . } الآية . يقول : ادفعوا إلى الحكم ، فكان قتالهم الدفع . انتهى .

ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما . وقد قال اللغويون : ليس كل قتال قتلا . وقد يفضي الخصام إلى القتل ، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم ، لتكون الفائدة أشمل – والله أعلم

الثاني – في ( الإكليل ( : في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي ، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم ، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل ، لقوله : { حتى تفيء } . انتهى .

وقد روى سعيد عن مروان قال : ( صرخ صارخ لعليّ يوم الجمل : لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ) .

وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم ، وأنه لا يغنم لهم مال ، ولا تسبى لهم ذرية ، لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم . وعصمة الأموال تابعة لدينهم ، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم . ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال . ومن قتل من أهل / البغي غسل وكفن وصلي عليه ، فإن قتل العادل كان شهيدا ، فلا يغسل ولا يصلى عليه ، لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به ، كشهيد معركة الكفار .

وإن أظهر قوم رأي الخوارج . مثل تكفير من ارتكب كبيرة ، وترك الجماعة ، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم ، ولم يجتمعوا لحرب ، لم يتعرّض لهم . وإن جنوا جناية وأتوا حدّا ، أقامه عليهم .

وإن اقتتلت طائفتان لعصبية ، أو طلب رئاسة ، فهما ظالمتان . لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى ، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلف على الأخرى .

هذه شذرة مما جاء في ( الإقناع ) و ( شرحه ) وتفصيله ثمة .

الثالث- قال في ( شرح الإقناع ( : في الآية فوائد : منها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان . وأنه أوجب قتالهم . وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم . وإجازة كل من منع حقا عليه . والأحاديث بذلك مشهورة . منها ما روى عبادة بن الصامت قال : ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في المنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله ) ( متفق عليه ( {[6675]} . وأجمع الصحابة على قتالهم ، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة ، وعليّا قاتل أهل الجمل ، وأهل صفّين . انتهى .

وتدل الآية أيضا على وجوب معاونة من بغي عليه ، لقوله : { فقاتلوا } ، وعلى وجوب تقديم النصح ، لقوله : { فأصلحوا بينهما } ، وعلى السعي في المصالحة ، وذلك ظاهر .

الرابع – وجه الجمع في { اقتتلوا } ، مع أنه قد يقال : مقتضى الظاهر ( اقتتلتا ) هو الحمل على المعنى دون اللفظ ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس . والنكتة في اعتبار المعنى أولا ، / واللفظ ثانيا عكس المشهور في الاستعمال ، ما قيل إنهم أولا في حال القتال مختلطون مجتمعون ، فلذا جمع أولا ضميرهم ، وفي حال الإصلاح متميزون متفارقون ، فلذا ثنى الضمير ثانيا . وسِرُّ قرن الإصلاح الثاني بالعدل ، دون الأول ، لأن الثاني لوقوعه بعد المقاتلة مظنة للتحامل عليهم بالإساءة ، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم .

الخامس – ( أقسط ) الرباعيّ همزته للسلب . أي أزيلوا الجور ، واعدلوا . بخلاف ( قسط ) الثلاثي ، فمعناه جار . قال {[6676]} تعالى : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } وهذا هو المشهور – خلافا للزجاج – في جعلهما سواء – أفاده الكرخيّ - .


[6673]:انظر الصفحة رقم 127 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(.
[6674]:انظر الصفحة رقم 128 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(
[6675]:أخرجه البخاري في: 92 – كتاب الفتن، 2 – باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (سترون بعدي أمورا تنكرونها)حديث رقم 2547. وأخرجه مسلم في: 33 –كتاب الإمارة، حديث 41 و 42( طبعتنا(.
[6676]:[72 / الجن / 15].